الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة
النيل المبارك فى هذه السنة
الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة عشر أصبعا.
ما لخص من الحوادث
الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله.
والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام.
وفيها كان فتح القدس الشريف وغيره.
ذكر فتح القدس الشريف
وذلك أن السلطان صلاح الدين لما تفرغ وجهه من بلاد الشرق كله، وأطاعته سائر ملوكه، أفرغ همته العلية، وفكرته الصالحة، إلى تطهير البيت المقدس من أرجاس الكفر، وخبث الفرنج. وكان ذلك إلهاما من الله عز وجل، وتأييدا للإسلام. وكان يومئذ بالقدس الشريف البطرك الكبير، الذى جميع أهل الصليب يعظمونه ويعتقدونه. وكان بها الباب ابن بارزان صاحب الرملة. وكان فيه خلق عظيم، لا يحصيهم إلا الله تعالى. فلما بلغهم قصد السلطان إليهم حشدوا وتجمعوا من كل فج عميق. وسيّر البطرك يستصرخ بملوك الإفرنج، ويحرم عليهم، ويقول لهم:
«الموت عليكم بهذه الأرض المقدسة أخير لكم مما تسلمون بيت معبودكم» . وبلغ السلطان ذلك فقال: «نعم نأخذه منهم بحول الله وقوته، ونخرب بيوتهم، ونكسر لاهوتهم، ونهدم القمامة التى يدعون أنها القيامة، محل صلاتهم وقبلة ضلالهم» .
ثم نزل السلطان صلاح الدين بجيوشه، والنصر قد حفّه، والملائكة ترفرف بأجنحتها عليه، فى العشر الأول من شهر رجب الفرد من هذه السنة. ونصب عليها المناجنيق والعرادات، ووقع الزحف والقتال، واقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد بمثله من قبله. فلما تعين للفرنج قلة النجاح، وأن المسلمين مستظهرين بالنصر والفلاح، وأن لا بد أن يكون عوض ناقوسهم «حىّ على الصلاة حىّ على الفلاح» ، وأن أمائر النصر قد لاحت، وروائح الفتح قد فاحت، أجمعوا رأيهم فى طلب الأمان، ونفذوا بذلك رسولا إلى السلطان صلاح الدين، فامتنع من ذلك. وكان الفرنج لما ملكوا القدس الشريف من المسلمين قتلوا جميع من كان فيه من المسلمين، ولم يبقوا على رجل منهم، وكان ذلك فى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، ونحروا أولاد المسلمين ونساءهم، ولم يبقوا فى حق المسلمين مجهودا من كل شر. فقال السلطان صلاح الدين:«ما نفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله لما ملكتموه» . فأيقن الفرنج بالهلاك، فاجتمعوا وضربوا بينهم رأيا أجمعوا عليه. ثم إن الباب ابن بارزان سيّر طلب من السلطان أمانا لنفسه، وطلب الحضور بين يدى السلطان، فأنعم له بذلك، وأحضره، وأكرمه، وأجلسه بين يديه.
فلما رأى الملعون إكرام السلطان له، طمّعته نفسه فى طلب الأمان لأهل الحصن، فصعب على السلطان ذلك، وقال:«ما بقى أمان لا لك ولا لهم-ونهره- ولا عدت أفعل بكم جميعكم إلا كما فعلتموه بأهله عند فتحكم له» . فقال الباب: «حفظ الله السلطان، عندى جواب إن أمنتنى من العطب ذكرته بين يديك» . فقال: «قل وأنت آمن» . قال: «إن السلطان يعلم أن فى هذا الحصن خلق عظيم. وإنا لا نطلب الأمان خوفا من الموت، فإن الموت لنا فى هذه الأرض المقدسة خير من الحياة. وإنما شفقة منا على الأطفال والعيال. وقد اتفقنا على رأى، فعن إذن السلطان أقوله» . قال:
«قل» . قال: «يعلم السلطان-حفظه الله-إن اجتمع فى هذا الحصن من الفرسان والأبطال ما لم يجتمع فى غيره، وأنهم لا يفرون من الموت، ولا يرغبون فى الحياة.
وأنا إذا حققنا الموت والله والله والله-كذا يحلف الملعون-لنقتلن كل أسير عندنا من المسلمين، ويكون ذلك فى ذمة السلطان. ثم نقتل بعد ذلك أولادنا ونساءنا، ونحرق جميع أموالنا وأمتعتنا، ولا نترك لنا درهم ولا دينار، ولا ندعكم تأسروا منا رجلا واحدا، ولا صبى واحد، ولا امرأة واحدة. وإذا فرغنا من ذلك أحرقنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من الأماكن الشريفة عندكم. ولا نترك لنا دابة ولا مركوبا إلا أتلفناه. ثم نخرج إليكم عن يد واحدة، فنقاتلكم قتال الموت، وهو من يموت كريما، فلا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله. ولا نزال كذلك حتى نموت عن آخرنا، أو يفعل الله فينا حكمه. وأما قول السلطان إن الذين أخذوا القدس من الفرنج من قديم فعلوا ما فعلوا بالإسلام، فالقاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، لهم إله يختصمون بين يديه. ولا يحل للسلطان أن يأخذنا نحن بذنوب غيرنا ممن سلف. وإن الذين كانوا فيه من المسلمين لو صبروا لكان خيرا لهم. وأما نحن فكما أنهيت من الحال بين يدى السلطان حفظه الله». فأمر السلطان صلاح الدين بخيمة فضربت له، وأنزل فيها، ثم طلب أكابر دولته، واستشارهم فيما قاله الباب، فقالوا:«بل الرأى أن يعطيهم السلطان الأمان، فهو خير مما ذكروه» . فأمنهم السلطان، وتسلم البيت المقدس يوم الجمعة لثلاث بقين من شهر رجب من هذه السنة.
وكان يوما مشهودا. ودخل السلطان صلاح الدين إلى الصخرة الشريفة المقدسة وهو فى غاية الفرح والسرور، إذ جعله الله تعالى فى هذا الفتح ثانى عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وسيرت البشائر إلى سائر البلاد الإسلامية. وفى ذلك اليوم طلع القاضى محيى الدين بن القاضى زكى الدين، وخطب.