الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة ثمان عشرة وستمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ثلاثة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا، وعشرة أصابع.
ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الأمر، مطاع فى أقطار الأرض. والسلطان علاء الدين خوارزم شاه سلطان الدنيا بالممالك الشرقية. والسلطان الملك الكامل ملك الديار المصرية وما معها. وبقية الملوك بممالكهم، وقد قدموا فى هذه السّنة-لنصرة الإسلام-إلى خدمة السلطان الملك الكامل، حسبما سقناه أولا.
ثم إن شوانى المسلمين اقتتلوا مع مراكب الفرنج، فغلبهم المسلمون، وأخذوا من مراكبهم ثلاث [قطع]، بما فيها من الرجال والعدد والسلاح. وفرح المسلمون بذلك، واشتموا روائح النصر. هذا والرسل تتردد بينهم فى أمر الصلح. والملك الكامل يقصد ذلك، ومجتهد على الصّلح، خوفا من إخوته الملوك، حتى إنه دخل تحت كل ما اشترطوه عليه، وهو أن يسلم لهم القدس، وعسقلان، وطبرية، وجبلة، واللاذقية، مع جميع فتوحات السلطان صلاح الدين، ما خلا الكرك والشوبك.
ورضى الملك الكامل بذلك جميعه، حتى ثلثمائة ألف دينار [يدفعها] لعمارة القدس وغيره. ثم قالوا:«ولا بدّ لنا من الكرك والشوبك» ، وتعنتوا فى الشروط تعنتا عظيما. وكان فى ذلك خير عظيم، لما يريده الله عز وجل من نصرة دينه، ويريهم معجزات قدرته، وأن النصر إلا من عنده.
فبينما الرسل تتردد فى ذلك كله، والملك الكامل يحث فى طلب الصلح، ويذعن
بالإجابة لكل ما طلبوه. وكان النيل قد عمّ البلاد، وكان عاليا، لما يريده الله عز وجل من خذلان أعدائه؛ إذ عبر جماعة من عسكر المسلمين فى الخليج وقطعوه، وعدوا إلى جزيرة الفرنج، وقطعوا عليهم جسرا من تلك الجسور المحيطة بهم. ولم يكن للفرنج خبرة بذلك، ولا يعلمون زيادة النيل، فساح عليهم، وغرق خيلهم ودوابهم، ودار بهم الماء من كل جانب ومكان. وعادوا يتأخرون إلى نحو الثغر ولا يجدون سبيلا.
وإن طلبوا نحو البحر لا يجدون سبيلا، ولا مراكبا تطيق العبور إليهم لعظمها.
وضايقهم النيل، ولم يبق لهم غير طريق واحدة، وهى أضيق الطرق، وأى طريق قصدوها غرقوا فيها.
فلمّا علم السلطان بما قد وقعوا فيه من البلاء الذى قد عمهم وطمّهم، أمر بالمراكب، وركبت الجيوش، وأخذوا عليهم سائر المذاهب والطرق، وحازوا بينهم وبين دمياط.
وفى ذلك النهار وصل للفرنج مركب عظيم يسمى مرمة، وفيه خلق عظيم، وسلاح كثير، وحوله عدة مراكب يحفظونه، وهو موسوق مأكول وسلاح وغير ذلك. فخرجت عليه شوانى المسلمين، وقاتلوهم أشد قتال، ونصر الله الإسلام، وأخذوا ذلك المركب العظيم بكل ما فيه. فلما رأوا الفرنج ذلك، انقطعت قلوبهم، وأيقنوا بالهلاك والدّمار. ثم أحاطت بهم عساكر الإسلام من كل وجه بالنشاب والرماح، وقلّ نشاطهم لما نالهم من الغرق الذى لم يكن لهم فى حساب. وأخذتهم الحجارة والنبل، وأحاط بهم البلاء، وصب عليهم الخذلان صبّا. فعندها أرموا خيامهم وأثقالهم، وأرادوا الزحف على المسلمين، لعلهم يقدرون على الوصول إلى ثغر دمياط، فحيل بينهم وبين ما يشتهون، وذلك لكثرة المياه التى عمتهم. فلما عجزوا عن ذلك، ذلت نفوسهم الخنزيرية، ونكست صلبانهم، وقهر شيطانهم، وذل سلطانهم،
فرجعوا إلى مراسلة السلطان الملك الكامل وسألوا الصلح، وطلبوا الأمان لأنفسهم، وأن يسلموه دمياط، ولا يريدون غير خلاص نفوسهم لا غيرها. فاستشار إخوته الملوك فى ذلك، فقال الملك الأشرف-وكان قوى النفس، شديد البأس-:«لا نقبل منهم، ونقتل هؤلاء الملاعين أجمعهم، فإن هؤلاء هم دين النصرانية كله، وهم الصليب بكماله، ونريح الأرض منهم، ولا نبقى على أحد منهم. وقد أمكننا الله عز وجل بقدرته من نواصيهم» . وكذلك قال المعظم فقال الملك الكامل-وكان فيه سياسة ونظر فى العواقب-: «ليس هذا برأى ولا مصلحة. وهؤلاء كبار دين الصليب، وملوك الأرض، والفرنج كثير. وإلى الآن دمياط فى أيديهم. ومتى قتلناهم لا بد أن يأتوا برا وبحرا، وفارسا وراجلا، وأصحابنا فى هذا الوقت قد سئمت نفوسهم من القتال، وكلّوا. وأنهم والله لمعاذير فى ذلك. وقد أنعم الله علينا بهذا الفتح العظيم، الذى ما كان لنا فى خلد. والرأى أن ننعم عليهم بنفوسهم. لكن على ما نريد نحن، لا ما على ما يريدون هم» .
