الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
109- دوّلة الوليد بن يزيد بن عبد الملك
الجبار العنيد «1» ، لقبا ما عداه، ولقما سلكه فما هداه، حقيقة تمهجها، وطريقة تهجمها، فرعون ذلك العصر الذاهب، والدهر المملوء بالمعايب، يأتي يوم القيامة يقدم قومه فيوردهم النار، ويرديهم العار، فبئس [ص 293] الورد والمورود، والبرد المودي في ذلك الموقف المشهود، رشق المصحف بالسهام، وفسق ولم يخف الآثام، وكفن وهو يدعى بالإمام، يسعى بما لم يحمده الله ولا الأنام، وأبرز جارية وطئها لتصلي بالناس في زي غلام، ورضيها استخفافا من بذلك المقام، لكنه كان فتى من فتيان قريش، يرتاح للندى، ويلتاح قمرا إذا بدا، لم يكن في بني مروان أفخم منه وسامة، ولا أفخر إذا لبس العمامة، يعطي الألّاف الآلاف، ولا يبالي في التلاف، جودا خلق من عنصره، وخلّق وهو نطفة من عنبره، استنشد طوائف الشعراء وأجازهم، واستقدم أهل الغناء ليكمل به مجلسه، وما عازهم، وما سمع بفتاة ذات جمال إلا هام بها، وهان عليه ما
يبذل بسببها لإفراط ولعه بالقيان، ونزوعه إلى المشاهدة لهن والعيان، هوى سلمى وسعدى، وفني بهما تيتما ووجدا، خطبهما في آل عثمان أختين كلف بكل واحدة منهما كلفا، انتهب خلبه، وشغف شغفا سلب من صدره قلبه، حتى كانت تلك الميتة ميتته، وتلك البيتة التي صبح في غداتها بيتته، ولحب عليه الدار، ولحّت عداته في طلبه بالدمار، فلما علم أن الموت قد أبرز له من خبّ الضلوع دفائنه، وأنشب به من مدى الأعداء براثنه، تاب حين لا متاب، وعتب حين لا ينفع الإعتاب، ولا يسمع العتاب، وأخذ المصحف وقعد يقرأ القرآن، ويدرأ الحد بالتظاهر بالإيمان، وبعد عن نفسه حين لا ينفع نفسا إيمانها، ولا يكفر سيئات إحسانها، ظنا أنه يقيه الإيمان ويقول يوم كيوم عثمان، وهيهات وقد حضرت المنية، ونظرت إلى مواضعها في بيوته الرزية، ونضحت على وريده رشاش البلية، وإنما عوقب بحق واضح، وحوب فاضح، انتهك حرمة الإسلام، فأخذ تلك الأخذة الرابية.
وحكى ابن الأثير: أن الوليد هذا قال: الغناء يزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وينوب عن الخمر، ويفعل ما لا يفعل السكر، فإن كنتم [ص 294] ولابد فاعلين، فجنبوه النساء، فإن الغناء فيه الزنى، وإني لأقول ذلك على أنه أحب إليّ من كل لذة، وأشهى لنفسي من الماء إلى ذي الغلّة، ولكن الحق أحق أن يتّبع.
حكى البلاذري قال: وكانت عنده ابنة سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، فزارتها أختها سلمى بنت سعيد، وكانت من أحسن الناس وجها، فبصر بها الوليد فأعجبته، وذلك قبل الخلافة، فطلّق أختها، ثم خطبها إلى أبيها، فامتنع عليه وقال: إنك «1» تريد مني أن أتخذك فحلا لبناتي، فكان يهجوه، ثم ما زال
يشكو حبّها حتى افتضح، وفيها يقول:«1»
[الوافر]
تذكر شجوه القلب القريح
…
فدمع العين منهمل سفوح
ألا طوقتك بالبلقاء سلمى
…
هدوّا فالمطي بنا جنوح
فبتّ بها قرير العين حتى
…
تكلّم ناطق الصبح الفصيح
وبلغه أن هشاما همّ بخلعه، واجتثاث أصله وقلعه، فقال:«2»
[الطويل]
خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككم
…
بيانا يساوي ما حييت قبالا
ذروا لي سلمى والطلاء وقينة
…
وكأسا ألا حسبي بذلك مالا
أبا لملك أرجو أن أعمّر فيكم
…
ألا ربّ ملك قد أزيل فزالا
إذا ما مضى عيشي برملة عالج
…
وعانقت سلمى لا أريد بدالا
قالوا: ولما ولي الخلافة بعث إلى سعيد بن خالد، فقسره على أن زوّجه بسلمى ابنته، فلما حملت إليه من المدينة، اعتلّت في الطريق، وماتت ليلة أدخلت عليه، ولم يزل على هذا حتى وثبت اليمانية فقتلوه، وبايعو يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان على هناته مدره جدال، وندرة رجال، لا يقطع باحتجاج، ولا يقنع بما دون الحجاج. قال له هشام يوما كالعاتب به، المعير بمدامه، اللابث على شربه: ما شرابك يا أبا العباس؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين وقام مغضبا، فقال هشام: أهذا الذي تزعمون أنه أحمق، ما هو والله بأحمق، ولكني أظنه على غير الملة.
