الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم:
62- دولة المعتصم بالله
أبي إسحاق محمد «1» بن هارون الرشيد، عهد إليه أخوه المأمون وشهد بأهليته هو والمسلمون، ونطقت أسنة السنة فما كذبت، وصدقت مضارب سيوفه فما نبت، وكان فارسا شجاعا بطلا مناعا، راميا محاميا بصيرا بمواقع الحرب، وترتيب الجيوش، وقتل الأعداء، وحملهم من رماحه على النفوس، وكان كما يوسم اخوه مخيلة عارضه الهتون، وخميلة أرضه الهرون، واستكثر من الغلمان الأتراك، وأحل كبراء هم منه بمكان الاشتراك، حتى حدث بعده منهم ما حدث، وأحدثوا ما لو شعر به لقام لا يواريه حدث، فإنهم فعلوا ما كانوا دون قدره، وقتلوا من بنيه من يلوث بدمه الصباح وهاطراطيشه «2» على شفق فجره، فأما في زمان المعتصم، فإنهم كانوا في مزيد الاستطاعة
عبيد [ص 143] الطاعة، إلا أن منهم من قسا ووكل السيف في عقابه لما أسى، ويكفي المعتصم نوبة عمورية «1» ، وما ظهر فيها من عزيمته المصممة، وشكيمته المهيمنة، وأنه لما هتفت باسمه تلك المرأة مرة، هفت إليها طلائع الممرة، وقال:
لا يكشف الغمى إلا ابن حرة، وقاد إليها عسكرا يتشكى الشتاء البارد حره، فأتى عمورية وهو يرى غمرات الموت، ثم يزورها وقاسم أهلها سيوفه، فكانت في عساكره غواشيها، وفيهم صدورها، حتى يسر الله له فتحها، وقدر له منحها، ويقال إنه افتر في يوم شديد البرد من أيامه عليها أربعة آلاف قوس، ورمى على كل قوس منها سهما، وكان يوما يود بياض نهاره لو كان لوقود النار فحما، ولم يكن المعتصم يعاب إلا بأمية فيه، وبأنه عمل في المحنة بوصية أخيه، فأخذ الناس بها، وواخذ من امتنع ودعاهم إليه بالسيف والسوط، وجرى زمانه كله لا يني على هذا الشوط، حتى ألزم بكلمتها، وشوه وجوه أيامه البيض بظلمتها، على أنه لم يكن إذا علم عمل به فاتبعه، وعلم أنه الحق فشرعه، إلا أنه سمع قولا ظنه الصدق فأيده، وتلقى وصيته عن أخيه فعمل بها وقلده، وسئل أحمد بن حنبل «2» فأيده الله بالقول الثابت، وأبلاه بأنواع البلاء وهو بمواجهته بالإنكار لقوله متكلم لا ساكت.
وكان مغرى بالاستكثار من الأتراك، ما مات حتى كمل ثلاثين ألفا منهم، وكان معظما لهم موفرا نصيبهم، حكي أنه أجلس مملوكه أشناس إلى جانبه على كرسي، وتوجه بتاج من ذهب، ووشحه بوشاحي ذهب مرصعين بالجواهر، وطوّقه بطوق ذهب مجوهر بقطع يواقيت أصغرها زنة عشرة مثاقيل، وسؤّره بسواري ذهب، وعقد له ثلاثة ألوية، وحمله على فرس أدهم أغر من مراكيب
الخلافة بسرج ثقيل ذهب مرصع بالجوهر واللؤلؤ الثمين، وقاد خلفه سبعة أفراس، وعمل له موكبا يحمل فيه السلاح والعمد والطبرزينات «1» والتراس والخزانة، وغير ذلك من شعار الملوك، وخاطبه بملك الأمراء [ص 144] ، وكذلك صنع ببابك الخرمي في التعظيم والتكريم، حتى اطلع على سوء معتقده، فجعله همّه، حتى أصاره إلى ما صار، وأحله وبعض ما يستحق دار البوار.
وعن محمد بن القاسم قال: دخل المعتصم يوما إلى خاقان يعوده، فرأى ابنه الفتح وهو صغير لم يتعد، فمازحه ثم قال: أيما أحسن دارنا أم داركم، فقال الفتح: يا سيدي، دارنا إذا كنت فيها أحسن، فقال المعتصم: لا أبرح أو ينثر عليه مائة ألف درهم، فأحضرت ونثرت عليه.
وحكى علي بن الحسين بن عبد الأعلى: أن عبد الله بن طاهر أهدى إلى المعتصم شهرس «2» ملمع من ذكران خراسان لم يخرج مثلهما، فسأله بغا «3» أن يحمله على أحدهما، فأبى وقال: تخيّر غيرهما ما شئت فخذه، قال: فخرجنا ولم نأخذ شيئا، فلما صرنا بطبرستان «4» عرض له قوم من أهلها، فقالوا له: إن في بعض هذه الغياض سبعا قد استكلب على الناس وأفناهم، فقال: إذا أردت الرحيل غدا كونوا معي حتى أقف على موضعه، فأخذوه في عشرين فارسا من
غلمانه، ومعه قوسه ونشابتان في منطقته، فصاروا به إلى مكانه، وثار السبع في وجهه، فحرك فرسه من بين يديه، وأخذ نشابة من النشابتين فرماه في لبّته، فمرّ السهم فيها إلى الريش، وركب السبع رأسه، قال: وعاد بغا إليه فما اجترأ أحد على النزول إليه، حتى نزل بغا فوجده ميتا، قال: فشبرناه فكان من رأسه إلى رأس ذنبه ستة عشر شبرا، ووجدناه أحص الشعر «1» ، إلا معرفته «2» ، قال:
فكتبنا بخبره إلى المعتصم، فلحقنا جواب كتابنا بحلوان «3» يذكر فيه أنه قد تفاءل بقتل السبع أن يكون من علامات الطف ببابك، ووجه إلى بغا بالشهرس وسبعة أفراس من خاصة مراكيبه بمراكب يقال من الذهب، وسبعة خلع من خاصة خلعه، وخمس مائة ألف درهم صلة له وجزاء على قتله السبع.
قال زنام الزامر «4» : أفاق المعتصم في علته التي مات فيها [ص 145] فركب في الزلال «5» في دجلة، وأنا معه فمر بإزاء منازله، فقال: يا زنام ازمر لي:
[السريع]
يا منزلا لم تبل أطلاله
…
حاشا لأطلالك أن تبلى