الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما زال السيف يعمل فى أدبارهم إلى الليل، وقد حل بهم الحزن والويل. ولما أصبح نهار الأربعاء، وناعى الشتات بهم قد نعى، قتلنا منهم مائة ألف أو يزيدون، ومزقناهم كما مزق الضحاك أفريدون بالسيف، غير من ألقى نفسه فى اللجج. وأمّا الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج. والتجأ الفرنسيس إلى الميمنة وطلب الأمان فأمنّاه، وأخذناه أسيرا، وعلى عوائدنا الجميلة أجريناه، فليأخذ حظه من هذه البشرى، وليعلم أن مع العسر يسرا.
وفيه كلام كثير هذا زبدته، ثم بعث مع الكتاب بغفارية الفرنسيس ملك الفرنج، وهى سقلاط أحمر تحت فرو سنجاب، وفيها بكلة ذهب.
ولمّا كان يوم الجمعة سلخ المحرّم ورد المرسوم من السلطان الملك المعظم إلى الأمير حسام الدين بن أبى على يأمره بالحضور إليه، وسير مكانه الأمير جمال الدين أقوش النجيبى الصّالحى.
وفيها قتل الملك المعظم توران شاه.
ذكر قتلة الملك المعظم وتمليك أم خليل شجر الدّر وسبب ذلك
وسبب ذلك أنه كان صبى العقل، عديم الرأى، أهوج، كثير العجب، زائد السفه، بالضّد مما كان فى أبيه من الخصائل المحمودة. وأطرح جانب الأمراء الكبار،
الذين كانوا فى دولة أبيه لهم الحل والعقد والأمر والنهى، وصرف وجهه عنهم. وعاد يبلغهم عنه كل كلام يشين، من التهديد والوعيد. واعتمد على جماعة كانوا قد جاءوا معه من حصن كيفا. وكان ذلك لأمر يريده الله. وكان هؤلاء الذين قد اعتمد عليهم من أطراف الناس وأراذلهم، وصار إليهم الأمر والحل والعقد. ومن جملة ضعف رأيه، وقلة تصرفه، وكثرة هوجه، وذلك الذى أوجب قتله وعدمه، أنه كان فى الدهليز إذا شرب وسكر، وتعين له الغلمان بالشموع، يجذب النمشة، ويضرب الشمع، ويقول:«هكذا أضرب رقاب البحرية» ، ويسمى كل شمعة واحدا من الأمراء البحرية، مماليك أبيه.
ومن أسباب قتله أنه كان أوعد الأمير فارس الدين أقطاى بوعد، وأبطأ عليه، فذكره به على لسان بعض خواصه، فقال:«أعطيه-إن شاء الله-جبا مليحا يليق به» . فبلغه ذلك.
ومن أسباب قتله أن شجر الدرّ-زوجة أبيه-كانت قد توجهت إلى القدس الشريف، ثم عادت إلى القاهرة، فنفذ إليها يهددها ويتوعدها، ويطلب منها الأموال والجواهر، فخافت منه، وكاتبت فيه الأمراء، وحرضتهم على قتله، فاتفقوا عند ذلك على قتله. فلمّا كان يوم الاثنين سابع شهر صفر-وقيل سابع عشر منه- وثب عليه بعض المماليك البحرية، وهو جالس على الكرسى، وضربه بالسيف، قطع يده من أشاجعه. فقام وولى هاربا، ودخل القصر، وصاح:«من يجيرنى؟» . فقال البحرية: «لا والله ما نبقيك، فإنك لا تبقينا» . ثم قالوا فيما بينهم: «ما تنتظرون فيه؟» ثم هجموا عليه، فهرب إلى أعلى البرج، فأطلقوا فيه النار، ورموه بالنشاب،
فرمى بنفسه إلى الأرض، وعاد يعدو بينهم، ويقول:«ما أريد لكم ملك، أعيدونى إلى موضعى بحصن كيفا. يا مسلمين! ما فيكم من يجيرنى؟ ما فيكم من يصطنعنى؟» وهو يستغيث فلا يغاث. وجميع العساكر واقفين ينظرون إليه. فلم يجره أحد، فقتلوه بالنشاب، ثم بضعوه بضعا فى ذلك التاريخ المذكور.
قال ابن واصل: إن قتلة الملك المعظم المذكور كانت لليلتين بقيتا من المحرّم من هذه السنة. وقال: إن أول من ضربه الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى.
وقال: إن من الأمراء الكبار مثل الأمير فخر الدين بن أبى ذكرى، والأمير سيف الدين القيمرى، والأمير عز الدين القيمرى، والأمير فخر الدين حسين، والأمير مجير الدين بن حسين وغيرهم، كانوا حاضرين ما فعله البحرية بالمعظم. ولم ينكروا عليهم ولا أغاثوه، لما كان فى أنفسهم منه من تغيير منازلهم عنده. وقتل وله من العمر دون الثلاثين سنة.
