الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة سبع وأربعين وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة تسعة عشرة ذراعا وثمانية أصابع.
ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين. والوزير بحاله. والسلطان الملك الصّالح نجم الدين أيوب سلطان الإسلام بمصر والشام. وكذلك بقية الملوك كل منهم فى محل ملكه ومملكة سلطانه.
والنائب فى هذه السنة بالديار المصرية الأمير حسام الدين بن أبى على، وبدمشق الأمير جمال الدين بن يغمور، وكلاهما نواب السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وفيها كان مرض السلطان الملك الصّالح بالسقية، التى يأتى ذكرها.
وفيها كان نزول الفرنسيس ملك الفرنج على ثغر دمياط المحروس بالديار المصرية. وخرج السلطان الملك الصالح ونزل بالعساكر على أشموم الرمان، وهو مريض لا يستطيع الركوب، وقد وقعت بعض محاشمه على ما ذكر. وكان الحرب بينهم، حسبما يأتى من ذكر ذلك.
ذكر سبب مجئ الفرنسيس وما تم فى هذه الوقعة
كان سبب ذلك أنه لما افترق ملك الفرنج الأنبرور من السلطان المرحوم الملك الكامل، وهما أصحاب، وعادت بينهما المراسلات والكتب والهدايا. واستمر ذلك فى سلطنة الملك الصالح أيضا. وهذا الفرنسيس أكبر ملوك الفرنج الداخلة، وأكثرهم قلاعا وجموعا، فحشد حشوده، وجمع جموعه، وقصد الديار المصرية،
لما حدثته نفسه الخائنة، وأطماعه الكاذبة. ولم يكن له طريق إلا على بلاد الأنبرور. فلما حسّ به الأنبرور كتب كتابا إلى السلطان الملك الصالح يعرّفه بوصول الفرنسيس إليه، وهو طالب لثغر دمياط. وهذا الفرنسيس يسمى ريدافرنس. ثم قال الأنبرور فى كتابه للسلطان:«إنه قد وصل فى خلق كثير، وقد اجتهدت غاية الاجتهاد على رده عن مقصده وخوفته، فلم يرجع لقولى، فكن منه على حذر» . فلما وصل كتاب الأنبرور إلى الملك الصالح احترز، وجهز الآلات برسم القتال وتحصين دمياط، وجعل الأمير حسام الدين بن أبى على مشدّا على عمارة الشوانى، ورسم لفخر الدين بن الشيخ أن ينزل على دمياط.
ولمّا كان يوم الجمعة لسبع بقين من صفر من هذه السّنة، وصل إلى دمياط مراكب سدت البحر كثرة، الفرنسيس وجموعه، لعنه الله. ولما وصل البر بالفم لم يعبره حتى نفّذ رسول، وعلى يده كتاب فيه ما هذا نسخته. يقول بعد كلمة كفرهم:
«بسم الإله النصيح، صاحب الدين الصحيح، عيسى بن مريم المسيح. أمّا بعد فإنه لم يخف عليك ولا على كل ذى عقل ثاقب، وذهن لازب، أنك أمين هذه الملّة الحنيفية، وأنا أمير هذه الملة النصرانية. وليس خفى عنك ما فتحنا من بلاد الأندلس والسبارا، وأخذنا النساء والعذارى، وفرقناهم على ملة النصارى، وجعلنا رجالهم أسارى، ونساءهم عليهم حيارى. وقد علمت ما نحن فيه من حق الرعيّة، لما فتحنا بلاد المهديّة، وعفونا على ثغر الإسكندرية، فلا تلجئ العالم إلى العسف،
ولا تسيمهم بسيماء الخسف. نقتل العبّاد، وندوس البلاد، ونطهّر الأرض من الفسّاد، فإن قابلتنا بالقتال، فقد أوجبت على نفسك ورعيتك النكال، وأرميتهم فى أشرّ الوبال، يكثر فيهم العويل. ولا نرحم عزيز ولا ذليل، ولا تجد إلى نصرتهم من سبيل. ونحن نشرح لك ما فيه الكفاية، وأبذلنا لك غاية النصيحة والهداية، أن تنقل إلى عندنا ما عندك من الرهبان، وتحلف لنا بعظائم الأيمان، أن تكون لنا نائبا على ممرّ الأزمان، وتعجل لنا بما عندك من مراكب وطرائد وشوانى، ولا تكون فيك فترة ولا توانى، لتكون قلوبنا راضية عليك، ولا تسوق البلاء بيدك إليك، وتكون على نفسك وجيشك قد جنيت، وتعود تقل «ياليت» . وتضع الحرب أوزارها، وتشعل نارها، ويتعالى شرارها، ويقتم فنارها، وتأخذ منكم بتارها، فسيوفنا حداد، ورماحنا مداد، وقلوبنا شداد، ويحكم بيننا بينكم رب العباد. فإن كانت لك فهدية ألقت بين يديك، وإن كانت لنا فيدنا العليا عليك، إذا استحق بالإضافة إمارة الملتين، وحكم الشريعتين، وبيد الله تعالى السعادة، وهو الموفق للإرادة». ثم كتب فى آخره يقول:
ستسلم إن سلمت غير محارب
…
فإنك لترجو أمورا ترومها
أتيناك فى خلق كرام وعصبة
…
مسيحية لم تخف عنك علومها
وها أنا قد أنشدت بيتا مهددا
…
مخافة أن لا تلتقى النفس ضيمها
ستعلم ليلى أىّ دين تداينت
…
وأىّ غريم للتقاضى غريمها
ولمّا وصلت هذه المكاتبة للسلطان الملك الصّالح كان فى أشدّ ما يكون من المرض، فكتب الجواب، ونفذه. وهو ما هذا نسخته:
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على القوم الظالمين، من عند الدارئ عن حرم المسلمين،
والقارئ كتاب رب العالمين، المنزّل على خير المرسلين، محمد صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الأنصار والمهاجرين، صلاة دائمة إلى يوم الدين. أمّا بعد فقد وصل كتابك، وفهمنا لفظك وخطابك، وها أنا قد أتيتك بالخيل والرجال، والخزائن والأموال، والعساكر والأثقال، والقيود والأغلال، فإن كانت لك فأنت السّاعى، وقد أمنت الناعى، وإن كانت عليك فأنت الباغى لحتفك، والجادع أنفك بظلفك. فإن رأيت أن لا تقيم بين الفئتين ضغنا، فلذلك منّ الله علينا وعليكم مننا، وإن غير ذلك فقد قال الله تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً»} . ولما وصل إلينا كتابك أعطيناك جوابك، {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} ». وفى كتابك تهددنا بجيوشك وأبطالك، وخيلك ورجالك، أو ما تعلم أن نحن أرباب الحتوف، وفضلات السيوف، ما نزلنا على حصن إلا هدمناه، ولا عدم منا فارس إلاّ جددناه، ولا طغى علينا طاغ إلا دمرناه. فلو نظرت أيها المغرور جدّ قلوبنا وجدّ حروبنا، لرأيت فرسانا أسنّتهم لا تمل، وسيوفهم لا تكل، وقلوبهم لا تدل، ولعضيت على يدك بسن النّدم، ولأخرك تحريك قدم عن قدم، فلا تعجبك العساكر التى بين يديك، فهو يوم أوله لنا وآخره عليك. إذا أتاك كتابى هذا فلتكن منه بالمرصاد، على أول سورة النحل وآخر سورة ص، {أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ»} ، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ»} ، هنالك تطاول نحوك الأعناق، وتشخص صوبك العيون، ويشوبك الويل، وتسوءك الظنون.
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»} وفى آخره يقول:
ألا يا مليك الرّوم هل أنت سامع
…
وهل أنت عمّا فى ضميرك راجع
تروم بلاد القدس بالسيف عنوة
…
ودون بلاد القدس دينك ضائع
لقد حفظ البيت المقدس عصبة
…
كما حفظ الكف اليمين الأصابع
جمعت بنى الإفرنج شرقا ومغربا
…
تشتت شملا كان قبلك جامع
فلا أنت ترجو بعض ما قصدته
…
ولا من أتى مستنصرا لك راجع
أتطمع من ليلى بوصل وإنما
…
تضرّب أعناق الرجال المطامع
فلما وصلت هذه المكاتبة إلى الفرنسيس أمر بنزول العساكر إلى البرّ، وضرب خيمة عظيمة حمراء. وفى ثانى يوم كان الملتقى بين الجيشين، وقتل بين الفريقين عالم لا يحصى، بعدد الرمل والحصى. ومن جملة من استشهد من المسلمين فى ذلك اليوم الأمير نجم الدين بن شيخ الإسلام، وأمير يعرف ببدر الدين بيليك الوزيرى.
وأمّا ما فعله فخر الدين بن الشيخ من سوء التدبير، فإنه لما أمسى الليل توجه إلى الجسر الذى فى ناحية الجرف فقطعه، ثم أخرج جميع من كان فى دمياط من النساء والرجال، ثم تركها تصفر. وكان رأيا ذميما، فلو أقاموا مع مشيئة الله عز وجل فى دمياط، ما قدر عليها الفرنج، لما كان فيها من الرجال المقاتلة من الكنانية وشجاعتهم. ثم لو كانوا الكنانية الذين تبقوا فيها غلقوا بابها بعد رحيل ابن الشيخ عنها، لم تقدر الفرنج على أخذها فى تلك السرعة. لكنهم لما رأوا خروج الناس منها، ضعفت نفوسهم، وظنوا أن مدة الحصار تطول عليهم، فلذلك سلموها. فلما كان صباح يوم الأحد لسبع بقين من صفر، جاءت الفرنج إلى دمياط، فوجدوها خالية، لم يكن بها مانع فملكوها. وكانت هذه من أعظم الحوادث. واستشعر الناس أن الفرنج تأخذ الديار المصرية، وخامر ذلك عقولهم. ولم يعلموا أن هذا الدين مؤيد بالله