الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
85- دولة المقتفي بأمر بالله
أبي عبد الله محمد «1» بن أحمد المستظهر، وكان ممن يبطن، خلاف ما يظهر، كان يظهر قبل مصير الخلافة إليه [ص 180] الانقطاع والعبادة، وملازمة السجود والسجادة، مع سوء معتقد وطوية، وقبح عقد ونية، وظلم لا يأمن معه برىء، وتسلط كالأسد الجرىء، لم يكن فيه ثراء للمعتفي، ولا كان لأمر الله المقتفي، بل كان يتخفى ببوائقه ولا يختفي، ويخرج ويشره إلى خارج قصره ولا يكتفي، وهو مع ذلك يصانع ويداري، ويستر العار بالعواري، ولا يظهر له من ريبة ثوبا، ولا ينتظر له بتوبة أوبا، بل هو في دنس لا ينقى، وذنوب لا توقى، وملازمة زخارف لا تبقى، وسماع ملاه لا تلقى، بين ضروب ملاح بريقهنّ يستقى، ولهيب راح لا يصلاها إلا الأشقى، هذا إلى ما فيه من نكوب عن الرشاد، ونكول عما شيّد سلفه وشاد، ولم يكن بعيدا من أبيه المستظهر في مواصلة اللهو ومواقيته، والخمر وترصيع أوانيه بيواقيته، لكنه كان يزيد عليه بأنه كان ظالما عسوفا، حاكما جائرا عنيفا، طالت مدته وثقلت، وقطعت أعمار الخلق حتى انفصلت، هذا كله وعارضه أشيب، وقد آن له على أنه أيّد من عون
الدين أبي المظفر يحيى بن هبيرة بوزير لا يصادمه شيئان، رأيه وصارمه، وشتان مواصله ومصارمه، ما قرر مثله أبو مسلم في خراسان، ولا فعل نظيره في الأندلس عبد الرحمن، ولا قام مثله في أول الدولة فتى شيبان، ولا في مملكة الفرس رستم بن دستان، ولا سلك إلا سبيل آصف تبع سليمان، فكان نعم العون، في منع الصون، فقد كان يجهد ولا يعيى، ويميب الأعداء وهو يحيى، فستر عوار المقتفي وواراه، وقدح زناد سعادته وأوراه، حتى وطئ ملوك آل سلجوق، ووطد ملوك الدول ودوّخها، ومحا بصباح رأيه آية ليلها ونسخها، فأعاد إلى رؤوس الدولة العباسية نخوتها وأعزها شيما، وبقية قريش احوتها، ثم لما مات المقتفي، وقام بعده ابنه أبو عبد الله محمد، وتلقب بالمأمون، فما تمت بيعته ولا سالمته المنون، عاش بعده [ص 181] نحو شهر وما كمله، ولا تمّ له منذ ذكر ما أمّله، بل لم يزل الحبل محمولا «1» على غاربه، طرفه بيده والطرف الآخر بيد جاذبه، حتى بويع أخوه المستنجد، ودفع الأمر إلى المنجد.
قال ابن الأنباري: ولما كان يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة ثلاثين وخمس مائة، مضينا مع الوزير ابن طراد الزينبي «2» إلى دار السلطان مسعود بن محمد، ونحن معه، فأخذ السلطان خطوطنا بالضمان، ثم أصبحنا فحضرنا عند الأمير أبي عبد الله محمد بن المستظهر، وشرطنا عليه مطاوعة السلطان على ما
ضمناه عليه، فرضي به، ثم مضينا إلى السلطان فأعلمناه بما كان، فأمر بمبايعته، فلما كان من الغد، صعدنا إلى الدار فأخرجنا منها أشياء لآلات الغناء وما لا يليق، وشهد جماعة من أهل الدار أن الراشد كان يشرب الخمر، فأفتى الفقهاء بخلعه، وحكم القضاة بذلك فخلعوه، ودخلت إلى الأمير أبي عبد الله محمد، أنا والوزير وصاحب المخزن، وتحدثنا معه، وناولته رقعة فيها ما يلقب به، فكان فيها: المقتفي لأمر الله، والمستضىء بنور الله، والمستجير بالله، فقال الخليفة:
ذلك إليكم، ثم قال لي الخليفة: ماذا ترى؟ فقلت: المقتفي لأمر الله، فقال:
