الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم:
89- دولة الظّاهر بأمر الله
أبي نصر محمد «1» بن أحمد الناصر، وتقدم له في ذكر أبيه أرج لا يركد نسيمه، وتحرك روض لا يمل شميمه، ووصف طود لا يرقى صاعده، وبحر لا يتعب وارده، وسحاب لا يعيى رائده، ومقسط يأتي يوم القيامة على منبر من نور، ومنصف لو أبهم عليه وجه الحق، لشق عن سنا فجره قلب الديجور، كان إمام عدل، وغمام وبل، وقيم دين، وضيغم عرين، وكافلا بإزالة كل شنيعة، وكاسرا لصولة بدع الشيعة، وكل شيعة، كشف على تمويهات المذاهب ونقب، وأتي على ما أخّر أبوه من رقيق غيمها وعقب، برأي رام لا تخطئ صوائبه، وذكاء فطن لا تلتبس مذاهبه، وكان لله منه جانب لا يضيعه، وسر كالمسك يجتهد في كتمانه فيذيعه، وقد أومينا بطرف الإشارة إلى ما كان من مصارعته بحضور أبيه الجاموس، حتى أكمن له هذا في قلب أبيه غلّا من الحقد، وأمكن لأجله من ساقه قيدا كالخلخال، ومن عنقه كالعقد، مع ما كان في نفس أبيه من تقديم أخيه عليّ على هواه، ومباينته [ص 195] في المعتقد، لما طواه،
لأن الظاهر كان على خلاف الباطن من عقيدة أبيه، كان كل منهما في طرف لا يخادع فيما عرف، فأما الابن فاستقام على الطريقة، وأما أبوه فانحرف، فأمسكه وكبّله بالحديد، وثقفه وألقى عن عاتقه نجاد ولاية العهد، ونزع مطرفه، ثم لما مات أخوه عليّ، وأقفر بيت أبيه من ولد له يلي، وارجحنّ عقله الذاهب، وكان أثرا لمصائب، كأنه قد كان بلي بذهاب لبه، وأصيب بكل عقله، لا ببعض قلبه، أعاد تقليد ولده الظاهر ولاية العهد، وأعد له المنبر كمينة النهد هىء له، والسرير ما لم يكن إلا له، من حين فارق حجور المراضع، وقاطع ذروة المهد، وخطب له ببغداد، ثم صار إلى الأمصار، وضرب اسمه على السلك، وأنار وجه الدرهم والدينار، وهو مع هذا كله مرتهن عند أبيه في التعويق، مثقّف في الحديد بالقيد الوثيق، موكلا به في دار ترك عنده جارية، ورتب له فيها كفاية جارية، قد أيقظ عليه عيونالا تهجع، حتى توقظ أخرى، ورقيا لا تغفل شفقا ولا فجرا، حتى شاء الله أن يشق صدفته عن درتها، وتتصدع صخرته عن زبرتها، وتنفرج أفنان غابته عن قسورتها، وتتمحّص مدرة أرضه ليخرج مدرتها، فمات أبوه ورغم معطس من كان يأباه، يريد أن لا يكون أخوه، وخرج من معتقله خروج الأسد من وجاره «1» ، والكوكب الدري من حجب أفوله، والبدر التمام من خدور سراره، وانتضى انتضاء المشرفي المرهف، وخلص من السقيف خلوص السمهري المثقف، وأصفقت الأيدي على مبايعته بالإمامة، ورقى ذروة المنبر وعليه لواء الكرامة، وهيّأ الله له ما أراده من الخير، وأحسن له الحسنى، وأحل الغير بالغير، وأعادها عمرية ليس فيها جناح، وقمرية خدم فيها البدر من العشاء إلى الصباح، ولم يكن في حظ زمانه أن تدوم وأن تتم، وعدله قمرها المنبر، وعيون أخباره النجوم، فكنت [ص 196] لا ترى في مدته إلا سنّة
وكتابا، وإماما ومحرابا، وسيئة محيت وبدلت ثوابا، وعدلا فتح له بابا، وظلما سد له بابا، وقائلا يهدي وقائلا «1» كان في حر الهجير أطل عليه ندى، ورفقا أرأف بالأمة من الوالدات على الفطيم، ولطفا يصد سموم الشمس فيأذن للنسيم، وشكرا يروع العذارى فيلمس جانب العقد النظيم، وقد ذكر الوزير أبو غالب نسخة من كتب عن الناصر بخلع ولده الطاهر لما خلعه، بخط المكين ابن العلقمي «2» ، ومنه: (وقد كان أمير المؤمنين قلّد ولده أبا نصر محمدا ولاية عهده، ورشحه من بعده، مؤملا منه التخلق بشريف أخلاق أمير المؤمنين التي هي من أخلاق آبائه مقتبسة، وعلى أساس التقوى مبنية ومؤسسة، فلما أن وقت بكامل رشده، رأى من نفسه القصور عن التزام شروط هذا الأمر، واستقال منه، وسئل أمير المؤمنين نزع لباسه عنه، وكتب خطه عن ذلك وتركه، وحل ما عقد له منه وفكه، وتيقن من حاله وأمره، أنه لا يصلح لخلافة المسلمين في الحاضرة، ولا في بقية عمره، وأشهد بذلك عليه، وخلع نفسه عما كان فوّض إليه، وأمير المؤمنين لم يخل في كل وقت باعتبار طرائقه واستقرائها، وتتبع خلائقه واستبرائها، إلى أن استبان ما كان من أحواله يلوح، وتألق نجمه من مراصد الوضوح، فلم يسع أمير المؤمنين إلا استخارة الله في إقالته، وطلب رضاه سبحانه في حل عقد ولايته، وأقال ولده، وحل ماله من ولاية العهد في المسلمين عقده، ونقض ما إليه عهده، وأسقط ذكره من الخطب، ومحا اسمه من السكك، اجتنابا من تقلد أوزاره، وتحمل أثقال إثمه وآصاره «3» ، وأمير المؤمنين قد شهد لله بما علمه، وإن كان على ولده، ولم تأخذه لومة لائم في لزوم منهج الحق وجدده، «4»