الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة سبع وتسعين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ذراعان فقط. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر أصبعا.
ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الأمر، نافذ الحكم.
والسلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر وولده الملك الكامل، ملوك مصر والشام بأعمال دمشق وما معها مع الشرق، وما بأيديهما منه. وبقية الملوك أولاد السلطان صلاح الدين فى بلادهم مستمرين الممالك بها. والغلاء مستمر بمصر.
وفيها احترق البحر احتراقا عظيما، حتى نشف قدّام المقياس، وحفر قدامه، وارتدمت طاقات الماء، وجدد حفره، وكان ارتدم من بحر مصر شرقى الجزيرة.
وفيها قبض السلطان الملك العادل على أولاد أخيه؛ المؤيد والمعز، واعتقلهما فى دار بهاء الدين قراقوش.
وفيها كثرت الفقراء والصعاليك بمصر والقاهرة؛ وخلت الأرياف والضّياع، واشتد بالناس الجوع، وأكل بعضهم بعضا، وأكلوا الميتة، وفرق بعضهم على الأغنياء.
والتزم الملك العادل بمؤنة ستة آلاف نفر. وكان يموت بمصر والقاهرة كل يوم ما يزيد عن الستمائة والسبعمائة من الجوع.
وفيها لحق الملك الكامل جدرى، وعوفى منه.
وفيها خرج السلطان الملك العادل إلى البركة وخيّم بها، لما بلغه خروج الملك الظاهر صاحب حلب إلى منبج وملكها. وتوجه إلى قلعة نجم وحاصرها. واختلفت الناصرية على الملك العادل. وبلغه أن الظاهر نزل على دمشق، فتوجّه العادل من البركة، ووصل نابلس، وخيم بها. فلما بلغ الظاهر ذلك عاد إلى حلب. فنفّذ السلطان ولده الملك المعظم عيسى وقلده مملكة دمشق. ثم توجه العادل ودخل الشرق، واستولى على عدة ممالك، وهم: حرّان، والرها، وسروج، وجبل عوف، وميافارقين،
وسميساط. وملّك ميافارقين لولده الملك الأوحد نجم الدين، وعاد السلطان إلى مصر.
وفيها اشتد بالناس الغلاء، وهرب أكثر أهل مصر إلى الغرب وإلى الحجاز واليمن والشام وتفرقوا أيدى سبا. وكان ذلك أعظم مما جرى فى زمان المستنصر فى سنة عشر السبعين والأربعمائة حسبما ذكرناه فى سنيه.
وروى الناس من الثقاة، أن فى هذه السنة كان يقوم الرجل فيذبح ولده الصغير، وتساعده أمّه على طبخه، ويأكلونه. ولما اطلع السلطان على ذلك، مسك منهم جماعة فعلوه، فأمر بحرقهم، فأحرقوا بمشاهدة جميع الناس. وعادوا يفعلون ذلك، مع من يقدرون عليه وعلى تحصيله، مثل طبيب يدعى لينظر إلى مريض، فعندما يحصل فى الدار يثبوا عليه فيقتلونه ويأكلونه. وكذلك مثل مزين، وجرائحى، وسائر أرباب الصنائع، الذين يستدعون إلى المنازل ليصنعوا شيئا من صنائعهم، فيفعلون به كذلك، وعادوا يختطفون الصغار والصبيان من الحارات والأزقة. وحصر من كفّنه السلطان فى مدة عشرة أيام فكانوا مائة ألف وعشرين ألف. وصلى خطيب الإسكندرية فى يوم واحد على سبعمائة جنازة من أعيان الناس، خارج عمن لا يعبأ به.
وكان أشد الغلاء والوباء بالديار المصرية فى شهر رمضان، بلغ فيه القمح سبعة دنانير مصرية الأردب، والشعير والفول خمسة. ولا عاد يوجد شئ من سائر الحبوب، وآلت مصر إلى الخراب الكلى، لولا لطف الله بعباده. وطلع نيلها فاطمأنت نفوس الناس قليلا.
وفيها كانت الزلزلة العظيمة فى شهر شعبان، أتت من نحو الصعيد، فعمت الدنيا فى ساعة واحدة، وهدمت بنيان مصر، حتى عدم تحت الهدم عالم عظيم. ثم وصلت بالشام والساحل، وهدمت نابلس، حتى لم يبق بها جدار قائم إلاّ حارة السّمرة.
(11 - 7)
وهلك تحت الردم ثلاثون ألف إنسان. وكذلك هدمت عكا وصور، مع قلاع الساحل.
