الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى نام، وعمدت إلى مرفقة محشوة ريشا، فجعلتها على وجهه وجلست عليها حتى مات غمّا، ثم صرخت وجواريها وقلن: مات أمير المؤمنين فجأة، وقيل: بل كان يعجبه اللبن فجاءته بلبن مسموم، فقال: ايتوني به إذا أفطرت، فلما أفطر أتوه به فشربه، فاعتقل لسانه، وصرخ جواريها، وأقبل يشير إلى من اجتمع إليه من ولده وغيرهم، أنها قتلتني، وجعلت هي تقول: أما ترونه يوصيكم بي ويشير إليكم بحفظي [ص 252] .
وولد مروان لثلاث من الهجرة، وتوفي في رمضان سنة خمس وستين، وهو في ثلاث وستين سنة، ومدة خلافته تسعة أشهر وأيام، وقبره بدمشق.
ثم:
102- دوّلة ابنه عبد الملك بن مروان
ابن الحكم «1» ، أبو الوليد، الفحل الذي لم يخطم، والرمح الذي لم يحطم، سهم لا تعدله خطا، وسيف لا يحدث لنبوته نبا، ثارت عليه ثوار فوطئهم بميسمه، وأبكاهم دما بدوام تبسمه.
كان ابن الزبير بمكة، وأخوه مصعب بالعراق، وخرج عليه عمرو بن
سعيد «1» بدمشق، وكاد يصيبه الرشق، ويصل إليه من تغريق الخطبة المشق، وأحاط به البلاء، وادّاركت عليه النّوب الولاء، وظن أنه قد أخذ، وأن ملكه قد تمزق، وهو مع هذا جمل تحمل ما حمل، وجبل لو تقسمه أهل الأرض ما حوّل، فجثا على ركبتيه، وجفا المنام مقلتيه، وادّكر تحيف القوم لممالكه، وتحيّن الأوقات لمهالكه، فشمر لطلابها، وضمّر خيله لغلابها، وبدأ بالعود إلى دمشق وخادع عمرو بن سعيد حتى استنزله عن سريرها، واستقلّه أن يبيت ضجيع سرورها، وما زال به حتى استدعاه خاليا، واستدناه مماليا، حتى إذا كان قريبا منه وثب عليه، وبث سر حنقه إليه، ثم أشرف فهاله تجمع أصحابه بداره ليوقع ما به وبداره، وكان لا طاعة له على جمعهم، ولا طاقة له بدفعهم، فوجد الحيلة أنصر له وأقدر على هدر دم من قتله، فكأنما كان سكر أصحابه، فألقى رأسه إلى أصحابه، مقرونا بنثار من الذهب، شغلهم لقطه عن أخذ ثأر من ذهب، فراح دمه مطلولا، وطاح لا يجد عنه سائلا ولا مسئولا، ثم يطلب الاثنين ولم يبد اكتراثه، ولا قال: وما شر الثلاثة «2» ، فوجه الحجاج نحو ابن
الزبير، يمحو بقية ذلك الخير، ففعل تلك القبائح [ص 253] وأكثر بمكة لا بمنى تلك الذبايح، من دماء محرمات سفكها، وحرمات انتهكها، ورمى بخطارة المنجنيق، حجارة البيت العتيق، نصبها على أبي قبيس وقيقعان «1» ، ورمى الكعبة فتحامتها الحجارة، ورامتها فما أومى إليها بناؤها بإشارة، وحمت الملائكة حماها، وصانت عن تقبيل ثغور تلك الحجارة لماها، ففطن أن الملائكة تدفع عن أركانها، وتمنع من مكانها، فلطخ الحجارة بالعذرة، وألقاها إذ كانت الملائكة تتوقاها، فأصاب جدارها، وأصار إلى الأرض أحجارها، فأحل من الحرم ما لم يحل، واستحل ما لا يجوز لمستحل، وبث الأضاليل، ونصب حبائل الأباطيل، وقصد بيت الله بأشد مما قصده إبرهة عام الفيل، إلا أن حرمة تسميته بالإسلام، دفعت عنه عاجل البلاء، وأخّرته وما تقول إنها سامحته، ولكنها أنظرته، ثم لما قتل ابن الزبير، أمر له بجذع فنصب، ومنّ به إليه فصلب، وكانت أمه قد قالت له: يا بني لأن تقتل خير من أن تختل «2» ، فقال: أخشى أن يمثلوا بي، فقد نمي إليّ أنهم تقبّلوا له بصلبي، فقالت: يا بني لا يضرك هرير النبح، فالشاة لا يؤلمها السلخ، بل الذبح، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول:
جنبوني خشبة ابن الزبير وتجنّبها، ويحس بها ولا يقربها، فعبر ليلة عليها فوقف عليه مترحما، وقال: والله لقد عهدتك صوّاما قوّاما، وإنما أعجبتك بغلات معاوية، وولى ودموعه هاوية.