مبارك، ثم مد يده، فأخذها الوزير وقبلها، وقال: بايعت سيدنا ومولانا الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجتهاده، ثم أخذها صاحب المخزن، وقبلها وبايعه على مثل ذلك، ثم أخذت يده وقبلتها، ثم قلت: بايعت سيدنا ومولانا الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، على ما بايعت عليه آباءه وأخاه وابن أخيه في ولاية عهده، ثم قمت من عنده، ودخل الأمراء والقضاة والعلماء وأكابر الناس فبايعوه، ثم حضر السلطان مسعود عنده، وكلمه المقتفي بكلام وعظه فيه، ثم عرفه ما يلزمه من طاعة الخليفة، وأمره بالرفق [ص 182] بالرعية والإحسان إليهم، وخوّفه عاقبة الظلم، فبايعه السلطان، وقبّل يد الخليفة، ورجع إلى دار السلطنة، وأما الراشد فإنه أقام بالموصل مع عماد الدين أتابك زنكي، ثم أرسل زنكي إلى بغداد القاضي كمال الدين محمد بن الشهرزوري، فلما حضر قيل له: بايع أمير المؤمنين، فقال: أمير المؤمنين عندنا بالموصل، وله في أعناق الخلق بيعة متقدمة، وطال الكلام، ثم عاد إلى مثله، فلما كان الليل، جاءته امرأة عجوز سرا وأبلغته رسالة عن المقتفي مضمونها عتابه، فقال: غدا أخدمه خدمة يظهر أثرها، فلما كان الغد، أحضرت إلى الديوان، وقيل لي في معنى البيعة، فقلت:
أنا رجل قاض، ولا يجوز لي أن أبايع إلا بعد أن يثبت عندي خلع المتقدم، فأحضروا الشهود، وشهدوا عنده بما أوجب خلعه، فقال: هذا قد ثبت، ولكن لابد لنا في هذه الدعوة من نصيب، لأن أمير المؤمنين قد حصلت له خلافة الله في أرضه والسلطان فقد استراح ممن كان يقصده، فنحن بأي شىء نعود، فرفع الأمر إلى الخليفة، فأمر بأن يقطع عماد الدين زنكي صريفين «1» ودرب هارون، وجرى ملكا وهي من خاص الخليفة، وأن يزاد في ألقابه، وقال: هذه قاعدة لم يسمح بها لأحد من زعماء الأطراف أن يكون له نصيب من خاص الخليفة، وعاد وقد حصل على جملة صالحة من الأموال والتحف، وكان المقتفي من ذوي الهمم العالية والآراء السديدة، والسياسة الوازعة من رجال بني العباس الأفراد، مكث في الخلافة أربعا وعشرين سنة، بها سبع عشر سنة في مداراة الملوك السلجوقية وسبع سنين وشهورا، مستندا بنفسه مقارعا للسلاطين، قامعا لمردة أولئك الشياطين، مدوخا للبلاد، قامعا للخوارج عليه، وحضر مصافاة عدة، وثبت في حصار بغداد، وكان ذلك شهورا يجري في كل يوم منها مصافاة، وهو رابط الجأش ثابت الجنان، منشرح الصدر، منبسط الأمل، وكان في [ص 183] نفسه قساوة وغلظة، وأيد بوزيره عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة، وزره رابع ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمس مائة، وهذا وزير لو كان كالوزراء لذكرته كأحدهم، ولكنه كان أجل، وفعله دليل عليه، وما ذكرته مع الوزراء في الإنصاف لا أسوة لهم للسميّة، ولكنه يعد من عظماء الخلفاء وكبراء الملوك، لعظيم ما فعل، وجليل ما صنع، وهو الوزير الذي أنطق الدولة العباسية
بعد الخرس، وأجرى في عودها الماء بعد اليبس:
[الكامل]
ومعرّف الخلفاء أن حظوظهم
…
في حيّز الإسراج والإلجام
فورى به زناد المقتفي وشد أزره فيما كان يعتلج في صدره، ويتمناه من علو قدره، ولم يزل يشخت «1» الدولة السلجوقية سحب المبادرة، ويدلف لها في أري النحل سم الأساود، وينبه ولاة الأطراف على ما فرض الله عليهم من نصر الأئمة، ويوقظ مصابيح بصائرهم في كشف ليالي الفتن المدلهمة، وتوبيخهم على ما قنعت به هممهم الدنية، وما نشبهم من الذل والصغار في طاعة السلجوقية، حتى شذب عن دولة العجم من كان ينصرها على الخلفاء، ويفعل في تفريق تلك الجموع، ولا فعل قصير مع الزباء «2» حتى صار كل من كان للسلجوقية على الخلافة عونا، قد أصبح للخلافة على من عاداها عينا، وهو يسلك في ذلك إلا المسالك المرضية، ولا يدعو إلا بالنصائح الوعظية، ولا يحض على نصر كتاب الله وسنة نبيه المثلى، ولا يبعث الهمم إلا لتكون كلمة الله هي العليا، ولا يخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض «3» ، ولا يرسل سهم قول فيقنع بما دون الغرض إلا لانتهاك محارم الله وتعدي حدوده، ولا ينهى عن منكر إلا محذرا لمرتكبه من عذاب الله ووعيده، ولا ينجح له سعي فينسب النعمة إلى غير الله تعالى، ولا يقوم مقاما فينسب له مع التبرير مقالا ولا [ص 184] فعلا، ولا رئي، ولا سمع برجل ولي عظائم الأمور الدنيوية، والممالك السلطانية،
