الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة تسع وعشرين وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط.
ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الكامل سلطان الإسلام. وسائر الملوك حسبما تقدم من ذكرهم، خلا السلطان جلال الدين الخوارزمى، فإن ملكه زال. فسبحان من لا يزول ملكه ولا تغيره الليالى.
وفيها-فى شهر المحرم-وصل رسل الخليفة الإمام المستنصر بالله، وهما الأمير عز الدين أبقرا وفخر الدين رفيقه، واجتمع بهما السلطان عند وصوله من ثغر الإسكندرية، وخرج إلى لقائهما فى الحراقة إلى شبرا، بسبب وجع رجله. وألبسوه التشريف اللائق بمثله على عادته، وأركبوه فرسا أشهبا منعولا بالذهب الأحمر، وسيفين مجوهرين، وثلاثة أخر للسلاح دارية، وترس مرصّع بأنواع الجواهر.
وكذلك لكل واحد من أولاده خلعة مزركشة، وسيفا محلاه، ومركوبا حسنا.
وخلع كثيرة للأمراء الكبار بالدولة. وظنوا أن له وزيرا فسيّر إليه خلعة سنية، وبغلة، ودواة، فقال السلطان:«ليس لى وزير» ، فحمل ذلك إلى خزانته.
وفى هذه السنة اجتمع بباب السلطان من الرسل من سائر أقطار الأرض ما لم يجتمع بباب ملك قبله؛ وهم رسل الخليفة، ورسل صاحب الموصل، ورسل صاحب الكرج، ورسول صاحب حلب، ورسول صاحب حماة وحمص، ورسل ملك الهند، ورسل الإفرنج، ورسول صاحب شيراز، ورسول صاحب جزيرة الأندلس، وغيرهم.
فأحضر الجميع فى يوم واحد، وكان يوما مشهودا. ثم عقب رسل الخليفة الشيخ بهاء الدين [اليزدى]-شيخ رباط الأخلاطية-من بغداد فى جماعة من النجابين، يحثون السلطان على الغزاة للتتار.
وفى ثامن عشر جمادى الآخرة توجه السلطان الملك الكامل طالبا للشام بنية الغزاة للتتار، وجعل نائبه بالديار المصرية ولده الملك العادل. وفى تاسع جمادى الآخرة توجه الأمير فخر الدين إلى مكة-شرفها الله تعالى-ودخلها خامس شهر رمضان المعظم بالسيف عنوة. وهرب راجح، وقتل جماعة من أقاربه. وقتل من كان بها من العسكر اليمنى.
وفى سادس عشرين ذى الحجة ملك السلطان الملك الكامل آمد، وأخذ صاحبها منها، وملّكها لولده الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وفى ثامن عشر ذى الحجة توفى فخر الدين عثمان [بن قزل] أستادار السلطان، وكانت وفاته بظاهر حرّان.
وفيها ملك بدر الدين لؤلؤ-صاحب الموصل-قلعة سوس، وكانت لتقى الدين زنكى ابن نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مظفر الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن آق سنقر، صاحب الموصل قديما. ولما ملكها عظمت كلمته، وقمع أولاد أستاذه، واستقام له الملك، ونعت نفسه الملك الرحيم. وبعث إليه الخليفة تقليدا بالملك. ولم يزل ملكا حتى أخذت التتار بغداد، ودخل تحت طاعة هلاوون، واستولى على عدة ممالك من العراق والجزيرة. حكى لى والدى-رحمه الله-عن مخدومه الأمير سيف الدين بلبان الرومى الدوادار-رحمه الله-قال: كان لما تحكمت التتار على البلاد، ودخل بدر الدين مملوك لؤلؤ صاحب الموصل تحت طاعة هلاوون، كان له مملوك يسمى أيان-أرمنى الجنس-وكان له عنده مزية كبيرة. قال أيان: فبلغ
الرحيم بدر الدين لؤلؤ أن الوزير خواجا رشيد-وزير هلاوون-بيسعى فى تغيير خاطر هلاوون عليه، فقال بدر الدين:«والله لأقتلنه ولأمعكنّ أذن هلاوون بيدى» .
قال أيان: فلما سمعت ذلك وكنت أدل عليه بالكلام، فقلت:«سبوح قدوس» . فالتفت إلىّ وقال: «سوف تنظر ذلك بعينك يا أرمنى نجس» . قال: وكان عنده رجل يعرف بالصوفى، وكان أوحد أهل زمانه فى المنادمة وأخبار الناس. فقال له بدر الدين:
«تتوجه إلى الأردوا، وتتوصل إلى صحبة خواجا رشيد، فإذا ملكته بحلاوة منادمتك.