قال ابن الأثير-رحمه الله-فى تاريخه: كانت مدة الحصار والحرب على ثغر دمياط ثلاث سنين، وثلاثة أشهر. وقال غيره: ثلاث سنين وسبعة أشهر.
ثم حصل الصلح بينهم فى حادى عشر الشهر، واتفق الحال بينهم على أن يأخذوا منهم رهائن، حتى تعود رهائنهم. فكان عدة رهائن الفرنج أربعة عشر ملكا وهم:
كرموك بن الباب يعنى خليفتهم، وكرمريك صاحب صقلية، وبندارك ملك النوباردية، وسربار ملك الجزيرة الورانية، والريدكور صاحب المساوى وهو إقليم كبير بالمغرب، وكندفور صاحب جزيرة النمسون، وطرباط صاحب البندقية، وابن الأنبرون، وفرنسيس، وأدورد، والملك أخوزنتون، والملكة صاحبة عكا بنفسها، ورومان ابن صاحب رومية الكبرى وهو المعروف بالكاف، وكندريس الكبير، وهؤلاء أعظم ملوك دين الصليب. ثم رهن عندهم السلطان الملك الكامل ولده الملك الصّالح، وجماعة من الأمراء الكبار المصريين. وكان عمر الملك الصالح فى ذلك الوقت خمس عشرة سنة، فإن مولده فى سنة ثلاث وستمائة، فكان مراهق البلوغ، أو بالغ.
فلما حضروا الملوك من الفرنج-خذلهم الله تعالى-بين يدى السلطان الملك الكامل، أقعدهم بين يديه، بعد ما جلس فى دست مملكته، وأوقف الملوك إخوته بين يديه، وفى خدمته عن يمينه ويساره. فنظر الفرنج ناموسا عظيما، وهيبة وافرة، وجلله الله تعالى بالسكينة والوقار. ثم إنهم أنفذوا قسوسهم ورهبانهم، وسلموا المسلمين الثغر على رغم منهم.
وكان ذلك يوم الخميس تاسع عشر من شهر رجب الفرد من هذه السنة. وقيل تاسع الشهر، والله أعلم. وتسلم المسلمون الثغر فى ذلك اليوم، بعد أذان الظهر.
فما استقرت الأحوال فى تسليمها إلا بعد أذان العصر، حتى وصلت للفرنج ألف مركب موسوقة، رجال وعدد وسلاح ومأكول، فلو علموا الملاعين بذلك، لما سلموا، لكن كانت إرادة الله عز وجل أغلب، وقدرته أعجب.
وكانت الفرنج قد حصنوا دمياط تحصينا عظيما، ثم عادت كل رهائن إلى أهلها.
ورسم السلطان بمبايعتهم. وكان يحمل إليهم فى كل يوم خمسين ألف رغيف من الخبز، ومائتى إردب شعير. ثم توجهوا إلى بلادهم، قيل فى بقية شهر رجب، وقيل استهلوا شعبان، وسافروا.