وذلك بعد أن نهد عبد الملك إلى مصعب، ونهض كأنه جمل مصعب، فسار يتقدم فرسانه، ويتخطم في أرسانه، ولم يثن همّته فيما يصان به عرينها حصان عليها عقد در يزينها، إذ كان من قوم من عهد لؤي بن غالب، ما لوى به
غالب، إذا حاربوا شدوا دون النساء مآزرهم، وشد بصدق الحفيظة موازرهم، وأعمل الحيلة على مصعب، بكتب إلى أصحابه كتبها، وأعاجيب كذب كذبها [ص 254] وكان الملتقى، فخذل مصعبا أصحابه، وخزل جمعه حتى خلت منهم رحابه، فتركوه وأسلموه، وخلوه لمضارب السيوف وسلموه، وكان عبد الملك يكنى بأبي الذباب لبخره، كانت لثته تدمى دائما فيتغير ريحها، وكان مظفرا على أعدائه، فإنه غلب في أيامه على عدة رجال أكابر كلهم كانوا في زمانه يبارونه في السلطان، مثل عبد الله بن الزبير، والمصعب أخوه، وعمرو بن سعيد الأشدق، وعبد الرحمن بن الأشعث، فكل واحد منهم ما قام له معه قائمة، وكلهم قتل وحكم قاضية، ومع هذا فلم ينفعه ولا أغنى عنه شيئا، حتى تمت أيامه، وأتاه حمامه، ويؤيد هذا خبر الرجل الذي ورد على معاوية وكان من أهل الكتاب والعلم بالحدثان، فقال له معاوية، أتجدني في شىء من كتاب الله، قال: أي والله، حتى لو كنت في أمة من الأمم لوضعت يدي عليك من بينهم، قال: فكيف تجدني، قال: أول من يحول الخلافة ملكا، والخشونة لينا، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، قال له معاوية: ثم يكون ماذا، قال: ثم يكون منك رجل شرّاب للخمر، سفّاك للدماء، يصطنع الرجال، ويحتجن الأموال، ويجنب الخيول، ويبيح حرمة الرسول، قال: ثم ماذا، قال ثم تكون فتنة تتشعب تقوم حتى يفضى الأمر إلى رجل أعرفه بعينه، يبيع الدار الآخرة الدائمة بحظ من الدنيا مخسوس فيجتمع عليه من آلك، وليس منك، لا يزال لعدوه قاهرا، وعلى من ناوأه ظاهرا، ويكون له قرين أمين مبين، قال: أفتعرفه إن رأيته، قال: أشد ما أراه من بني أمية بالشام، قال: ما أراه هاهنا، فوجهه إلى المدينة مع ثقات من قومه، فبينما هو يمشي في أزقة المدينة إذ رأى عبد الملك يلعب بطائر على يده، قال: ها هو ذا، ثم صاح به، أبو من، فقال: أبو الوليد، فقال: يا أبا الوليد، إن بشّرتك ببشارة تسرك ما [ص 255] يكون لي عندك، فقال: وما
مقدارها حتى أرى ما يكون مقدارها من الجعل، قال: أن تملك الأرض، قال:
مالي من مال، ولكن أرأيت إن تكلفت لك جعلا أتاني ذلك قبل وقته، قال: لا، قال: إن حرمتك أيؤخر ذلك عن وقته، قال: لا، قال: فحسبك.