أنا أعلم أنه يقبل عليك. وتنفق عنده وهو رجل شره النفس فى المأكل، ويحب الفواكه يجنيها من على شجرها على الندوة. ولا بد أن تسير معه فى بعض البساتين. فخذ هذه الثلاث إبر معك، واجتهد إن تشكّهم فى بعض ما يتناوله منك من الفاكهة. فإذا علمت أنه حصل فى أمعائه من تلك الفاكهة-ولو ثلاث-فقد حصل الغرض، فتوجه إلينا فقد جعلت لك البريد فى سائر الطرقات حتى تصل إلى عندى إن شاء الله سالما».
قال: فكان الأمر كذلك، ووصل الصوفى عائدا بعد أن قضى الشغل فى الخواجا رشيد. ووردت الأخبار بعد ذلك بموته. فقال بدر الدين لؤلؤ لمملوكه أيان:«كيف رأيت؟» . فقال: «أمّا قتل الوزير فقد صح لك. فكيف تمعك أذن هلاوون؟» .
فقال: «سوف تنظر يا أرمنى نجس» . ثم إن بدر الدين تجهز وتوجه إلى خدمة هلاوون، وأخذ صحبته من الزراكش والمصاغات والملابس وما أشبه ذلك للخواتين.
واستصحب معه ماشطتين حذاق بزينة النساء، وتقديمهما إلى خواتين المغل من الأمراء الكبار، ومعهما لكل واحدة من ذلك الزركش والمصاغ والقماش والزينة ما يليق بها. وأصلحوهن المواشط وزينوهن أحسن زينة، ولبسوهن ذلك القماش المذكور، فعادوا كأنهن البدور الطّلع. ونظروا وجوههن فى المرآة فأعجبهن أنفسهن. وخرجن لأزواجهن فقالوا:«ما هذا المليح؟» . فقلن: «بدر الدين لؤلؤ» . فأعجب أزواجهن ذلك كل الإعجاب، وشكروا بدر الدين عند هلاوون شكرا كثيرا. وكذلك خواتين هلاوون، وولده أبغا، ومنكتمر. قال أيان: فحضر بدر الدين بين يدى هلاوون،
فقربه، وأخلع عليه، وأجلسه فوق من عادته. فقام إليه منكتمر بن هلاوون، وضرب قدامه جوك، وناوله هناب مشروب. فقام بدر الدين وتناوله، وقبل يده، وأخرج له زوج حلق فيهما جوهرتين فجعلهما فى أذنه. فقام بعده أبغا أخوه، وفعل كذلك، فأخرج له زوجا آخر أحسن من الأول، وجعلهما فى أذنه. فقال هلاوون:
«يا بدر الدين هؤلاء الشباب لهم هذا وأنا؟» . فقام بدر الدين وقبل الأرض، وأخرج زوج يشعل كالشمس، لا قيمة له. وتقدم إلى هلاوون وجعل رأسه على فخذه؛ وعاد يمعك فى أذنه وينظر إلىّ. فقال هلاوون:«أباه! أباه!» . فقال بدر الدين: «الله يحفظ القان، إنما فعلت هذا حتى يخدر ويجوز الحلقة من غير ألم» . ثم ركب الحلق فى أذنه بعد معكهما معكا جيدا. قال أيان: فلما عدنا من عنده مكرمين، قال لى:
«كيف رأيت يا أرمنى؟» . قلت: «والله ما يخلفك الزمان أبدا» .
قال ابن واصل فى تاريخه: فى هذه السنة كانت صلة الملك الناصر داود بن المعظم صاحب الكرك بعمه الملك الكامل وزوّجه بابنته عاشورا خاتون وهى شقيقة الملك العادل سيف الدين أبى بكر.
قال: وفيها كان توجه السلطان الملك الكامل والملك الأشرف أخوه إلى بلاد الشرق من الديار المصرية، وملكا مدينة آمد من صاحبها وهو الملك المسعود ابن الملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق. وذلك لما بلغ الملك الكامل ما كان عليه من قبح السيرة وتعرضه لحرمة الناس وارتكابه المحارم.
واستصحب الملك الكامل معه فى هذه السفرة ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، ورسم له بالإقامة ببلاد الشرق، وأقام الملك العادل بالديار المصرية عناية به، لمحبته أمه، ومحلها من قلبه.