وامتدت إلى دمشق، فهدمت بعض المنارة بجامع بنى أمية، وأكثر الكلاسة، والبيمارستان النورى. وهرب الناس إلى الميادين. وسقط من الجامع ستة عشر شرافة، وانشقت قبة النسر. وامتدت إلى بانياس وهونين. وخرج قوم من أهل بعلبك سائرين فى طريقهم، فسقط عليهم جبلا، فهلكوا تحته. وهدمت أكثر قلعة بعلبك مع عظيم بنائها. وامتدت إلى حمص وحماة وحلب. وقطعت البحر إلى قبرص، وانفرق البحر فصار أطوادا، وقذف بالمراكب إلى الساحل، وتكسرت منه عدة مراكب.
ثم وصلت إلى أخلاط وأرمينية وأذربيجان والجزيرة. ووصلت إلى العجم، فأحصى من هلك فى بلادها تحت الردوم، فقيل كان ألف ألف ومائة ألف. وكان قوة الزلزلة فى مبتدأ أمرها أقامت بقدر ما يقرأ الإنسان سورة الكهف، ثم عاودت بعد ذلك أياما.
وفيها توفى الشيخ جمال الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن على بن عبد الله بن حماد ابن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزى بن عبد الله بن القاسم بن النظر بن القاسم بن محمد ابن عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق، رضى الله عنه. وهو ابن الجوزى الواعظ المشهور. وقيل إن أباه توفى وتركه وهو ابن ثلاث سنين. وكان له عمة صالحة، وكان أهله تجارا فى النحاس. فلما كبر، حملته عمته إلى مسجد أبى الفضل، وأسمعته الحديث. وقرأ القرآن، وعنى بأمره شيتم ابن الزعفرانى، وعلمه الوعظ. واشتغل بفنون العلم، وأخذ اللغة عن أبى منصور الجواليقى. وصنف الكتب فى فنون شتى، وقيل بلغت مصنفاته نحوا من ثلثمائة كتاب. وحضر مجلسه الخلفاء والوزراء والعلماء والأئمة والملوك والأمراء. وأقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف نفر. وأوقع الله له فى قلوب الناس المحبة والقبول
والهيبة. وكان زاهدا فى الدنيا. وقال صاحب هذا النقل عنه أنه سمعه يقول: «كتبت بأصبعى هاتين ألفى مجلد» . وتاب على يده ما يزيد عن مائة ألف إنسان. وأسلم على يده نيف وعشرة آلاف يهودى ونصرانى. وكان يختم القرآن فى كل سبعة أيام.
ولا يخرج من بيته إلا إلى الجامع الجمعة، أو عند ما يحضر مجلسه للوعظ. ولا رآه أحدا مازحا قط، ولا رئى فى صباه يلعب قط. وهو صاحب كتاب التاريخ الكبير المسمى بمرآة الزمان، جمع فيه من العجائب والغرائب ما نثرت منه جملة فى هذا التاريخ. رحمه الله تعالى، وسائر علماء المسلمين.
وفيها توفى الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدى، وكان خادم أسد الدين شير كوه، عم السلطان صلاح الدين. وجعله السلطان صلاح الدين زمام قصره. وكان رجلا مسعودا ذو همة، وهو الذى بنى السّور المحيط بمصر والقاهرة، حسبما تقدم من ذكر ذلك. وبنى القناطر بالجيزة التى على طريق الأهرام. وعمّر بالمقسم رباط، وبظاهر باب الفتوح خان سبيل. وله وقف كثير لا يعرف الآن. وكان حسن المقاصد، جميل النية. وكان كما تقدم من الكلام أنه أخذ أسيرا من عكا لما أخذها الفرنج، فاشترى نفسه منهم بعشرة آلاف دينار. وقال القاضى بهاء الدين بن شداد فى سيرة السلطان صلاح الدين: أنه انفك من الأسر يوم الثلاثاء حادى عشر شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قلت: والناس ينسبون إليه أحكاما عجيبة فى ولايته، وهى بالعكس مما يروونه عنه، حتى أن الأسعد بن مماتى صنع جزءا لطيفا وسمّاه «الفاشوش فى أحكام قراقوش» .
وفيها توفى سقمان الملقب قطب الدين بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان؛ صاحب آمد وحصن كيفا. سقط من سطح جوسق فمات. وملك أخوه محمود، وكان شديد الكراهية له والنفور منه، فملكه الله مكانه.
وفيها توفى القاضى عماد الدين الكاتب رحمه الله. وكان جامعا لفنون كثيرة من الأدب والفقه والخلاف والتاريخ. وله النظم البديع والنثر الفائق.
وكتب لنور الدين الشهيد وللملك الناصر صلاح الدين، ونال عندهما المنزلة العالية.
وله التصانيف البديعة كالبرق الشامى، وخريدة القصر، والتبصرة فى أخبار وزراء الدولة السلجوقية، وغير ذلك. وكان مولده سنة تسع عشرة وخمسمائة، فكان عمره تسع وسبعين سنة.