وكان عبد الملك من أكثر الناس علما وأبرعهم أدبا، وأحسنهم ديانة في شبيبته، وكان يواضب المساجد حتى سمي حمامة المساجد، وكان لا يعيى بجواب إلا إن كلم أخاه عبد العزيز. حكي أن عبد الملك استقبل أخاه عبد العزيز حين رجع من مصر على ألف جمل، فقال له: على كم كانت البدأة، فقال: على مائة، فقال عبد الملك: ما عير أحق بأن يقال لها: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ)
«1» من عيركم هذه، فقال له عبد العزيز:(إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)
«2» .
وحكي عن عبد الملك أنه لما أراد الخروج إلى مصعب، تعلقت به عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وجعلت تبكي، حتى بكى لبكائها حشمها، فقال: قاتل الله كثيرا، كان يرى موقفنا هذا حيث يقول:«3»
[الطويل]
إذا همّ بالأعداء لم يثن همّه
…
حصان عليها عقد درّ يزينها
نهته فلما لم تر النّهي عاقه
…
بكت فبكى مما شجاها قطينها
ثم خرج يريد مصعبا وكثيّر في موكبه، فقال: يا أبا جمعة، ذكرتك الساعة بيتين من شعرك، فإن أصبتهما فلك حكمك، قال: نعم، أردت الخروج فبكت عاتكة بنت يزيد، وبكى حشمها، فذكرت قولي، وأنشده البيتين، قال:
نعم، وأعطاه ما طلب، ثم نظر إليه في عرض الناس مفكرا، فقال: عليّ بأبي جمعة، فجىء به، فقال: إن عرفتك بفكرتك فيم هي فلي حكمي؟ قال: نعم، قال: قلت في نفسك: أنا في شر حال، خرجت مع رجل من أهل النار، وليس على نحلتي، وربما أصابني سهم غرب «1» فأتلفني لغير معنى، قال: والله يا أمير المؤمنين، ما أخطأت ما في نفسي، قال: فاحتكم، قال: حكمي أن آمر لك بعشرة آلاف درهم [ص 256] وأردك إلى منزلك، ففعل به ذلك، فمدح كثير عبد الملك، فمما قال فيه:«2»
[الطويل]
يجيئون بسّامين طورا وتارة
…
يجيئون عبّاسين شوس الحواجب
من النفر البيض الذين إذا انتجوا
…
أقرّت لنجواهم لؤي بن غالب
كريم يؤول الراغبون ببابه
…
إلى واسع المعروف جزل المواهب
إمام هدى قد سدد الله رأيه
…
وقد أحكمته ماضيات التجارب
والتقى عبد الملك ومصعب «3» بالجاثليق، فبقي مصعب كلما قال لرجل:
احمل في خيلك، اعتل عليه، ولحق غالبهم بعبد الملك وبقي مصعب في شرذمة قليلة، وحمل عليه عبد الله بن زياد بن ظبيان، فرفع يده ليضربه، فبدره مصعب فضربه على البيضة، فنشب السيف في البيضة، فجاء غلام لعبيد الله فضرب مصعبا فقتله، ثم جاء عبيد الله برأسه إلى عبد الملك، فخرّ ساجدا، فقال عبيد الله: ما ندمت على شىء ندمي على عبد الملك حين سجد، إذ لم أضرب عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد، وفي ذلك يقول:
[الطويل]
هممت ولم أفعل وكدت وليتني
…
فعلت فأدمنت البكا لأقاربه
فأوردتها في النار بكر بن وائل
…
وألحقت من قد خرّ شكرا بصاحبه
