الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كم شامت بي إن هلك
…
ت وقائل لله درّه
ثم:
57- دولة المهديّ
أبي عبد الله محمد بن المنصور «1» ، وكان أبوه قد قرر أموره، وقرّب له مد الخلافة، وما مات حتى أكد له البيعة، ووثق له أسباب الملك، وكان مما بالغ فيه من التمهيد له، أنه آثره دونه بحسن السمعة، وخلاص الذمة، فإنه أخذ أموالا حسنة من الناس وأودعها «2» بيت المال في أكياسها، وكتب على كل مال اسم صاحبه، ثم لما عزم على الحج، قال له: يا بني، إذا أنا متّ ردّ كل مال على صاحبه ليحبّوك، فلما مات رد الأموال على أهلها. وقالوا: ظلمنا أبوه وأنصفنا هو، فأحبّوه وتيمنوا بأيامه، ولما ولي نفّس خناق الناس، وحل عقد أبيه، وأزال تشدده، وأطلق ما أمسك به يده، ولم يحرم طالب ثواب ولا آخذ بطائل عقاب، وكانت أيام هدوء وأعوام خصب، رقت بها حواشي الحنو، وردت الأمة مناهلها صفوا، وردت نقمها عفوا، وورفت ظلال حلمها، فلم يدع هفوا،
وأكثر نقلة الأخبار على أنه كان لا يرتضع كأسا، ولا يكاثر لهوا، ولا يقبل فيما ينشد لغوا، يربأ بنفسه أن يتشاوس نظره زهوا، ويأبى أن يقارف عزيمته، وكان قويا مهيبا متوسطا في أموره، متناسبا في أحواله، وفي المهدي يقول ربيعة الرقي:«1»
[السريع]
قد بسط المهديّ كفّ الندى
…
للناس والعفو عن الظالم [ص 116]
فالراحل الصادر عن بابه
…
مبشّر للوارد القادم
وكان المنصور يريد أن يجعل العهد إليه، وكان إلى عيسى بن موسى، فتحيّل له بأنواع الحيل حتى جعله إليه، وعوض عيسى بن موسى بعشرة ألف ألف درهم، وجعله بعد المهدي (........) «2» :
[الرجز]
قل للأمين الواحد الموحد
…
إنّ الذي ولّاك ربّ المسجد
ليس وليّ عهدنا بالأسعد
…
عيسى فردها إلى محمد
فرواها الخدم والبطانة وبلغوها بإذنه المنصور، فدعي به في مجلس حافل وفيه عيسى بن موسى، فاستنشده فأنشده إياها، وكان فاتحة لكلام المنصور، ثم إن عيسى بن موسى دسّ على أبي نخيلة من قتله وسلخ وجهه.
وعن سوّار قال: انصرفت يوما من دار المهدي إلى منزلي، فدعوت بالغداء،
فجاشت نفسي، فدعوت بالنرد، فلم تطب نفسي، فدخلت القائلة، فلم يأخذني النوم، فنهضت فركبت بغلة لي وخرجت، فاستقبلني وكيل لي بألفي درهم، فقلت دعها معك واتبعني، ثم خليت رأس البغلة حتى انتهيت إلى باب دار لطيف عليه شجرة، وعليه خادم، فوقفت وقد عطشت، فقلت للخادم:
أعندك ماء؟ قال: نعم، وقام فأخرج قلّة نظيفة طيبة الرائحة، عليها منديل، فشربت، وحضرت العصر، فدخلت مسجدا هناك، فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي، إذا أنا بأعمى يلتمس، فقلت: ما تريد يا هذا؟ قال: إياك أريد، فقلت: وما حاجتك؟ فقال: أرأيت باب هذا القصر؟ قلت: نعم، قال: هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان، وخرجت معه، فزالت عنا النعم، فأتيت صاحب الدار لأسأله شيئا يوصلني إلى سوّار فإنه كان صديقا لأبي، فقلت:
ومن أبوك؟ قال: فلان، فعرفته، فقلت: إن الله قد أتاك بسوار، منعه الطعام والنوم حتى جاء به إليك، ثم أخذت الدراهم من الوكيل [ص 117] فدفعتها إليه، وقلت له: إذا كان غد فصر إلى المنزل، ثم أتيت المهدي، فطرفته بحديثه، فأعجبه، وأمر له بألفي دينار، فنهضت فقال لي: أعليك دين؟ قلت: نعم، قال: كم؟ قلت: خمسون ألف دينار، فأمسك، وجعل يحدثني ساعة، ثم أتيت منزلي، فإذا خادمه معه خمسون ألف دينار، قال: يقول لك أمير المؤمنين، اقض بها دينك، ثم لما كان الغد أبطأ عليّ الأعمى، وأتاني رسول المهدي يدعوني، فجئته، فقال: فكرت في أمرك، فقلت: يقضي دينه ثم يحتاج إلى العوض، وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى، فقبضتها وانصرفت، فأتاني الأعمى، فقلت له: قد رزق الله بكرمه بك خيرا كثيرا، فأعطيته صلة المهدي، ومن عندي مثلها.
