الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر القاضى الفاضل وفقر من ترسّله
هو القاضى الفاضل عند اسمه، الآخذ من درجة السبق فى الفضيلة بأوفر من نصيبه وقسمه، عبد الرحيم بن على البيسانى. قال:«أنفذنى والدى من عسقلان إلى الديار المصرية أيام الفتنة بوزارة شاور، وكتب على يدى كتاب إلى صاحب ديوان الترسل، وكان يعرف بابن الخلال. فلما مثلت بين يديه، وقرأ الكتاب، وفهم أنى من طلبة علمه قال لى: «يا ولدى ما الذى اعتدته وحصلته لهذه الصناعة؟» قلت: «حفظ كتاب الله العزيز وكتاب الحماسة» . قال: «إن فيهما لكفاية، مع ما أرى من نجابتك» .
ثم ترقت به الأحوال إلى أن صار منه ما شاع وذاع، وشنف بذكر محاسنه الأسماع.
وإن كان آخر فقد تقدم بفضله على الأوائل، وعبر على وجه قس وسحبان وائل.
لا أعلم بالمشرق والمغرب مثله، وعنوان عجائبه مثل قوله: ووافينا قلعة نجم وهى نجم فى سحاب، وعقاب فى عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل.
كان الهلال لها قلامة. قلت: ما أحسن هذا الحل بالمعنى. وبعض اللفظ من قول ابن المعتز:
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا
…
مثل القلامة قد قدت من الظفر
فإن جل المنظوم على ثلاثة أضرب؛ الأول-وهو أقلهم رتبة-وذلك أن تحلّه بمعناه ولفظه؛ والثانى أعلى منه رتبة أن تحل ببعض لفظه وبمعناه؛ والثالث أن تحل بالمعنى دون اللفظ، وهو أفضل الثلاث، والله أعلم.
نقلت من حظ القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر-رحمه الله-يقول: نقلت من خط الأشرف بن الفاضل-رحمه الله-قال: اختار الله لجدى-رحمه الله-جواره ليلة الأحد الحادى عشر من شهر ربيع الأول، سنة ست وأربعين وخمسمائة. واختار الله
لعمى السعيد أبى الحسن جواره ليلة الجمعة الثانى والعشرين من جمادى الآخرة، سنة تسع وخمسين وخمسمائة بالقاهرة، ودفن بسارية. واختار الله لعمى الفتح جواره بالإسكندرية ليلة الثلاثاء تاسع وعشرين شعبان سنة أربع وتسعين وخمسمائة. واختار الله لسيدى والدى رحمه الله-يعنى الفاضل-جواره ليلة الأربعاء السابع من شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين بالقاهرة، ودفن بسارية.
ومن فقر القاضى الفاضل رحمه الله-وهو من باب المرقص فى النثر- «لبد الماء فى اللبابيد فثقل وزنها، وانعكس فيها التشبيه فصار كالجبال عهنها» .
وقوله فى فتح طبرية: فلما نظر إليها مالكها، وقد جعلنا عاليها سافلها، وأيقظنا بصياح السيف نائمها، وأنبهنا غافلها. . .
وقوله: وافى الأصطول الميمون فى خمسين غرابا طائرا من القلوع بأجنحته، كاسرا بمخاليب أسلحته، فما وافى شملا إلا دعاه إلى الحسين، وحقق ما يعزى إلى غراب البين.
وقوله: وأخذنا بالحزم، فسرنا إليهم سرى الطيف، واختطفناهم قبل بكور الغراب بمنشر الرمح، وخناج السيف.
وقوله: من حمل السنين ثقلت على ظهره، ومن قصرت خطاه اتسعت إلى قبره.
وقوله: وقد أثر هذا البيكار فى استطاعتهم لا فى طاعتهم. وقوله فى التوسط بين الإخوة الملوك-وهما العزيز والأفضل-حسبما تقدم من ذكرهم: وما أدخل بينكم إلا كدخول الميل بين الأجفان يرد إليها ما ذهب من الغمض، وكالنسيم بين الأغصان يميلها ويعطف بعضها على بعض.
وقوله فى ملك الاسبتار: جهول، عجول، ما أدبه الوالدان، ولا أخلقته
الجديدان، أرعن من سكر الحداثة، مقسم الرأى، وكيف لا يكون مقسمه وهو عابد الثلاثة.
وقوله فى الدعاء للسلطان: جعل الله الأرض التى يملكها منقلة، والأرض التى يطؤها مقبلة، والأرض التى يجر عليها عسكره مثقلة، والأرض التى يلقى فيها أعداءه مقتلة.
وقوله فى أمثاله: عضة المحبّ ولا قبلة الجانى!
وقوله: الركوب على الخنافس، ولا المشى على الطنافس!
وكتب إلى السلطان صلاح الدين من مصر فى أثناء مكاتبة، وذكر النيل، وعرض بما أظهره الملك العزيز ولده من تأمين السبل فقال: وأما النيل، فكما قال جميل، قد امتدت أصابعه، وتكسرت بالموج أضالعه، واحمرّ صفحه الحاكى مذاقه جنى النحل، فكأنه سيف ظل به دم المحل. وحيثما توجه المسافر يلقاه، وليس بمصر قاطع طريق سواه.