وحزم الجيوش خائضا لغمراتها، معرضا وريده لاستنهاء وطباتها، كان أشد تبريا إلى الله من حول نفسه وقوتها، ولا أكثر اعترافا لفعل الله فيه فيما يصدر بالمباشرة عنه، فما ادعى لنفسه فعلا ولا قولا، ولا اعتقد لها قوة ولا حولا، لكنه يذكر كفاية الله التي جبرت نقصه، وقومت خطاه، وقدمت على المشرفية سطاه ويقول: ما رأيت في هذا الأمر الذي لابسته أنفع من دعاء وجدته في مجموع لابن سمعون، ولا أبلغ من ذكر رأيته في كتاب فضائل الأعمال لابن أبي الدنيا «1» ، ولا كان في قلبي أوثق من ركعات تعلمتها من فلان المجاور بجامع المهدي، وذكره الوزير أبو غالب عبد الواحد بن مسعود الشيباني بهذا وقال:
لقد كان لهذه المحاسن من أفعاله وأقواله هيئة وصنعة، لا تنهض العبارة بأدائها، ولا تؤدي الحكاية جزءا من أجزائها، وللصدق عليها شواهد من جنس ما تسميه الصوفية ذوقا لا يدركه إلا من خالطه، ورأى هديه وسكينته وخضوعه لله واستكانته، وإعزازه بالله في كل مقام تتخاذل فيه القوى، وتنفصم فيه إلا من استمسك بالله العرى:
[الكامل]
وهو مع الله على علاته
…
ماض مضاء المشرفيّ الصارم
وقصد السلطان مسعود بن محمد بغداد سنة خمس وأربعين وخمس مائة، وتلقاه ابن هبيرة بالنهروان، وأبلغه سلام الخليفة واستبشاره بمقدمه، وانتظاره لتقدمه، ثم عاد وقد ملأ الصدور بما شاهده أرباب الدولتين من قوة جنانه، وطلاقة لسانه، ومهابته التي ظهرت على السلطان مسعود إعظامها، وهان عليه
ملك ممالك أهل بيته ونظامها.
قال أبو الفضل:
[الطويل]
ولما رأى السلطان عزتك التي
…
هي السعد أغشاه عن اللحظ نورها
وما زال من فرط المهابة مطرقا
…
بعينيه حتى ما يكاد يديرها [ص 185]
ثم باكر إليه ثاني يوم دخوله مهنيا بالاستقرار والإياب الذي قربه القرار، ثم خطب خطبة أبلغ فيها موعظة السلطان وتذكيره بآخرته، وتمثيل مقامه بين يدي الله عز وجل ومساءلته، وعدد ما له فرض الله عليه لخليفته وخليقته، وما طوقه من فخار الملك دون حقيقته، وشرح له المظالم التي تلزمه إثمها، وإن غاب عنه علمها، ويناط به وزرها، وإن خفي عنه أمرها، وختم ذلك بدعاء له بالصلاح والهداية، والنجاح والكفاية، فظن كل من حضر ذلك الموقف أنه لا يسلم من بطشه، ولا يسام من إثارة البلاء له ونبشه، حتى توهم قوم أن موجدته منه سيتعدى إلى الخليفة ضررها، ويستطيل في الدولة شررها، فلما استتم كلامه، رفع السلطان طرفه وقال:(عهدي بعيد بسماع هذا الكلام، وأرجو أن يظهر على بركتك، فلا تقطع عني تذكيرك في كل وقت) ، وانصرف، وأتبعه السلطان بحلل وقماش وخيل ومماليك أتراك، وجارية تركية، فوصلت إليه الهدية وهو جالس في داره، بين سمّار مجلسه وحضاره، وفرقها كلها عليهم، ولم يمسك لنفسه شيئا سوى الجارية، ثم بعث إليه هدية يسيرة لا يكون لبعضها مجازية، وقصد البقش كونخر في أمراء السلجوقية فسأل المقتفي، فخرج إليهم ومعه ابن هبيرة، وبان فيها من هذا الوزير وإقدامه، وزئير ضرغامه، لا صرير أقلامه، ما أقام الهيبة في صدور الأعداء، وحسم الداء بالداء، فإنه خاض تلك الحروب، وتلقى الأسنة بنحره، يرتب الميامن والمياسر، ويبوّئ مقاعد الحرب بين
يديه تلك العساكر، شاهرا سيفه بجأش رابط، وعزم ضابط، وطليعة كل نجم صاعد لا هابط، بتدبير صائب، وتدمير على الأعداء لا يرعى صحبة صاحب، وكانت النصرة للخليفة وعساكره، وتردت برد التهاني ببشائره، ونهب عسكر الخليفة مالا يتناوله الحصر ولا يتأوله [ص 186] إلا النصر.
