الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مناهج آبائه وقد طمست، وأحياها بمناهج أنبائه وقد درست، وجمع شمل بني أبيه وقد طال بهم الشتات، وأطال غرزهم وقد اختلفت الشيات، ورفع اسمه على ذرى المنابر، وقد غبر مدة لا تطلع إلا في آفاقه تلك النجوم، ولا يسح من سحبه تلك الغيوم والسجوم، طلب بعد موت سلطاننا تغمده الله برحمته، وأنفذ حكم وصيته في تمام مبايعته، والتزام متابعته، وكان أبوه قد أحكم له بالعهد المتقدم عقدها، وحفظ له عند ذوي الأمانة عهدها، ثم سلطن الملك المنصور أبا بكر بن السلطان، وعمّر له من تحت الملك الأوطان.
قلت: وقد كان حين طار الخبر إلى مصر بموت أبيه، أشيع أنه لم يعهد إليه، وإنما الناس قد يقع اجتماعهم عليه، فكتب صورة مبايعة له، وهي:
[صورة المبايعة للحاكم]
بسم الله الرحمن الرحيم
، إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«1» ، هذه بيعة [ص 205] رضوان، وبيعة إحسان، وجمعة رضى، يشهدها الجماعة، ويشهد عليها الرحمن، بيعة يلزم طائرها العنق، وتحوم بشائرها، وتحمل أنباءها البراري والبحار، مشحونة الطرق، بيعة يصلح الله بها الأمة، ويمنح بسببها النعمة، وتتجازى الرفاق، ويسري الهناء في الآفاق، وتتزاحم زمر الكواكب على حوض المجرة الدفاق، بيعة سعيدة ميمونة، بيعة شريفة بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة، بيعة صحيحة شرعية، بيعة ملحوظة مرعية، بيعة تسابق إليها كل نية، وتطاوع كل طوية، ويجمع عليها شتات البرية، بيعة يستهل بها الغمام، ويتهلل البدر التمام، بيعة متفق على الاجماع عليها، والاجتماع لبسط الأيدي إليها، انعقد عليها الاجماع، فاعتقد
صحتها من سمع لله وأطاع، وبذل في تمامها كل امرئ ما استطاع، حصل عليها اتفاق الأبصار والأسماع، ووصل بها الحق إلى مستحقه، وأقر الخصم وانقطع النزاع، يضمها كتاب مرقوم، يشهده المقربون، وتلقاه الأئمة الأقربون، و (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)«1» ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، والينا ولله الحمد وإلى بني العباس أجمع على هذه البيعة أرباب العقد والحل، وأصحاب الكلام فيما قل وجل، وولاة الأمور والحكام، وأرباب المناصب والأحكام، وحملة العلم والأعلام، وحماة السيوف والأقلام، وأكابر بني عبد مناف، ومن انخفض قدره وأناف، وسروات قريش، ووجوه بني هاشم، والبقية الطاهرة من بني العباس، وخاصة الأئمة، وعامة الناس، بيعة ترى بالحرمين خيامها، وتخفق بالمأزمين أعلامها، وتتعرف عرفات بركاتها، وتعرف بمنى، ويؤمن عليها يوم الحج الأكبر، ويؤم ما بين الركن والمقام والقبر، ولا ينبغي بها إلا وجه الله الكريم......... «2» بيعة لا يحل عقدها، ولا ينبذ عهدها، لازمة جازمة، دائبة دائمة، تامة عامة، شاملة كاملة، صحيحة صريحة، متعبة مريحة، [ولا من يوصف بعلم]«3» ولا قضاء ولا من يرجع إليه في إيقاف ولا إمضاء، ولا إمام مسجد ولا خطيب، ولا [ص 206] ذو فتوى يسأل فيجيب، ولا من جنبي المساجد، ولا من تضمهم أجنحة المحاريب، ولا من يجتهد في رأي فيخطئ أو يصيب، ولا محدث بحديث، ولا متكلم في قديم أو حديث، ولا معروف بدين وصلاح، ولا فرسان حرب وكفاح، ولا راشق بسهام، ولا طاعن برماح، ولا ضارب بصفاح، ولا ساع بقدم، ولا طائر بجناح،
ولا مخالط للناس، ولا قاعد في عزلة، ولا جمع كثرة ولا قلة، ولا من يستقل بالجوزاء لواؤه، ولا من يقل فوق الفرقد ثواؤه، ولا باد ولا حاضر، ولا مقيم ولا سائر، ولا أول ولا آخر، ولا مسرّ في باطن، ولا معلن في ظاهر، ولا عرب ولا عجم، ولا راعي أبل ولا غنم، ولا صاحب أناة ولا بدار، ولا ساكن في حضر وبادية بدار، ولا صاحب عمد «1» ولا جدار، ولا ملجلج في البحار الزاخرة، والبراري القفار، ولا من يتوقل صهوات الخيل، ولا من يسبل على العجاجة الذيل، ولا من تطلع عليه شمس النهار، ونجوم الليل، ولا من تظله السماء وتقله الأرض، ولا من تدل عليه الأسماء على اختلافها، وترفع درجات بعضهم على بعض، حتى أمن بهذه البيعة وأمّن عليها، وأمن بها، ومنّ الله عليه وهداه إليها وأقرّ بها وصدق، وغضّ له بصره خاشعا، وأطرق ومد إليها يده بالمبايعة، ومعتقده بالمتابعة، ورضي بها وارتضاها، وأجاز حكمها على نفسه، وأمضاها، ودخل تحت طاعته، وعمل بمقتضاها، وقضى بينهم بالحق، وقيل الحمد لله رب العالمين.
وإنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله، أمير المؤمنين، كرم الله مثواه، وعوضه عن دار السلام، بدار السلام، ونقله مزكّي يديه عن شهادة الإسلام، بشهادة الإسلام، حيث آثره بقربه ومهد لجنبه، وأقدمه على ما قدمه من مرجو عمله وكسبه، وخار له في جواره فريقا، وأنزله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، الله أكبر ليومه يوما لولا محلفه، كانت تضيق الأرض بما رحبت، وتجزى كل نفس بما كسبت، وتنبّأ كل سريرة ما ادخرت [ص 207] وما جنت، لقد اضطرم سعير، إلا أنه في الجوانح، لقد اضطرب منبر وسرير، لولا خلفه الصالح،
لقد اضطر مأمور وأمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح، لقد غاضت البحار، لقد غابت الأنوار، لقد غالت البدور وعوارض ما يلحق الأهلة من المحاق، وتدرك البدور من السرار، نسفت الجبال نسفا، وخبت مصابيح النجوم وكادت تطفى، وجاء ربك والملك صفا صفا، لقد جمعت الدنيا أطرافها، وأزمعت على المسير، وخضت الأمة لهول المسير، وزاغت يوم موته الأبصار، إنّ ربّهم يومئذ لخبير، وقفت الألباب حيارى، وتوقفت تارة تصدق وتارة تتمارى، لا تعرف قرارا، ولا على الأرض استقرارا، إن زلزلة الساعة شىء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولم يكن في النسب العباسي، ولا في جميع من في الوجود، ولا في البيت المسترشدي، ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء لهم وجدود، ولا من بلدة أخرى الليالي وهي عاقر غير ولود، من تسلم إليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم عقد نياتها، وسر طوياتها، إلا واحد، وأين ذاك الواحد، هو والله من انحصر فيه استحقاق، ميراث آبائه الأطهار، وتراث أجداده، ولا شىء هو إلا ما اشتملت عليه رداء الليل والنهار، وهو ولد المنتقل إلى ربه، وولد الإمام الذاهب لصلبه المجمع على أنه في الأيام، فرد هو الأنام، وواحد وهكذا في الوجود الإمام، وإنه الحائز لما زرت عليه جيوب المشارق والمغارب، والفائز بملك ما بين المشارق والمغارب، الراقي في صفح السماء، هذه الذروة المنيفة، الباقي بعد الأئمة الماضين، ونعم الخليفة المجتمع فيه شروط الإمامة، المتضع لله، وهو ابن بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة، الذي يفضح السحاب نائله، والذي لا يغره عاذره، ولا يعيره عاذله، والذي ما ارتقى صهوة المنبر، بحضرة سلطان زمانه، إلا قال ناصره، وقام قائمه، ولا قعد على سرير الخلافة إلا وعرف أنه [ص 208] ما خاف مستكفيه، ولا غاب حاكمه، نائب الله في أرضه، والقائم مقام رسوله صلى الله عليه وسلم، وخليفته وابن عمه، وتابع عمله الصالح،
ووارث علمه، سيدنا ومولانا عبد الله ووليه أبو العباس الإمام الحاكم بأمر الله، أمير المؤمنين أيد الله ببقائه الدين، وطوق بسيفه الملحدين، وكبت تحت لوائه المعتدين، وكتب له النصر إلى يوم الدين، وكبّ بجهاده على الأذقان طوائف المفسدين، وأعاذ به الأرض مما لا بدين، وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون، وعليه كانوا يعملون، ونصر أنصاره، وقدر اقتداره، وأسكن في القلوب سكينته ووقاره، ومكن له في الوجود، وجمع له أنظاره.
ولما انتقل إلى الله ذلك السيد، ولقي أسلافه، ونقل إلى سور الجنّة عن سرير الخلافة، وخلا القصر من إمام يمسك ما بقي من نهاره، وخليفة يغالب مزيد الليل بأنواره، ووارث نبي بمثله ومثل آبائه، استغنى الوجود بعد ابن عمه، خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، عن نبي يقفي على آثاره، ونسي ولم يعهد، فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع، وعلته كانت الخلافة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا نزاع، اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف به معقود، وعقد بيعة عليها الله والملائكة شهود، وجمع الناس له، وذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود، فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف، ولم يربأ معه وقد مدّ يده طائعا، لمن مدها، وقد تكلف، وأجمعوا على رأي واحد، استخاروا الله فيه فخار، وأخذ يمين تمد لها الأيمان، وتشدّ بها الإيمان، وتعطى عليها المواثيق، وتعرض أمانتها على كل فريق، حتى تقلد كل من حضر في عنقه هذه الأمانة، وحط على المصحف الكريم يده، وحلف بالله وأتم أيمانه، ولم يقطع ولا استثنى، ولا تردد، ومن قطع عن غير قصد أعاد وجدد، وقد نوى كل من حلف، أن النية في يمينه، نية من عقدت له هذه البيعة، ونية من [ص 209] حلف له وتذمم بالوفاء له في ذمته، وتكفله على عادة أيمان
البيعة وبشروطها، وأحكامها المرددة، وأقسامها المؤكدة، بأن يبذل لهذا الإمام المفترض الطاعة، ولا يفارق الجمهور، ولا يظهر عن الجماعة، وغير ذلك مما تضمنته نسخ الأيمان، المكتتب فيها أسماء من حلف عليها، مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم، وخطوط العدول والثقات، عن من لم يكتبوا وأذنوا أن يكتب عنهم، حسبما يشهد به بعضهم على بعض، ويتصادق عليه أهل السماء والأرض، بيعة تم بمشيئة الله تمامها، وعم بالصوب المغدق غمامها، وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، ووهب لنا الحسن، ثم الحمد لله الكافي عبده، الموافي لمن يضاعف على كل موهبة حمده، ثم الحمد لله على نعمة يرغب أمير المؤمنين في ازديادها، ويرهب ألا يقاتل أعداء الله بأمدادها، ويرأب بها من أثر في منابر ممالكه، ما بان من مباينة أضدادها، نحمده والحمد لله، ثم الحمد لله، كلمة لا نمل من تردادها، ولا يخل بما يفوت السهام من سدادها، ولا يطل إلا على ما يوجب تكثير أعدادها، وتكبير أقدار أهل ودادها، وتصغير التحقير لا التحبيب لأندادها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تتقايس دماء الشهداء وإمداد مدادها، وتتنافس طرر الشباب، وغرر السحاب على استمدادها، وتتجانس رقومها المدبجة وما تلبسه الدولة العباسية من شعارها، والليالي من دثارها، والأعداء من حدادها، صلى الله عليه وعلى جماعة أهله، ومن سلف من أبنائها، وسلف من أجدادها، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله من ميراث النبوة، ما كان لجده، ووهبه من الملك السليماني، ما لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمه منطق الطير، بما يتحمله حمائم البطائق من بدايع البيان، وسخّر له من البريد على متون
الخيل، ما سخره [ص 210] من الريح لسليمان، وآتاه من خاتم الأنبياء، ما امتد به أبوه سليمان وتصرف، وأعطاه من الفخار به، ما أطاعه كل مخلوق ولم يتخلف، وجعل له من لباس بني العباس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد، وينفض على كحل الأهداب ما فضل عن سويداء القلب، وسواد البصر من السواد، ويمد ظله على الأرض وكل مكان حله، دار ملك وكل مدينة بغداد، وهو في ليله السجاد، وفي نهاره العسكري، ومن كرمه جعفر وهو الجواد، يديم الابتهال إلى الله في توفيقه، والابتهاج بما يغص كل عدو بريقه.
ونبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام، وصالح الأعمال، فيما تتحلى به الأيام، ويقدّم التقوى أمامه، ويقرر عليها أحكامه، ويتبع الشرع الشريف ويقف عنده، ويوقف الناس، ومن لا يحمل أمره طائعا على العين، يحمله غصبا على الرأس ويعجل أمير المؤمنين بما تستقر به النفوس، ويرد به كيد الشيطان وإنه يؤوس، ويأخذ بقلوب الرعايا، وهو غني عن هذا، ولكنه يسوس، وأمير المؤمنين يشهد الله وخلقه عليه بأنه أقرّ ولي كل أمر من ولاة أمور الإسلام على حاله، واستمر به في مقيله، تحت كنف ظلاله، على اختلاف طبقات ولاة الأمور، وطرقات الممالك والثغور، برا وبحرا وسهلا ووعرا، وشرقا وغربا، وبعدا وقربا، وكل جليل وحقير، وقليل وكثير، وصغير وكبير، وملك ومملّك وأمير، وجندي، يبرق له سيف شهير ورمح ظهير، ومع من هؤلاء من وزراء وقضاة وكتاب، ومن له تدقيق في إنشاء، وتحقيق في حساب، ومن يتحدث في بريد وخراج، ومن يحتاج إليه، ومن لا يحتاج، ومن في التدريس والمدارس، والربط والزوايا والخوانق، ومن له أعظم التعلقات وأدنى العلائق، وسائر أرباب المراتب، وأصحاب الرواتب، ومن له من مال الله رزق مقسوم، وحق مجهول أو معلوم، استمرارا بكل أمر على ما هو عليه، حتى يستخير الله تعالى، ويتبين له ما
[ص 211] بين يديه، فمن ازداد تأهيله، زاد تفضيله، وإلا فأمير المؤمنين لا يريد إلا وجه الله، ولا يحابي أحدا في دين، ولا يحابي في حق، فإن المحاباة في الحق مداجاة على المسلمين، وكل ما هو مستمر إلى الآن، مستقر على حكم الله، مما فهمه الله له، وفهّمه سليمان، لا يغير أمير المؤمنين في ذلك، ولا في بعضه مغيرا، شكرا لله على نعمه، وهكذا يجازي من شكر، ولا يكدر على أحد موردا نزه الله نعمه الصافية به عن الكدر، ولا يتأول في ذلك متأول، إلا من جحد النعمة أو كفر، ولا يتعلل متعلل، فإن أمير المؤمنين نعوذ بالله، ونعيذ أيامه من الغير، وأمر أمير المؤمنين، أعلى الله أمره، أن يعلن الخطباء بذكره وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق، وأن يصرف باسمهما النقود وتسير بالإطلاق، ويوشح بالدعاء لهما عطف الليل والنهار، ويصرح منه بما يشرق وجه الدرهم والدينار، وتتهيأ به وتتناهى المنابر ودور الضرب هائل يرفع اسمهما على أسرة مهودها، وهذه أعلا أسارير يقودها، فالخطب والذهب معدنهما واحد، وبهما يذكر الله، فهما مساجد، وهذه تقام بسببها الصلاة، وتلك تدام بها الصلات، وكلاهما مما تستمال به القلوب، ولا تلام على ما تعيه الآذان وتوعيه، وما منهما إلا ما تحذف بجواهره الأحداق، وتميل إليه الأعناق، وتبلغ به المقاصد، وكلاهما أمر مطاع، وإذا لمعت بارقة الخطب، طار للذهب شعاع، ولولا [هـ] ما اجتمع جمع ولا انضم، ولا عرف الإمام ممن يأتم، ولولا الأعمال ما رتبت الأموال، ولولا الأموال ما وليت الأعمال، ولأجل ما بينهما من هذه النسبة، قيل إن الملك له السكة والخطبة، وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا المجمع المشهود ما يتناقله كل خطيب، ويتداوله كل بعيد وقريب، ومختصره أن الله أمر بأوامر، ونهى بنواه، وهو رقيب، وستفرع الألباب لها [ص 212] السجايا، وتفرع الخطباء لها شعوب الوصايا، وتتكمّل بها المزايا، وتخرج من المشايخ الخبايا من الزوايا، ويسمر بها السمار، ويترنم الحادي والملاح، ويرق
سحرها في الليل المقمر، ويرقم على جبين الصباح، وتعطر بها مكة بطحاءها، ويحيا بحدائها قباه، ويلقنها كل أب فهّم ابنه، ويسأل كل ابن يجيب أباه، وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين مرشد وعليكم بيّنة، وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل ربه من الحكمة والموعظة الحسنة، ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة، ولولا قيام الرعايا ما قبل الله أعمالها، ولا أمسك بها البحر، ودحا الأرض، وأرسى جبالها، ولا اتفقت الآراء على من يستحق، وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها، وأخذها دون بني أبيه، ولم تك تصلح إلا له، ولم يك يصلح إلا لها.
وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح الله «1» لكم من أبواب الأرزاق، وأسباب الارتزاق، وأجراكم على وفاقكم، وعلمكم مكارم الأخلاق، وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإملاق، ولم يبق لكم على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعمل بما يسعد به من يحيا «2» أطال الله بقاء أمير المؤمنين من بعده، ويزيد على من تقدم، ويقيم فروض الحج والجهاد، ويقيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد أمير المؤمنين، يقيم على عادة آبائه موسم الحج في كل عام، ويشمل ببره سكان الحرمين الشريفين، وسدنة بيت الله الحرام، ويجهز السبيل على ضاله، ويرجو أن يعود على حاله الأول في سالف الأيام، وتتدفق في هذين المسجدين «3» بحره الزاخر، ويرسل إلى ثالثهما في البيت المقدس ساكب الغمام ويقيم بعدله «4» قبور الأنبياء، صلوات الله عليهم أين ما كانوا، وأكثرهم في الشام، والجمع والجماعات هي فيكم على
قديم سننها، وقويم سننها، وستزيد في أيام أمير المؤمنين لمن يضمّ إليه، وفيما يتسلم من بلاد الكفار، ويسلم منهم على يديه.
وأما الجهاد فكفى باجتهاد القائم عن [ص 213] أمير المؤمنين بمأموره، المقلد عنه جميع ما وراء سريره، وأمير المؤمنين قد وكّل منه- خلد الله ملكه وسلطانه- عينا لا تنام، وقلد سيفا لو أغفت بوارقه ليلة واحدة عن الأعداء سلت خياله عليهم الأحلام، فإنه حقه، وسيؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدى، وانتزاع ما بأيديهم من بلاد الإسلام، فإنه حقه، وإن طال عليه المدى، وقد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول برا وبحرا ولا يكف عمن ظفر به منهم قتلا وأسرا، ولا يفك أغلالا ولا إصرا، ولا ينفك يرسل عليهم في البر من الخيل عقبانا، وفي البحر غربانا، يحمل كل منهما من كل فارس صقرا، ويحمي الممالك ممن يتخوف أطرافها بإقدام، ويتجول أكنافها بأقدام، وينظر في مصالح القلاع والحصون والثغور، وما يحتاج إليه من آلات القتال، ويحتاج به الأعداء، وتعجز حيلة المحتال، وأمهات الممالك التي هي مرابط البنود، ومرابض الأسود والأمراء والعساكر والجنود، وترتيبهم في الميمنة والميسرة والجناح الممدود، وتفقد أحوالهم بالعرض، بما لهم من خيل تعقد ما بين السماء والأرض، وما لهم من زرد موصوف، وبيض مسها ذائب ذهب، فكانت كأنها بيض مكنون، وسيوف قواضب، ورماح بسيب دوامها من الدماء خواضب، وسهام تواصل القسي وتفارقها، فتحنّ حنين مفارق، وتزمجر القوس زمجرة مغاضب.
وهذه جملة أراد أمير المؤمنين بها إطابة قلوبكم، وإطالة ذيل التطول على مطلوبكم، ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع المطهر، ومزيد الإحسان إليكم، على مقدار ما يخفي منكم ويظهر، وأما جزئيات الأمور فقد علمتم بأن من بعد عن أمير المؤمنين غني عن مثل هذه الذكرى، ومنى حقا
لا تستغل بتطلب شىء نكرا، وفي ولاة الأمور، ورعاة الجمهور لمن هو سداد عمله، ومزاد أمله، ومراد من هو منكم معشر [ص 214] الرعايا، وأنتم على تفاوت مقاديركم عندهم وديعة أمير المؤمنين، ومن خوله، وأنتم وهم فما منكم من سيعرف أمير المؤمنين ويمشي في مراضي الله على خلقه، وينظر ما هو عليه، ويسير سيرته المثلى في طاعة ولي خلقه، وكلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين، وله «1» عليكم أداء النصيحة وإبداء الطاعة بسريرة صحيحة، فقد دخل كل منكم في كنف أمير المؤمنين وتحت رقّه، ولزمه حكم بيعته، والتزم طائره في عنقه، وسيعمل كل منكم في الوفاء بما أصبح به عليما، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا [عظيما] .
هذا قول أمير المؤمنين، وقال: وهو يعمل في ذلك كله بما تحمد عاقبته من الأعمال، وتحمل منه ما يصلح له به المال، وعلى هذا عهد إليه وبه يعهد، وما سوى هذا فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد، وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال، ويستعيذ به من الإهمال، ويسأل أن يمده لما يحب من الآمال، ولا يمد له حبل الإمهال، ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان، والحمد لله، وهو من الخلق أحمد، وقد آتاه الله ملك سليمان، والله ممتع أمير المؤمنين بما وهبه، ويملكه أقطار الأرض، ويورثه بعد العمر الطويل عقبه، فلا يزال على سدّة العلياء قعوده، ولدست الخلافة به أبهة الجلالة، كأنه ما مات منصوره، ولا أودى مهديه، ولا ذهب رشيده...... «2» . [ص 215] أدام الله أيام الديوان العزيز المولوي السيدي النبوي الإمامي الحاكمي، ونصر به جمع الأيمان، وبشر به بأيامه الزمان، ومتعه بالملك السليماني الذي لا ينبغي لأحد من بعده،
بما ورثه من سليمان، ولا زال يخضع لمقامه كل جليل، ويعرف لأيامه كل وجه جميل، ويعترف بشرفه كل معترف بالتفضيل، ويشهد بنفاذ أوامره من ذي نسبه الشريف كل أخ وخليل، ولا كان إلا كرمه المأمول، ودعاؤه المقبول، وعدوه المصروع، ووليه المحمول، ولا برحت طاعته يعقد عليها كل جمع، ومراسمه ينصت إليها كل سمع، وطوائف الذين كذبوا لا يتلى عليهم آياته، إلا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع..... «1» المماليك يقبلون الأرض بالأبواب الشريفة، التي هي خطة شرفهم، ومكان تعبد القدماء منهم ومن سلفهم، ويلوذون بذلك المقام، ويعودون بذلك الحزم الذي لا يبعد نسبه من البيت الحرام، ويؤملون ذلك الكرم الذي ما منهم إلا من سعد به طائره، وجاءته به في وجه الصباح أشايره، وفي وجه العشاء بشائره، فنالوا به أقصى المرام، وقضوا به من العمر ما إذا قالوا يا سعد لا يعنون إلا تلك الأيام، وينتهون إلى ما ورد به المرسوم الشريف الذي ما من المماليك إلا من ثبت لديه تقديم عبوديته ورقه، وسارع إلى طائره الميمون وحمله بسيفه، فتح له عينه، وظن أنه حاكم، وامتثلوا أمره، وكيف لا تهتبل الرماة أمر الحاكم، لا سيما ابن عم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الحاكم، وأجلوه عن رفعه على العين، إذ كانت تلك منزلة الحاجب، وقدموا إليه خوافق قلوبهم الطائرة، وما علموا إن كانوا قاموا بالواجب، ووقفوا على أحكام حاكمه، فما شكوا أن زمان هذا الفتى بحياة ناصره في بغداد قد عادوا مثاله الممثل في سواد الحدق، مما حملته أيامه العباسية من شعار السواد، وعلموا ما رسم به في معنى محمد بن الحمص الذي [ص 215] ما نورت الليلة الظلماء أكاريخه، ولا بعدت في الإقعاد له تواريخه، بل أخمدت دموع ندمه نيرانه المشعلة، وأصبح به لا يحمل القوس في يده، إلا على أنه مشعلة، وما كان أنهاه
بالديوان العزيز ما لم يذكر الخواطر الشريفة بأنه فيه المقتدري، وأنه صاحب القوس إلا أنه ماله سعادة المشتري، وأنه موه تمويه الجاحد، وتلون مثل قوس قزح، وإلا فقوس البندق قوس واحد، وأدلى بغروره وعرض المحضر الذي حمله على تغريره، وذلك في غيبة الأمير بهاء الدين أرسلان البندقدار الحاكمي، الذي لو كان حاضرا لكان نبّأ بخبره وأحسن بالإعلام بسوء محضره، وتحيل لأخذ الخط الشريف الذي لو عقل لكان حجة عليه، ومؤكد الأبطال رميه وقوسه وبندقه في يديه، لما تضمّنه الخط الشريف المقيد اللفظ بعد الاسوله «1» المكتتب على المصطلح الساحب ذيل فخاره على المقترح، الذي هدي إلى الخير، وبدا به ما وهب من الملك السليماني الذي أوتى من كل شىء، وعلم منطق الطير، فإنه لم يلبث إلا بأن يرمى على الوجه المرضي، واستبقى شروط البندق، والخروج من جميع الأشكال، عملا بقواعده، وهذا الذي كتب له يكتب ويستمر قعوده، ويبكت ويعلم به أنه ما رعي حق قدمته، ولا فعل في الباب العزيز ما يجب من التحلي بشعار الصدق في خدمته، وأنه خالف عادة الأدب، وأخطأ في الكل لكنه ندب، وذلك بعد أن عمل جمع برماة البندق، وسئل فأجاب بأنه سالم من كل إشكال يشكل، وأنه بعد أن أقعد رمى، وحمل وحمل فشهد عليه السادة الأمراء ولاة العهد إخوة أمير المؤمنين، ومن حضر وكتبوا خطوطهم في المحضر، وما حصل الآن عند عرض قصة المماليك بالمواقف المقدسة، ووضوح قضيته المدنسة من التعجب من اعتراف المماليك، لكونهم زموا معه بعد أن رأوا الخط الشريف، وهو لفظ مفيد، وأمر أيد فيه رأي الإمام الحاكم بأمر الله، المسترشد بالله والمؤيد، وكل ما أمر به أمير المؤمنين لا معدل عن صرفه، ولا جدال إلا به، إذا ألزم كل [ص 217] أحد طائره في عنقه، وأمر أمير المؤمنين بحر لا مدد إلا
من علمه، وهو الحاكم، ولا راد لحكمه، وإنما ابن الحمص المذكور عدم السداد، وخالف جاري العادة، فإنه الذي سلق في الافتراء بألسنة حداد، ولم يوقف المماليك من الخط الشريف إلا على بعضه، ولا رآهم من برقه المهلك غير ومضه، والذي أوقفهم عليه من أن يرمي محمد الحمص، ويرمى معه، وكلمة أمير المؤمنين مسمعة، ومن اسمه متبعة، وإذا تقدم كان كل الناس تبعه، غير أن المذكور بدت منه أمور قطع بها الأمير صارم الدين صارجا الحاكم في البندق، كان في حقه، وأقعده عن قدمته التي كان يمت فيها بسيفه، وانتقل عنه غلمانه، وثقل عنه زمانه، ونودي عليه في جمع كبير يزيد على تسعين قوسا، وخرج بخطإ بندقه جرحا لا يوسى، ثم بعد مدة سنين توسل لولد الأمير المرحوم سيف الدين تنكز إلى أبيه، وتوصل به إلى مراميه، فأمر بأن يرمى معه، وهدد المخالف بالضرب ولم يرم معه أحد برضاه، إلا خوفا أن توقد عليه نار الحرب، فلما مضت تلك الأيام وانقضت تلك الأحلام، جمع مملوك الأبواب العالية الأمير علاء الدين أبي الأبوبكري الحاكم الآن في البندق من رماة البندق جمعا كثيرا، واهتم به اهتماما كبيرا، وذكر أمر المذكور، وأحضر محضره المسطور، فلم يكن عليه تعويل، ولا في حكم الحاكم المتقدم تعليل، ولا عند هذا الحاكم الذي ادعى له، وادعى عنده بحور الأباطيل، وتحقق أن الحق فيما حكم به عليه فسمع، وترجح أن لا يقام معه من أقعد، ولا يوصل ما قطع، فنفذ حكم الحاكم المتقدم واستمر بقعوده المتحتم، ووافقه على هذا سائر الرماة بالبلاد الشامية وحكامها، ومن يرجع إليه في الرماية وأحكامها، وبطلت قدمة المذكور التي ذهب فيها عمره ضائعا، وزمانه الذي لو اشتريت منه ساعة بالعمر لم يكن بائعا، ولما ورد الآن هذا المرسوم الشريف، زاده الله شرفا، قبلوا الأرض لديه، وأوقفوا عليه حاكمهم المسمى، فوقف له وعليه، وجمع له [ص 218] جمعا لم يدع فيه من الرماة
معتبرا، ولا من يلقم القوس وترا، ولا من إذا فقد كالعين جرى ما جرى، ثم قرأ عليهم ما تضمن، ودعوا لأمير المؤمنين ولم يبق منهم إلا من دعا أو أمّن، وتضاعف سرورهم بحكمه الذي دفع الخلل، وقطع الجدل، وقالوا لا عدمنا أيام هذا الحاكم الذي أنصف، والإمام الذي عدل، وبقي ابن الحمص مثلة، ونودي عليه أنه من رمى معه كان متخطيا مثله، ووقرت هذه المناداة في كل مسمع، وقرت استقرارا انفصل عليه المجمع، وذلك بما فهم من أمير المؤمنين، ونص كتابه المبين، وبما قضى الله به على لسان خليفته الحاكم، والله أحكم الحاكمين، وطالعوا بها، وأنهوا صورة الحال، ووجهوا في إمضائه الآمال، لا زالت سعادة أمير المؤمنين منزهة عن الشبه، آخذة من خير الدارين كل اثنين في وجه، تحصل كل رمية عن كثب، ولا يرى في كل أمنية إلا كل مصطحب، ما عبّ في السماء المرزم، ووقع العقاب على ثنية، يقرع سنه ويتندم، وعلا السن الطائف، والواقع على آثاره، وسائر طيور النجوم الحوّم..... «1» [ص 219] ، يقبل اليد الشريفة، لا زال اعتناؤها أحد النجاحين، وأحد السلاحين، وأقوى القوادم، إذا جنى الحين حص «2» الجناحين، وتقدم شكرا يعجله لما يؤمله من نواله قبل سؤاله، ويرجوه بإمامه بجاهه، أو بما له بسبب ناصر الدين محمد بن الحمص أحد قدماء البندق، فقد علم ما جرى له مع رفاقه وكساده عندهم بعد نفاقه، وأنهم نتفوا ريشه، ثم عادوا عليه ورشقوه، وأوقدوا له النار، ثم جابوا الحمص الحزين وسلقوه، ثم إنهم لما سلقوه، أكلوه بألسنتهم الحداد، وطحنوه بسواعدهم الشداد، وهو المعتر الآن بينهم في غاية الإضامة، وقد تنقّلوا بعرضه وجعلوه قضامة، وما تكلم في الجمع الذي جمع له، حاشا مولانا الا فشّروه، وقالوا نحن
أخبر بك يا حمص، ثم إنهم قشّروه، وعملوا معه عمل رماة البندق، حتى رموه في وسط الموجلة، وقرعوا من كل أحد وخلّوه لهم مشغلة، وما رئي من الريحة الحمص إلا الصارخ، ولا عرفوا قدره إلا بالكسرة فحصّلوا القدرة، وقدموا النافخ، وقد مضى عليه زمان وهو كبير الجماعة وجائل القدر بينهم، قبل أن يأكلوا الحمص بينهم هذا الأكل من المجاعة، وما فطن لهم، وقد حطبوا عليه هذا التحطيب فرّط، وأوقدوا جمرته وغطوا عليه القضية حتى طخوا «1» قدرته، وصادفوا كل الطير بمعاداته، واستراحوا من الملق بابطال عاداته، وقد زمن المسكين من طول القعود، وندس لما لم يخرج إلى البرزات في الربيع، وقد دب الماء في العود، وقد قتله طول الاختشاء، وذهب عمره وما سرّ له قلب في وجه صباح، ولا وجه عشاء، وكلما أراد أن ينطق، قيل له اسكت لا تتكلم، واستمرّ قاعدا مكانك لا تتقدم، والمذكور له منذ طار بجناح المولى نجاح، وقد أصيب وله سوابق، فيحمل بالسبق وبالجناح، وقد آن لهذا الزّمن المقعد أن يقف على قدمه، ولهذا الطير المذبوح بلا سكين أن يسكن مما يتخبط في دمه، وسيقف مولانا على ما يرد من الجواب، وما فيه وارد، ويرى كيف [ص 220] تجمعت الرماة عليه ورموه عن قوس واحد «2» ، ويعوزه عناية تمد لها هذه الطيور أعناقها، وتعجل له من أحواله المسترقة أعناقها، وذلك بجمع يجمع بالديار المصرية، بحضرة الإمامة، ومكان لا يغمّ على أحد فيه إلا أوقات الهجير ظل الغمامة، فقد ضجر هذا الذاهب المهجر في حب البندق، مما يصبر ومما يؤجر، وقد يبس قوسه، وصار حطبة مما هو مفكوك ما يوتر، وهو مما لا ينقلب من غير مرامي البندق إلى أهله مسرورا، وممن يهون عليه إذا أخذ قوسه أن يفقد عينيه ويكون موتورا، وقد قنع من المملوك بالشفاعة، وبان يتلطخ بندقه بالدم ويقنع
بالشناعة، فقد شكا في هذه المدة لعدم الحمل كمندانه «1» وقعوده وقد برز إلى البر جماعة أخدانه، وهو الآن مما طحنوه مثل هشيم المحتضر، وقوسه قد التوى عنقه، لكن إلى صوب مولانا لما ينتظر، وفي الحديث:(استعينوا على كل صنعة بصالح أهلها) ، وهذا في صنعة البندق هو الصالح الفاسد، وله في كثرة رمي البندق ما لا تنكره الحاسة، وأعجب الأشياء أن اللحم بعده قد قل، ومع هذا الحمص كاسد، وعلى هذا فقد طالت على هذا الشيخ الصالح كما تقدم الخلوة، فقد نضج الحمص، وأما السلق الذي دقوا به قفاه، فبعد عليه غلوه، وقد مزقوا جلده أضعاف ما قدّ لعلائق جراوته من السيور، ودقّ دقا ناعما مثل القضامة «2» وجعل في معالف الطيور، ولا يرد المولى له الشفيع المشفع، ويخفف ما به، فكله حتى عين قوسه بكاء ما يجف لها مدمع.