الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر خطبة القاضى محيى الدين
{الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ».
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، قَيِّماً} . . . الآية».
{قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اِصْطَفى»} .
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماااتِ وَما فِي الْأَرْضِ} » الآية.
{الْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ السَّماااتِ وَالْأَرْضِ} » الآية.
الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بكفره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافر بكفره. الذى قدر الأيام دولا، وجعل العاقبة للمتقين تفضلا، ورفض عبادة من ضله، وأظهر دينه على الدين كله. القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع. أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصرته لأنصاره، وتطهيره لبيت المقدس من أنجاس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره، وظاهر شكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الواحد الأحد الفرد الصمد، الذى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، شهادة من طهّر بالتوحيد قلبه، ورضى به ربه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، دافع الشرك، ورافع الإفك، الذى أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى.
صلى الله عليه وعلى خليفته أبى بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى عمر ابن الخطاب الذى أول من رفع عن هذا البيت شعائر الصلبان، وعلى عثمان بن عفان ذى النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب مزيل الشرك ومكسر الأوثان، وعلى آله والتابعين لهم بإحسان. . .».
ثم ذكر الإمام الناصر لدين الله، ودعا له وللسلطان صلاح الدين. وكانت صلاة جمعة ما رأى الناس مثلها، لما حصل للناس فيها من الخشوع الزائد، والسرور المتزايد.
ومما لخص من الخطبة فصل فى الدعاء للسلطان:
«اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع، وشهابك اللامع، والمحامى عن دينك الدافع، والذاب عن حرمك وحرم رسولك الممانع، السيد الأجل، والكهف الأظل، الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهّر بيت المقدس، أبى المظفر يوسف صلاح الدين بن أيوب، محيى دولة أمير المؤمنين. اللهم عمّ بدوامه البسيطة، واجعل ملائكتك المقربين براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفى جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه. اللهم أبق للإسلام والمسلمين مهجته، ووف للإيمان حوزته، وانشر فى المشارق والمغارب دعوته. اللهم كما فتحت به البيت المقدس، بعد ما ظنت به الظنون، وابتلى المؤمنون، فافتح على يديه دانى الأرض وأقاصيها، وملكه بكرمك وفضلك صياصى الكفر
ونواصيها، ولا يلقى منهم كتيبة بقوتك إلا مزقها، ولا جماعة بعزتك إلا فرقها، ولا طائفة بقهرك إلا ألحقها بمن سبقها.
اللهم اشكر له عن محمد-صلى الله عليه وسلم-سعيه، وأنفذ فى المشارق والمغارب أمره ونهيه، وأصلح به اللهم برحمتك أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها.
اللهم ذل به معاطس آناف الكفار، وأرغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه برحمتك على الأمصار، وأثبت سرايا جنوده فى سبيل الأقطار.
اللهم ثبّت الملك فيه وفى عقبه إلى يوم الدين، واحفظه فى بنيه وبنى أبيه الملوك الكرام الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم. اللهم وكما أجريت على يديه فى الإسلام هذه الحسنة التى تبقى على الأيام، وتتخلد على مرور الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدى الذى لا ينفد فى دار المتقين، وأجب دعوته ودعاءه فى قوله:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى االِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ»} .
ونقل السلطان إلى البيت المقدس المنبر من حلب. وكان هذا المنبر قد أمر بعمله الملك العادل نور الدين الشهيد، لما كانت نفسه الزكية تحدثه أنه سيفتح القدس الشريف، فعمل هذا المنبر قبل فتح القدس الشريف بنيف وعشرين سنة.
قال صاحب هذا النقل: وكانت الفرنج-لعنهم الله-قد بنوا على الصخرة المقدسة كنيسة، وقطعوا منها جملة كبيرة، وغيروا أوضاعها، وبنوا على حيطانها أشباه الخنازير، وعملوا بها مذبحا، وعينوا بها مواضع الرهبان، ومحط الإنجيل، وأفردوا فيها لموضع القدم قبة صغيرة، مدهونة، ما بين الأعمدة الرخام. فلما نظر السلطان صلاح الدين إلى ذلك عظم عليه، وأمر أن تمحى جميع تلك الآثار. وأزال عن الصخرة ذلك البناء، وأبرزها حتى ينظر إليها. ولم تكن قبل ذلك يظهر منها إلا قطعة يسيرة.
وكان الفرنج قد قطعوا من الصخرة قطعة كبيرة، وسيروها إلى القسطنطينية،
وكذلك إلى صقلية، فكانوا يبيعون منها ملوك الفرنج وزنا بوزن من الذهب. وقيل إن بعض ملوك الفرنج خرج عن ملكه، وتولى خدمة ستارة الصخرة، إشفاقا عليها.
وكان كل ملك يأتى إلى زيارة القدس يتقصد أن يأخذ منها قطعة، بحسب البركة.
فلما بلغ السلطان صلاح الدين ذلك أمر الفقيه ضياء الدين الهكارى أن يكون أمينا عليها. ثم أدار عليها صفائح من حديد. ثم حضر الملك المظفر تقى الدين عمر، وأحضر صحبته أحمالا من دمشق مملوءة ماء ورد، وتولى غسل قبة الصخرة بنفسه.
ثم أتى الملك الأفضل، وفعل كذلك.
ثم رتب السلطان صلاح الدين فى جامع الأقصى من يقوم بوظائفه، ورتب فى قبة الصخرة إماما حسنا، وأوقف عليه وقفا جيدا. وحمل إلى الجامع الأقصى مصاحف وختمات وربعات منصوبة على كراسى، ورتب له أوقافا جليلة، وعمل دار البطرك رباطا للفقراء.
وكانت قبور الفرنج من الديوية وغيرها مجاورة للصخرة، ونحو باب الرحمة، ولهم قباب معقودة، فأزالها السلطان صلاح الدين، ومحا آثارها، وأمر بغلق كنيسة قمامة.
ثم إن بعض الملوك قال: «نعم الرأى هدمها، ونخرب القبور التى بجوارها» .
فقال بعض سراة الناس من العلماء-أظنه ابن شداد أو العماد الأصفهانى-: «إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضى الله عنه-لما فتح بيت المقدس استقر بهذه الأماكن على ما كانت عليه، ولو شاء لفعل ذلك» . فقال السلطان: «نحن متبعين لا مبتدعين» .
واستقر بالأشياء على حالها. وأن لا يغير إلا ما كان مستجدّا. فلما استقر الأمر كذلك، وردت عليه اللطائف التهانى بالقصائد من الفضلاء والأدباء والشعراء. فكان أول ذلك قصيدة الملك المظفر تقى الدين عمر:
دع مهجة المشتاق مع أهوائها
…
يا لائمى ما أنت من نصحائها
جاءتك أرض القدس تخطب ناكحا
…
يا كفؤها ما العذر من عذرائها
زفت إليك عروس خدر تنجلى
…
ما بين أعبدها وبين إمائها
إيه فخذها عاتق بكر فقد
…
أضحت ملوك الأرض من رقبائها
كم طالب لجمالها قد ردّه
…
عن نيلها أن ليس من أكفائها
وهى طويلة، وهذا ملخصها.
ومن شعر المظفر أيضا يخاطب عمه:
أصلاح دين الله أمرك طاعة
…
فمر الزمان بما تشاء فيفعلا
فكأنما الدنيا ببهجة حسنها
…
تحلا علىّ إذا رأيتك مقبلا
وكان-رحمه الله-فاضلا، متأدبا، حسن الشعر. وكان أخوه عز الدين فرخشاه نظيره فى ذلك. وأتى بيت الملك المظفر جميعهم كذلك. وناهيك بولده الملك المنصور، وسيأتى من ذكره ما يؤيد القول إنشاء الله تعالى. وكان السلطان صلاح الدين يحب الملك المظفر تقى الدين أكثر من محبته لسائر أهله، لما كان قد خص به من الشهامة والنجابة والإقدام العظيم، ولفرط طاعته لعمه صلاح الدين. ولأنه كان ألصقهم إليه قرابة، لأن والد المظفر، ركن الدين شاهنشاه-رحمه الله-كان أخا صلاح الدين لأمه وأبيه؛ والملك العادل، وتاج الملوك، وسيف الإسلام، كانوا إخوته لأبيه فقط.
وقتل ركن الدين شاهنشاه شهيدا على باب دمشق لما حاصرها الفرنج، ولم يدرك الدولة الأيوبية.
ثم وردت قصيدة القاضى هبة الله بن سناء الملك، يقول:
لست أدرى بأى فتح تهنّا
…
يا منيل الإسلام ما قد تمنّا
أنهنّيك إذ تملكت شاما
…
أم نهنيك إذ تملّكت عدنا
قد ملكت الجنان قصرا فقصرا
…
إذ فتحت الشآم حصنا فحصنا
قمت فى ظلمة الكريهة شمسا
…
فالبدر لا شك يطلع وهنا
لم تقف قطّ فى المعارك إلا
…
كنت يا يوسف كيوسف حسنا
قصدوا نحوك الأعادى فردّ
…
الله ما أملوه عنك وعنّا
حملوا كالجبال عظما ولكن
…
جعلتها حملات خيلك عهنا
جمعوا كيدهم وجاءوك أركانا
…
فمن هدّ فارسا هدّ ركنا
فكل من يجعل الحديد له ثو
…
با وتاجا وطيلسانا وردنا
خانهم ذلك السلاح فلا الرم
…
-ح تثنى ولا المهند ظنا
وتولت تلك الخيول ولم
…
يتأنى عليها أنها لا تتأنى
وتصيّدتهم بحلقة صيد
…
تجمع الليث والغزال الأغنّا
صنعت فيهم وليمة عرس
…
لعب المشرفىّ فيها وغنّى
وحوى الأسر كل ملك يظن
…
الدهر يفنى وملكه ليس يفنى
والمليك العظيم فيهم أسير
…
يتثنى فى أدهم يتثنى
كم تمنّى الليالى حتى رآها
…
فتمنى أنه لا تمنى
ظن ظنّا وكنت أصدق فى
…
الله يقينا وكان أكذب ظنا
رقّ من رحمة له القيد
…
والغل عليه فكلما إن أنّ أنّا
واللعين الإبرنز أصبح مذبوحا
…
يهنى أنه مات منا
وتهادت عرائس المدن نخلا
…
وثمار الآمال منهن تجنى
لا يخص الشآم منك سرور
…
كل ربع وكل أرض تهنا
قد ملكت البلاد شرقا وغربا
…
وحويت الآفاق سهلا وحزنا
وتفرّدت بالذى هو أسمى
…
وتوحدت بالذى هو أسنى
فاغتدى الوصف فى علاك حسيرا
…
أى لفظ يقال أو أى معنى
هذا ربنا الإله قال أطيعوه سمعنا لربنا وأطعنا
وفيه وصل إليه رسل الخليفة يهنئونه بما فتح الله على يديه.
وفيها فتح عدة حصون، وهى: طبرية، والناصرة، وقيسارية، وصفورية، والطور، ونابلس، وحيفا، وصيدا، وبيروت، وعسقلان. ولم يبق فى هذه السنة بالساحل من حصون الفرنج غير عكا، فأخذها فى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، كما يأتى من ذكرها فى تاريخها.