ومن حديث المدائني قال: [ص 295] دخل الوليد يوما، فجلس [مجلس] هشام، ثم أقبل هشام، فما كاد الوليد يتزحزح له عن صدر المجلس، فزحل قليلا، وجلس هشام، فقال: كيف أنت يا وليد، قال: صالح، قال: ما فعلت برابطك، قال: معلمه، قال: فكيف ندماؤك؟ قال: لعنهم الله إن كانوا شرا من جلسائك، فغضب هشام، وقال: أوجئوا عنقه، فلم يفعلوا، ودفعوه دفعا رفيقا، فقال الوليد:«1»
[البسيط]
أنا الوليد أبو العباس قد علمت
…
عليا معدّ مدى كري وإقدامي
أكون في الذروة العلياء إن نسبوا
…
مقابلا بين أخوالي وأعمامي
وقال: «2»
[الطويل]
أنا ابن أبي العاصي وعثمان والدي
…
ومروان جدي ذو الفعال وعامر
أنا ابن عظيم القريتين وعزّها
…
ثقيف وفهر والرجال الأكابر
نبيّ الهدى خالي ومن يك خاله
…
نبيّ الهدى يعل النهى في المفاخر
ولما زاد ضرر هشام به، ونظر إلى ما يغشاه من قطيعته وسبّه، كتب إليه يقول:«3»
[الطويل]
رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي
…
فلو كنت ذا عقل لهدمت ما تبني
ستترك للباقين عني ضغينة
…
وويل لهم إن متّ من شرّ ما تجني «1»
وقال الهيثم بن عدي: كان الوليد يسمى البيطار، لأنه كان يصيد الحمر الوحشية، فيسمها بالوليد، ثم يخليها، فوجدت في أيام السفاح والمنصور موسومة باسمه. وكان يحب دخول الكوفة والحيرة، فخرج كالمسدي «2» ، ثم أتى الكوفة، فنادمه سراعة ومطيع بن إياس، وحماد الراوية، وحماد عجرد، واك «3» عبد الله بن مطيع، وكان ممن سمع بها فأعجبه غناء قينتين لعبد الله بن هلال الهجري، المعروف بصديق إبليس، فقال «4» :
[الكامل]
يا أهل بابل ما نفست عليكم
…
من عيشكم إلا ثلاث خلال
خمر العراق وليل قيظ بارد
…
وسماع مسمعتين لابن هلال [ص 295]
وروى البلاذري عن إسحاق بن محمد قال: دخلت على منصور بن جمهور «5» وعنده جاريتان من جواري الوليد، فقال: اسمع ما يحدثانك به، فقالتا: كنا آثر جواريه عنده، فوطئ هذه، فجاء المؤذن يؤذنه بالصلاة، فأخرجها
وهي جنب متلثمة، فصلت بالناس. وحكى أن نقش خاتمة كان:(أؤمن بالله مخلصا)، وإنه كان يقول عقب كل حوب: استغفر الله.
قال البلاذري: كان الوليد شديد البطش، طويل أصابع اليدين والرجلين، توتد له سكة الحديد وفيها خيط، ويشد الخيط في رجله، ويؤتى بالدابة فيثب عليها، فينزع السكة، ويركب ما يمس الدابة بيده. وروى مسلمة بن محارب، أن أيوب السختياني قال حين بلغه مقتل الوليد: ليتهم تركوا لنا خليفتنا فلم يقتلوه.
قلت: وإنما قال ذلك خوفا من الفتنة. وقال المهدي يوما وقد ذكر الوليد رحمه الله، ولا رحم قاتله، فإنه قد كان إماما مجمعا عليه، فقيل له إن الوليد كان زنديقا، فقال: إن خلافة الله عز وجل [أجل]«1» من أن يوليها من لا يؤمن به. قلت: ولئن صح أن المهدي قال هذا، مع سوء رأي القوم في أخبار بني أمية، كيف في شرارهم، فإنما قاله إقامة لحرمة الخلافة أن تنتهك.
وللوليد: «2»
[الطويل]
وأقسم ما أدنيت كفّي لريبة
…
ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
…
ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة
…
من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي
[ثم] :