وعن هشام الكلبي قال: طلبني المهدي فلما صرت إليه، أقرأني كتابا،
فألفيته يتضمن شتمه وسبّه، فألقيته من يدي، ولعنت كاتبه، وقلت: من كاتب هذا الملعون الكذاب؟ فقال: هذا الأموي صاحب الأندلس، فقلت: فهو وآباؤه وأمهاته، والله أهل لذلك، فسرّ بقولي، ثم قال: أقسمت عليك لما أمللت مثالهم كلهم على هذا، وأشار إلى كاتب من كتاب السر فأمللته، ولم أبق شيئا، فلما فرغت منه عرضته عليه، فأظهر السرور، ثم ختم الكتاب وجعله في خريطة، ودفعه إلى صاحب البريد، وأمره بتعجيله إلى الأندلس، ثم أمر لي بألفي دينار وعشرين ثوبا وبغلة شقراء بسرجها ولجامها من مراكبه، وأقطعني أرضا بالبصرة، ثم قال: اكتم ما سمعت.
وعن عبد العزيز بن الماجشون «1» قال: سألني المهدي فقال: ما قلت حين فقدت أصحابك، يعني الفقهاء، قال قلت:
[البسيط]
يا من لباك على أصحابه جزعا
…
قد كنت أحذر ذا من قبل أن يقعا
فليصنع الدهر بي ما شاء مجتهدا
…
فلا زيادة شيء فوق ما صنعا
فقال: والله لأعيننك، فأجازه بعشرة آلاف دينار، فقدم بها [ص 118] المدينة فأنفدها في السخاء والكرم.
وعن واضح قهرمان المهدي قال: كنت معه بما سبذان «2» ، فلم أزل معه إلى بعد العصر، ثم انصرفت إلى مضربي، فلما كان وقت السحر الأكبر، ركبت
لإقامة الوظائف، فسرت منفردا من غلماني، فلقيني أسود عريان على فرد رجل، فدنا مني ثم قال: أعظم الله أجرك في مولاك المهدي، فهممت أن أعلوه بالسيف، فغاب عني، فلما انتهيت لقيني مسرور، فأعلمني بموته، فدخلت فإذا به مسجى، وقيل: مات لأنه طرد ظبيا، فاقتحم خربة، فدخلها ورآه، فدق ظهره باب الخربة فمات، ومولده سنة سبع وعشرين ومائة، ووفاته في المحرم سنة تسع وستين ومائة، وعمره اثنتان وأربعون سنة، ومدته عشر سنين «1» وشهر وأيام، وقبره بما سبذان من (.....)«2» ولما قارب دنو أجله، رأى قائلا ينشده، يسمع صوته ولا يشهده:
[الطويل]
كأني بهذا القصر قد باد أهله
…
وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة
…
وملك إلى قبر عليه جنادله
ولم يبق إلا ذكره وحديثه
…
ينادى عليه معولات حلائله
فما بقي إلا عشرة أيام ومات، واختطفه عقاب الملمات، كنّ حظاياه قد بكرن في الوشي وقت الصبوح، ثم عدن قبل الظهيرة وعليهن المسوح، فقال أبو العتاهية:«3»
[مجزوء الرمل]
رحن في الوشي وأقبل
…
ن عليهن المسوح
كلّ نطّاح من الدن
…
يا له يوم نطوح
لست بالباقي ولو عم
…
رت ما عمّر نوح