ولما توجهوا، واطمأنت نفوس الملوك الإسلامية، وردت بشائر السّادة الفضلاء بالتهانى فى قصائدهم المبدعة، ذوو الألفاظ المخترعة. فمن ذلك قصيدة الشيخ شرف الدين ابن عنين، التى أولها يقول:
سلوا صهوات الخيل يوم الوغى عنّا
…
إذا جهلت آياتنا والقنا اللّدنا
غداة لقينا دون دمياط جحفلا
…
من الرّوم لا يحصى يقينا ولا ظنّا
قد اتفقوا رأيا وعزما وهمة
…
ودينا، وإن كانوا قد اختلفوا لسنا
تداعوا بأنصار الصليب وأقبلت
…
جموع كأن الموج كان لهم سفنا
وأطمعهم فينا غرور فأرفلوا
…
إلينا سراعا بالجياد فأرفلنا
فما برحت سمر الرماح تنوشهم
…
بأطرافها حتى استجاروا بنا منّا
سقيناهم كأسا نفت عنهم الكرى
…
وكيف ينام الليل من عدم الأمنا
لقد صبروا صبرا جميلا ودافعوا
…
طويلا فما أجدى دفاعا ولا أغنى
بدا الموت من زرق الأسنة أحمرا
…
فألقوا بأيديهم إلينا فأحسنا
وما برح الإحسان منّا سجية
…
توارثها عن جد آبائنا الأبنا
وقد جربونا قبلها فى وقائع
…
تعلم غمر القوم منا بها الطّعنا
أسود وغى لولا وقائع سمرنا
…
لما لبسوا قيدا ولا سكنوا سجنا
وكم يوم حرّ ما وقينا هجيره
…
بستر وقرّ ما طلبنا له كنا
فإن نعيم الملك فى وسط الشقا
…
ينال وحلو العيش من مرّه يجنى
يسير بنا من آل أيوب ماجد
…
أبى عزمه أن يستقر بنا معنا
كريم الثنا عار من العار باسل
…
جميل المحيّا كامل الحسن والحسنى
سرى نحو دمياط بكل سميذع
…
إمام يرى حسن الثنا المغنم الأسنى
مآثر مجد خلدتها سيوفه
…
طوال المدى يفنى الزمان وما تفنى
وقد عرفت أسيافنا ورقابهم
…
مواقعها فإن عاودوا عدنا
منحناهم منا حياة جديدة
…
فعاشوا بأعناق مقلدة منّا
ولو ملكونا لاستباحوا دماءنا
…
ولوغا ولكنا ملكنا فأحسنا
ثم وردت قصيدة القاضى بهاء الدين بن زهير بن على القوصى، رحمه الله، التى أولها يقول:
بك اهتزّ عطف الدين فى حلل النصر
…
وردّت على أعقابها ملة الكفر
(15 - 7)
ومنها:
وما فرحت مصر بهذا الفتح وحدها
…
لقد فرحت بغداد أكثر من مصر
ولو لم تقم فى الله حق قيامه
…
لما سلمت دار السلام من الذعر
ومنها:
وأقسم لولا عزمة كاملية
…
أخافت بالمقام وبالحجر
وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى
…
لما حلمت إلاّ بأعلامك الصّفر
ثلاثة أعوام أقبلوا وأشهرا
…
تجاهد فيهم لا بزيد ولا عمرو
ومنها:
وليلة فرّ العدوّ وأنها
…
بكثرة من أرديته ليلة النحر
أيا ليلة شرف الله قدرها
…
فلا غرو أن سميتها ليلة القدر
سددت سبيل البر والبحر عنهم
…
فسابحه بر وسانحه بحر
أساطير ليست فى أساطير من مضى
…
فكل غراب راح أقنص من صقر
وجيش كمثل الليل هولا وهيبة
…
وإن زانه ما فيه من أنجم زهر
وباتت جنود الله فوق ضوامر
…
بأوضاحها تغنى السّراة عن الفجر
فما زلت حتى أيّد الله حزبه
…
وأشرق وجه الدين جذلان بالنصر
فرويت منهم ظامئ البيض والقنا
…
وأشبعت منهم طاوى الذئب والنسر
وجاءت ملوك الروم نحوك خضّعا
…
تجرجر أذيال المذلة والصّغر
أتوا ملكا فوق السّماك محله
…
فمن جوده ذاك السحاب الذى يسرى
فمنّ عليهم بالأمان تكرّما
…
على الرغم من بيض الصوارم والحمر
كفى الله دمياط المخافة إنها
…
غدت قبلة الإسلام من موضع البحر
وما طاب ماء النيل إلاّ لأنه
…
يحلّ محل الريق فى ذلك الثغر