وكتب إلى عامل تشكّى منه: وقد وصل أهل عملك، يشكون سوء عملك، فإن كان الاختيار صدفك فإن الاختبار صرفك.
وله فى جملة رسالة يقول: ولو كاتبت سيدنا بمقدار شوقى إليه لأضجرته، ولو أغيبته بقدر ثقتى به لهجرته.
ومن مليح شعره وقد أعرقته الحمى يقول:
لا تنكروا عرق المريض فإنه
…
لضرورة أمست إليه داعية
فلكل عضو مقلة من حقها
…
طول البكاء على فراق العافية
وقوله فى الغزل:
ولما بدا خط بخد معذبى
…
كظلمة ليل فى ضياء نهار
خلعت عذارى فى هواه ولم أزل
…
خليع عذار فى جديد عذار
قلت: وقفت على ترسل ابن الصيرفى المصرى-وكان إمام الكتاب بالديار المصرية فى المائة الخامسة-ولعل الحاذق الفطن إذا أمعن النظر فى ترسّل هذا الرجل المذكور، يجد القاضى الفاضل مستمدّا منه.
ومن ملح ترسله قوله: وجاءت غربان الماء تحكى قطع السحاب فى أديم السماء، يحسب الناظر أنها ركائب قد طفت فى بحر السراب، أو جفون محدقة والمجاديف لها أهداب.
ونظرت فى مجموع بيتين فى غاية الرقة. يقول جامعه: هو لابن الصيرفى-فما أعلم هو هذا ابن الصيرفى أم غيره-وهما:
توهمه قلبى فأصبح خده
…
وفيه مكان الوهم من نظرى أثر
ومرّ بقلبى خاطرا فجرحته
…
ولم أر جسما قط يجرحه الفكر
ومن المحفوظ فى المعنى:
نظرت إليه نظرة فتحيّرت
…
دقائق فكرى فى بديع صفاته
فأوحى إليه القلب أنى أحبه
…
فأثر ذاك الوهم فى وجناته
ومن المحفوظ أيضا:
دعوت بماء فى إناء فجاءنى
…
غلام به خمر فأوسعته زجرا
فقال هو الماء القراح وإنما
…
تجلّى له خدى فأوهمك الخمرا
ومن المحفوظ أيضا:
وقد كنت مستعن بلحظك وحده
…
فكيف وفيه سبعة خيرها شرّ
سقام وأسد ضاريات وأسهم
…
وسمر القنى والسحر والسيف والخمر
فماذا تقل فيمن حوى فيك أربع
…
بواحدة منهنّ ينفطر الصخر
فأيامه سود وبيض لحاظه
…
وأضلعه صفر وأدمعه حمر
ومن المحفوظ أيضا:
كأن فى فيه خمّارا ولأّلا
…
وبين جفنيه نفاثا ونبّالا
منوّع الحسن يبدى من محاسنه
…
لأعين الناس أصنافا وأشكالا
فلاح بدرا ووافى دمية ورنا
…
سيفا وماج نقا واهتز عبيالا
وافترّ درّا وغنّى بلبلا وذكا
…
مسكا وعنّ طلا وازورّ ريبالا
ومن المحفوظ أيضا فى ساق لسيف الدين المشدّ:
ساق تجلى كأنه قمر
…
على قوام أفديه من ساق
لما رآنى وقد فتنت به
…
من عظم وجدى وفرط أشواقى
شمّر عن ساقه غلائله
…
فقلت مهلا واكفف عن الباقى
غنى وكاس المدام فى يده
…
قامت حروب الهوى على ساق
ومن ذلك فى المعنى:
لم أنسه إذ قام يكشف عامدا
…
عن ساقه كالجوهر البرّاق
لا تعجبوا أن قام فيه قيامتى
…
إن القيامة يوم كشف الساق
ولنعود الآن إلى سياقة التاريخ بعون الله تعالى، وحسن توفيقه. وإنما قصدنا بإثبات هذه المقطعات لتنشيط القارئ، ولا يمل ويسأم من فنّ واحد، فإذا خرج به شجون الحديث من فنّ إلى فنّ، كان لزناد فكرته أقدح، ولطير نظرته أصدح.
قال الإمام علىّ-كرّم الله وجهه-: «إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، فابتغوا لجلائها طرائف الحكم» .
وقال سيدنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا» .
وفى هذه السنة اشتد الغلاء بمصر، وبلغ الأردب القمح مائة درهم، والشعير والفول من خمسين إلى ستين، فنعوذ بالله من أمثالها.
وفيها خطب باسم الملك الكامل ناصر الدين محمد مع اسم أبيه الملك العادل سيف الدين أبو بكر بالديار المصرية؛ ونقش ذلك على الدينار والدرهم.
وفيها عزل القاضى زين الدين، وأعيد إلى الحكم القاضى صدر الدين المقدم ذكره، وكان وجيها عند الملك الكامل.