الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عز وجل، وهذه الديار محروسة بالإيمان بالله وحده، فإن هذه النصرة التى جرت نوبة الفرنسيس، كانت من آيات الله عز وجل العظيمة، وصدقاته الجسيمة، نصرة الإسلام على الكفرة اللئام، من غير ملك ولا جيوش، وقتل من الفرنج ما أشبع الطيور والوحوش.
فلما علم السلطان بأن الفرنج أخذوا دمياط-وكان سبب أخذها الكنانية- أمر بشنقهم، فشنقوا على النخل جميعهم. ثم كانت بين المسلمين والفرنج عدة وقعات.
ذكر وفاة السلطان الملك الصالح، رحمه الله تعالى
لما كان لأربع ليال خلت من شهر رمضان المعظم، توفى السلطان الملك الصّالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن السلطان الملك العادل سيف [الدين] أبو بكر بن أيوب، رحمهم الله أجمعين. وكان عمره يوم وفاته أربع وأربعون سنة وشهور وأيّام. وكان مولده فى سنة ثلاث وستمائة، ولم يتحرر عندى الشهر.
قال ابن واصل: إن وفاة السلطان الملك الصالح لأربع عشرة ليلة خلت من شعبان فى السنة المذكورة. وقال: وعمره يومئذ أربعين سنة. وقال: مولده سنة ثمان وستمائة والأول أصح.
وكان ملكا مهيبا، عزيز النفس، بعيد الغضب، عفيفا، طاهرا فى فرجه ولسانه، كثير الصمت، عديم السفّه. اشترى من المماليك الترك ما لم يشتر أحد من الملوك مثله من قبله، حتى عاد أكثر جيشه مماليكه، وذلك لكثرة ما جرّب من غدر الأكراد والخوارزمية وغيرهم من الجيوش. وكان إذا مات أحد من مماليكه،
وكان له ولد، أنعم بإقطاع والده عليه، وإن لم يكن له ولد أنعم به على خشداشه.
واستسن مماليكه الترك من الملوك هذه السنّة منه، رحمه الله تعالى.
وأمّا أوصافه المعنوية، فإنه كان إذا جلس بين مماليكه لا يقدر أحد أن ينطق بحرف، ولا ينقل قدم عن قدم، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا، وهم يرعدون منه هيبة وجلالة. وكان مع هذه العظمة لا يكاد يرفع عينه من الأرض، ولا ينظر إلى شئ من محارم الله عز وجل، ولا يسمع أحد من لفظه شتمة. وإذا غضب على أحد من غلمانه أو مماليكه يقول:«يا سبحان الله، ما كان الأمر كذا وكذا» .
وكان حسن الدين، جيّد العقيدة، كثير الميل إلى مطالعة الكتب والعلوم وأخبار الناس، يحب أرباب الفضل والأدب، كثير الميل إلى العلماء وأرباب كل فضيلة، ويحب تشييد العمائر، وبناء القصور والمناظر، والنزهة. وكان يباشر البناء بنفسه، ويهندسه بعقله ما لا تصل إليه المهندسون. وبنى قلعة المقياس، والكبش، والصّالحية، مع عدة أماكن وقصور ومستنزهات.
وكان سبب موته السقية التى صنعها له الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد.
وذلك أن السلطان الملك الصالح لما أخذ صرخد من الأمير عز الدين-رحمه الله وأعطاه تلك البلاد المقدم ذكرها، لم يتحصّل له منها شئ، وخشى السلطان عاقبة أمره، لما كان يعلمه منه من التدبير وحسن السياسة، فأعاده إلى صرخد، وأنعم عليه، وأفكر فى قتله. وكان الأمير عز الدين سليم الصدر، حسن اليقين، فظن أن باطن السلطان صفى له. ثم إن السلطان يتحقق من الأمير عز الدين الدين المتين، وحبه لتلاوة القرآن. وكان يختم فى كل يوم وليلة ختمة، فصنع له السلطان ختمة عظيمة، بخطّ منسوب، مكتوبة بالذهب، وسمّ جميع أوراقها، وأهداها للأمير عز الدين
فى جملة تحف أخر. فلما وصلت إليه افتتن بها، وعاد لا يفارقها غمضة عين، وعاد يقرأ فيها ليلا ونهارا. ثم إنه كان كل ما تصفح أوراقها وضع يده فى فيه وعلى لسانه، فعمل فيه السم. وتحقق أن ذلك من السلطان وعلم أنه ميّت لا محالة، فأخفى أمره وطلب الصنّاع، وعمل سرج ما رأت الناس مثله، نفّد عليه عشرة آلاف دينار. وسمّ الميّترة التى للسرج، وتركه فى خزانته، وتوفى إلى رحمة الله تعالى. فلما بلغ السلطان ذلك، ركب من فوره، وتسلم صرخد، وأخذ سائر أمواله وذخائره، وأباع مماليكه وجواريه بأقل الأثمان، وأباع فى الجملة أم الوالد، وهى حامل به من الأمير عز الدين، فاشتراها رجل من أهل صرخد من كبارها، يقال له عمر بن الأسعد، وكان دينا، واستبرأها فوجدها حاملا. وكانت تسمى كمش خاتون، خطائية الجنس.
فولدت الوالد عند ذلك الرجل، ورباه كالولد إلى هذه السنة، التى أخذ السلطان الملك الظاهر فيها صفد، وهى سنة أربع وستين وستمائة. وكان الأمير حسام لاجين الدرفيل مملوكا للأمير عز الدين أيبك وهو طفل صغير. وكانت هذه كمش خاتون قد ربّته عندها مثل الولد، فأبيع أيضا الأمير حسام الدين الدرفيل مع من أبيع، وتنقل به الحال إلى أن عاد دوادار السلطان الملك الظاهر. فلما كان سنة فتح صفد-الآتى ذكرها-والسلطان بدمشق، حضرت الصراخدة بتقادم للأمير حسام الدين الدرفيل، وأحضروا له الوالد، وهو يومئذ ابن سبعة عشر سنة، فعرف له حقّه وربّاه كالولد.
ثم ارتجع الوالد من عند الأمير حسام الدين إلى بيت السلطان الملك الظاهر، فى حديث طويل. ثم إن السلطان أنعم عليه بإقطاع عبرة ألفى وأربع مائة دينار، وسلمه للأمير سيف الدين بلبان الرومى الدوادار، وقال له:«علمه وخليه يمشى معك» . فعرف الوالد بالدوادارى. ثم إن السلطان الشهيد الملك الأشرف خليل بن قلاوون أعطاه تقدمة.
ثم إن مولانا وسيدنا السلطان الأعظم الملك الناصر أمّره وولاه بلبيس والعربان،
وذلك فى سنة ثلاث وسبعمائة، فأقام إلى سنة عشر وسبعمائة، نقله إلى الشام بسؤاله، وجعله مهمندارا. ثم ألزم بشاد الدواوين بدمشق، فأقام سنة، ثم تخلص، إلى أن توفى رحمه الله، فى شهر رجب سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.
وخرج بنا تلاوة الكلام بعضه ببعض عن الغرض المقصود، من ذكر وفاة السلطان الملك الصالح، رحمه الله تعالى. قال والدى-رحمه الله: حدثنى هذا الرجل الذى شرى أمى، وكان رجلا فقيها، صوفيّا، فاضلا، محققا، له عندى كتاب تأليفه بخطه فى التصوف، سماه «لباب اللباب فى علم التصوّف والآداب» -ولقد أحسن فيه كل الإحسان، قال: لما أعرض السلطان الملك الصّالح ذخائر الأمير عز الدين أيبك، رأى ذلك السرج، فركب فيه من يومه، ولعب الأكرة فى ميدان صرخد، فرحا بموت عز الدين، فعلقت فيه السقية من تلك الساعة، ولم تزل تعمل فيه حتى مات، فكان عز الدين قاتل قاتله.
ولمّا توفى السلطان الملك الصالح، رحمه الله، على ثغر دمياط فى التاريخ الذى ذكرناه، أخفى موته، وقام الأمير فخر الدين بن الشيخ مدبر الدولة، وجمع الأمراء، وقال: إن السلطان رسم أن تحلفوا لولده غياث الدين توران شاه، ولقب بالمعظم، فامتثلوا ذلك. وعاد ابن الشيخ القائم بأمور المملكة، وغياث الدين بعد فى حصن كيفا. وسير خلفه الأمير فخر الدين، وسيّر إلى القاهرة أن يحلّفوا من كان بها من الأمراء والجند للملك المعظم غياث الدين توران شاه. هذا كله والناس لا يعلمون بموت السلطان الملك الصّالح، رحمه الله.
وكانت تخرج علامته على الكتب، وهى أيوب بن محمد بن أبى بكر بن أيوب، يكتبها عنه خادم يعرف بالسهيلى.
قال ابن واصل: أن كان الأمير حسام الدين محمد بن أبى على الهذبانى عند السلطان أوثق وأمكن من الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ. وكان لما ملك السلطان الديار (25 - 7)