وأما حديث قتل عمرو بن سعيد الأشدق، وأبوه سعيد بن العاصي، وكان يقال لعمرو لطيم الشيطان، فهو أن مروان لما قام بطلب الأمر عضده عمرو بن سعيد، واتفق معه على أن يكون له الأمر بعده، فلما كبر أمر مروان، صيّر الأمر لابنيه عبد الملك ثم عبد العزيز، على أن يصير الأمر لعمرو بعدهما، فلما كاتب أهل العراق عبد الملك خرج نحوهم، وكان في العراق مصعب، فقال له عمرو:
إن الأمر كان لي بعد مروان، ثم صيّره لك، ولكن اكتب لي أنت به بعدك، فسكت عنه عبد الملك، وخرج لوجهه نحو مصعب، فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل، كرّ عمرو راجعا في الليل إلى دمشق، وغلق أبوابها في وجه عبد الملك، وتسمى بالخلافة، فرجع عبد الملك [ص 257] حتى نزل على دمشق وحاصرها، فصالحه عمرو على أن يكون له الأمر من بعده، وأله مع كل عامل عاملا، ففتح دمشق، وكان بيت المال بيد عمرو، فأرسل إليه عبد الملك، أن أخرج أرزاق الحرس، فقال عمرو: إن كان له حرس، فإن لنا لحرسا، قال: وأخرج لحرسك أيضا، فلما كان ذات يوم، أرسل عبد الملك إلى عمرو أن ايتني يا أبا
أمية حتى أدبر معك أمرا، فقالت له امرأته: لا تذهب إليه، فإني أخافه عليك، فقال: أبو ذبّان، والله لو كنت نائما ما أيقضني، فقالت: والله ما آمنه عليك، وإني لأجد ريح دم، فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه فشجها، وقام فلبس درعه تحت ثيابه، فلما أراد الخروج عثر بالبساط، ثم مضى، وكان معه أربعة آلاف في السلاح، وكان عمرو عظيم الكبر، لا يلتفت وراءه ولو انطبقت الأرض إعجابا وزهوا، فلما وصل القصر الذي فيه عبد الملك، غلّقت الأبواب، فلم يدخل معه إلا غلام، وهو لا يدري، فلما حصل لعبد الملك قال لغلامه: اذهب للناس ما به بأس، فقال عبد الملك: تريد أن تخدعني، خذوه، فلما أخذوه، قال له عبد الملك: إني أقسمت أن أعمل في عنقك جامعة، وهذه جامعة من فضة، أريد أن أبر بها قسمي، فطرحها في عنقه، ثم جذبه إلى الأرض بيده، فضرب فمه في جانب السرير، فانكسرت ثنيته، فجعل عبد الملك يتأملها، فقال عمرو:
لا عليك يا أمير المؤمنين، عظم انكسر، ثم قال له: سألتك بالله يا أمير المؤمنين لا تخرجني إلى الناس على هذه الحالة، فقال له: مكرا أبا أمية، وأنت في الحديد، فبينما هو في ذلك، إذ جاءه المؤذن يؤذنه بالصلاة، فقام إليها، وقال لأخيه عبد العزيز: اقتله، فقال عمرو: يا عبد العزيز، لا تكن أنت من بينهم قاتلي، فتركه، فلما رآه عبد الملك جالسا، فلام عبد العزيز، ثم أخذ الحربة بيده وقال: قربوه إليّ، فقال عمرو: فعلتها يا بن الزرقاء [ص 258]، فقال له عبد الملك:
لو علمت أنك تبقى ويسلم لي ملكي لفديتك بدم النواظر، ولكن قلّ ما اجتمع فحلان على مذود «1» إلا بغى أحدهما على صاحبه، ثم ضرب بالحربة في صدره فلم تغن شيئا، فضرب بيده على عاتقه، فأصاب الدرع تحت ثيابه، فقال: لقد كنت معتدا أبا أمية، اضربوا به الأرض، فصرع له، ووقف على صدره فذبحه، ولما