ثم اجتمعت الأمراء على تمليك أم خليل شجر الدّرّ، وأن يكون نائبها الأمير عز الدين أيبك التركمانى الصالحى، وحلفوا على ذلك. ثم ورد الأمير عز الدين أيبك الرومى إلى القاهرة، وحلّف بقية الناس، وعادت التواقيع تخرج بعلامة شجر الدرّ، والتدبير للأمير عز الدين أيبك التركمانى أتابك الجيوش. واستقر الأمر كذلك. وكانت علامة شجر الدرّ على التواقيع ما هذا صفته:«أم خليل» .
ثم بعد ذلك وقع الحديث مع الفرنسيس فى تسليم دمياط، وأن يجودوا عليه بنفسه. وكان الأمير حسام الدين بن أبى على يتردد إلى الفرنسيس-وهو تحت
الاحتراز فى قاعة تعرف بقاعة ابن لقمان، ومترسم عليه خادم فظ غليظ يسمى صبيح، فكان أشد على الفرنسيس من كل شئ، وجرت له مع الفرنسيس أمور كثيرة- حتى قال الفرنسيس للأمير حسام الدين بن أبى على:«سألتك بدينك ألا ما قتلتونى وأرحتونى من حس هذا الخادم ونظره، فإنه أصعب علىّ من كل ما أنا فيه» . وكذلك جرى للأمير حسام الدين بن أبى على مع الفرنسيس محاورات، من جملتها أنه قال له يوما فى جملة كلام:«أنت رجل عاقل، وملك عظيم الرأى، رزين الرأس، وفعلت بنفسك ما لا يفعله المجانين» . قال: «وكيف ذلك يا حسام الدين؟» . قال: «غررت بنفسك وأموالك وجيوشك وركبت هذا البحر المهلك، وتأتى إلى مثل هذا الإقليم العظيم، الذى فيه هذا العالم الكثير، فإن سلمت من البحر وغرقه، لم تسلم من هذه الطوائف العظيمة. ونحن فى ملتنا إن أى من ركب البحر مرّة بعد مرّة لا يقبل الحاكم له شهادة» . قال: فضحك الفرنسيس، ورفع رأسه إلى الأمير حسام الدين، وقال:«وكيف ما يقبل شهادته؟» . قال: «فإنه يكون ناقص العقل، ومن كان ناقص العقل لا تقبل شهادته» . قال الراوى: فاستغرق الفرنسيس فى ضحكه، ثم قال:«والله لقد صدقت، ولقد صدق قائل هذا الكلام من قبلك» . ثم وقع الاتفاق على تسليم دمياط، ويفرج عن الفرنسيس ومن معه من أصحابه.
فلما طلع السنجق السلطانى على دمياط، ورفع على الأسوار، وتسلمها المسلمون، أطلقوا الفرنسيس وجميع من كان معه، وركبوا من ساحل دمياط إلى عكا. وفى ذلك يقول القاضى جمال الدين بن مطروح، وهى القصيدة المشهورة التى من جملتها يقول:
قل للفرنسيس إذا جئته
…
مقال ذى نصح وقول صحيح
آجرك الله على ما جرى
…
من قتل عبّاد يسوع المسيح
أتيت مصر تبتغى ملكها
…
تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم
…
ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكلّ أصحابك أودعتهم
…
بنحس تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفا لا ترى منهم
…
إلاّ قتيلا أو أسيرا أو جريح
وفقك الله إلى مثلها
…
لعل عيسى منهم يستريح
إن كان باباكم بذا راضيا
…
فرب غشّ أتى من نصيح
وقل لهم إن أضمروا عودة
…
لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها
…
والقيد باق والطواشى صبيح
ولمّا رحل الفرنسيس إلى عكا دخلت العساكر إلى القاهرة فى أسرّ حال، وأنعم بال.
وكان عبور العساكر إلى القاهرة لثلاث عشر بقين من صفر. ثم خرجت الخلع للأمراء، والأموال، من شجر الدر.
وفيها استولى الملك المغيث على الكرك والشوبك. وهو الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن السلطان الملك الكامل بن العادل الكبير. وكان قد قعد واعتقل بقلعة الشوبك. فلما قتل المعظم أخرجه بدر الدين الصوابى الصالحى، وكان نائب الكرك عن السلطان الملك الصالح، والشوبك مضافة إليه، وسلمه الكرك، فقام الملك المغيث بملكها، وعاد الصوابى مدبر أمر دولته.
واستمر كذلك إلى حين أخذه السلطان الملك الظاهر البندقدارى، حسبما يذكر من ذلك.
وفيها ملك الملك الناصر دمشق، ولم يجد بها مانعا، فى يوم السبت لثمان مضين من ربيع الآخر. وأخلع على جماعة من الأمراء القيمريّة، وعلى الأمير جمال الدين بن يغمور. وقبض على جماعة من الأمراء المصريين من المماليك الصّالحية المقيمين بدمشق.
وعصى عليه بعض البلاد مثل بعلبك وسرمين وعجلون. ووصل الخبر إلى مصر