الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة عشرين وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم أربعة أذرع ونصف أصبع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا، واثنا عشر أصبعا.
ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. وسلطان المسلمين الملك الكامل بالديار المصرية.
وسافر الأشرف، وكانت مدة إقامته بالديار المصرية ثمانية أشهر. وأتته مكاتبة صاحب أذربيجان-حسبما تقدم من الكلام.
وفى شهر ذى الحجة خرج السلطان الملك الكامل لملتقى ولده الملك المسعود صاحب اليمن، واجتمع به على منزلة البويب. ثم سيّر السلطان عسكرا كثيفا، يقدمه الملك الجواد بن أخيه، إلى مكة-شرفها الله تعالى. وبعد الوقوف بعرفة، نزلوا على الينبع، وأقاموا عليه يومين، وملكوه، وجعلوا فيه الأسد جغريل، والأمير صمصام الدين الخزندار العادلى أميرا على مكة.
هذا والتتار ينتقلون من إقليم إلى إقليم، ومن مدينة إلى مدينة، يقتلون وينهبون ويخربون. ثم وقع الحلف بين ملوك الإسلام على ما كانوا عزموا عليه من اجتماع كلمتهم على التتار، وجميع ذلك للأمور المقدرة التى لا راد لقضائها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
وفيها توجه التتار طالبين إربل، فنفّذ صاحبها يستنجد بالملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل. واتفق مع مظفر الدين كوكبرى صاحب إربل أن يسيروا جماعة من العساكر يمسكوا الدربندات بمضيق الطرق، ليمنعوا التتار من العبور إلى البلاد. وكان رأيا سعيدا لو تم. ثم وصلت كتب الخليفة أن التتار يمتنعوا من عبور البلاد، ويأمرهم بالحضور والاجتماع بالعساكر على دقوقا، وذلك ظنّا من الخليفة أن التتار لا يعبرون البلاد، وأنهم متوقفون عنه وعن بلاده، لما بينه وبينهم من المكاتبات. وكان التتار لما وصلوا إلى مدينة إربل وجدوا الجبال ضيقة المسالك، فتركوا إربل وقصدوا العراق، فعند ذلك خرج صاحب إربل وصاحب الموصل بالعساكر، وتبعوا التتار، وهم فى عساكر كثيفة. ثم إن الإمام الناصر سيّر إلى [مظفر الدين صاحب إربل] يأمره بالحضور بالعساكر. فلما اجتمعت العساكر على دقوقا ينتظرون أن الخليفة يسيّر إليهم عسكرا كثيفا من بغداد، يكونوا هؤلاء العساكر فى ضمنه لملتقى التتار، فجاءهم مملوك من جملة مماليك الخليفة يقال له قشتمر، ومعه نحو من ثمانمائة فارس. فلما رأى الملوك هذا الحال تفرقوا كل ملك إلى مكانه، وكتب مظفر الدين للخليفة يقول: «إن هذا العدو عدو ثقيل، وخلق عظيم، لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل. فابعث إلينا جيشا نلقى به هذا العدو، ولو عشرين ألف فارس، ونحن نتكل
على الله تعالى ونلقاه بمعونته». فغلب على رأى الخليفة الوزراء السوء، وأثبتوا فى ذهنه أن التتار لا يدوسون له أرض، وإنما هؤلاء يقصدون أن يمنعوا عن بلادهم.
فلم يرد الخليفة له جوابا.
وقد كان التتار لما سمعوا بمظفر الدين تأخروا إلى ورائهم، فإنه كان رجلا شجاعا مقداما. فلما بلغهم أن العساكر تفرقت من على دقوقا نزلوا همذان، وكان لهم بها شحنة، حسبما ذكرناه. فأرسلوا إليه أن «خذ لنا من أهل البلد قماشا وسلاحا ومالا نستعين به» ، فأجمع الشحنة أهل البلد، وطلب منهم. وكان أهل البلد قد ضجروا من جور التتار، ومن أخذ أموالهم. وكان بهمذان يومئذ رجل يعرف بالشريف وهو حاكم على أهلها. وكان من كبار المسلمين وخيارهم، وهو من جهة التتار أيضا ليصانعهم عن المسلمين، فاجتمع الناس وأتوا إلى الشريف الهمذانى، وشكوا إليه جور التتار، وما هم فيه من البلاء معهم. فقال:«إذا كنا تحت أمرهم، ما يسعنا إلا نسمع ونطيع» . فقال أهل البلد للشريف: «أنت إذا أشد علينا منهم» . فقال:
«إنما أنا رجل منكم، ومهما فعلتوه كنت معكم» . فعند ذلك جذبت أهل البلد السيوف وقتلوا الشحنة الذى كان عندهم من جهة التتار، وغلقوا باب البلد، وعصوا على التتار. فركبوا إليهم، وحاصروهم، واقتتلوا أشد قتال. وقتل بينهم عالم عظيم إلا أن أهل همذان صبروا صبر الكرام على الموت، والجوع، والعطش، والسهر، وضرب السيوف. ثم إن التتار هجموا عليهم، وأخذوهم، وقتلوا جميعهم.
ولما فرغوا من همذان عاودوا أذربيجان فوصلوا إلى أردويل، فنزلوا عليها
وملكوها. ورحلوا طالبين توريز، وكان قد قام بها شمس الدين الطغرائى، وحصّن البلد أحسن تحصين. فلما علموا ذلك صالحوه أيضا على مال أخذوه. ثم توجهوا إلى بيلقان، وهم يخربون كل ما مروا عليه من البلاد والأقاليم فى طريقهم، فملكوا بيلقان بالسيف عنوة وقتلوا أهله. ثم ساروا إلى كنجة-وهى كرسى مملكة أران.
وعلمت التتار أنهم لا يقدرون على كنجة، ولا على أهلها كونهم رجال شجعان، فصالحوهم على مال أخذوه منهم. ثم ساروا إلى دربند شروان وقصدوا مدينة شماخى فحاصروها، وصبر أهلها أحسن صبر، فأحضر التتار المواشى من الأبقار والأغنام وجيف القتلى، مع الجمال والحمير، وردموا الخندق، وتسوروا عليه إلى السور. فقاتلوهم أهل البلد ثلاثة أيام، ثم ملكوها وقتلوا أهلها. ثم توجهوا إلى بلاد الترك، وهم القفجاق وبلاد اللان وبلاد الروس وغيرهم من الأمم، فلم يقدروا على الجواز إليهم، لضيق المسالك، وكثرة العالم وشجاعتهم، فشرعوا إلى المكر والخديعة، وسيروا رسولا إلى السلطان رشيد شروان شاه صاحب المدائن وصاحب الدربند، يطلبون منه رسلا يسمعون كلامهم ويسعون فى الصلح بينهم، فسيروا إليهم عشرة نفر من عقلاء قومه، فضربوا رقاب عشرة، وأبقوا واحدا منهم، وقالوا له:«أرينا ودلنا على الجواز ونحن نمن عليك بنفسك، وإلا قتلناك» ، فأخذهم وسلك بهم طريقا هى أسهل الطرق.
فلما قطعوا الدربند وجدوا من المواشى والأغنام والأبقار فى تلك الأعمال ما لا تحصى كثرة. وفيها جنس يقال له اللان وجنس يقال له اللكز، وهما جنسان عظيمان
من الترك، مع طوائف أخر، فوقعوا عليهم بالسيف على حين غفلة منهم، وقتلوا منهم أمما عظيمة. وهؤلاء اللكز مسلمون واللان نصارى فلم يبقوا لا على المسلمين ولا على النصارى. وكانوا قد اقتتلوا مع اللان قتالا عظيما، فلم يظفروا بهم، فأرسلوا رسلا إلى القفجاق، يقولون لهم:«نحن منكم وأنتم منا، وهؤلاء أعداؤنا وأعداؤكم ونحن نحلف لكم أن نكون يدا واحدة، ويكون لكم قسما من أموالهم كما لنا» .
فاتفق القفجاق معهم على اللان واللكز فأفنوهم وأخذوا أموالهم، وسبوا ذراريهم، وأخربوا بلادهم، ثم رجعوا إلى بلاد القفجاق وهم آمنون منهم، لما بينهم من العهود والمواثيق. فلم يشعروا إلاّ والتتار قد أحاطت بهم، ووضعوا فيهم السيف، وأخذوا من القفجاق أضعاف ما أخذوه من تلك الطوائف. ولم يزل القتل فى القفجاق حتى اعتصموا منهم بالجبال والشعاب، وهرب بعضهم إلى بلاد الروس. وأقامت التتار فى بلاد القفجاق، واستطيبوها لكثرة خيرها وخصبها، وطيبة هوائها. ولها أماكن دافئة فى الشتاء، وأماكن باردة للصيف. ثم ساروا إلى مدينة شروان شاه، وهى كرسى مملكه القفجاق عند بحر منسك بخليج القسطنطينية العظمى، فمشوا إليها وملكوها فى مدة يسيرة، وتفرق أهلها، وتمزقوا كل ممزق. وسار بعضهم إلى بلاد السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقى صاحب الروم. ثم سارت طائفة كبيرة [من التتار] إلى بلاد الروس، وهى بلاد طويلة عريضة، وهم قوم نصارى. ولو شرحنا جميع ما فعلوه لم تسع ذلك دفاتر ولا أوراق، وإنما لخصنا من ذلك جهد الطاقة وقدر الاستطاعة.