قال الوزير أبو غالب: حتى كان الفرس الجيد يباع ببغداد بدينار، والبغل الجيد بدينارين، فأما الغنم فبلغت كل عشرين شاة بدينار، ودامت بهذا الرخص والكثرة نحو شهرين، ثم عاد الخليفة وقد خشع بصر الأعداء لمهابته، واتسع أمله باعتزازه على العدو وإهانته، ثم في سنة خمس وخمس مائة، وصل سليمان شاه بن محمد شاه إلى خدمة المقتفي، ملتجئا إليه، فأكرمه ووسع ضيافته، وصدق في قبوله بفراسته وعيافته «1» ، ومال الخليفة إلى تمليكه، ولم يكن ذلك من رأي ابن هبيرة، وعاود الخليفة فيه مرارا، وقال: هذا أمر دفع الله عن الخليفة شره، وكشف عنهم ضره، فلا تجدد ما اطمأنت النفوس على تعطيله، وسكنت إلى ما جهدت في تبطيله، فقال الخليفة: هذا قد لجأ إلينا، وسلك غير مذاهب أهل بيته، في الاستكانة والخضوع، ولو أراد جمع عسكرا وفسادا في الأرض لقدر عليه، وحيث قد أتى الأمر من بابه، فلا بد من إجابته، فاستدعي إلى باب الخلافة، وجلس له الخليفة جلوسا عاما في مجلس عظيم، حضره أرباب الدولة والمناصب، والأمراء والخدام والقراء والفقهاء، كلهم متأهبون بالسواد، وجلس الخليفة من وراء شباك، وقام ذلك الجمع بين يديه سماطين طويلين، ووقف الوزير ابن هبيرة على كرسي بين يدي الخليفة، وحضر سليمان شاه، فقبل الأرض ثم عدل به إلى بيت أفيضت عليه الخلع فيه بالطوق والسوارين والتاج والخلع التامة،
وقدم له فرس الخليفة بمركبه، وقلد بسيفين، وعقد له لواء ان، وأقيمت له الخطبة على منابر ولاية الخليفة كلها، وبعث بغياث الدنيا والدين قسيم أمير المؤمنين، وعاد إلى دار السلطنة التي بأعلى بغداد، وحمل الخليفة إليه من الثياب والمال، والخيل والبغال، والأعلام والسلاح، ما لا حدّ له، وكذلك حمل إليه الأمراء. وكانت وفاة المقتفي بعلة التراقي، وهو خراج من كتفيه، مكث [ص 187] به خمسة عشر يوما، ومات في يوم الأحد، ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مائة، ودفن ثاني يوم، وصلى عليه ابن هبيرة.
ومما يحكى أنه كان قد أخرج عشر حبات أطلس لتطرى من المخزن المقتفوي، فسلمت إلى المطري ولم تثبت في دساتير الديوان، وسهوا عنها، حتى طلبت في السنة التالية، فأحضر المطري وتوعد وهدّد، فاعترف أنه باعها، وجهز بها بنتين له، فكتب إلى المقتفي، فوقع لهم: لا ذنب للذيب حيث افترس، وإنما الذنب للراعي حيث نعس، والذي صرفها المطري في حقه، أحق من أربابها، فيفرج عنه ولا يتعرض إليه، والسلام.
قال ابن واصل: كان المقتفي فاضلا حسن العقيدة، وله شعر حسن، من جملته:
[السريع]
قالت أحبك قلت كاذبة
…
غرّي بذا من ليس ينتقد
قالت فمن أدراك قلت لها
…
الشيخ ليس يحبه أحد
ثم: