الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيل: إنه دعيّ في أولئك الأدعياء، ومدخول النسب في أولئك الأشقياء، قيل في أمّه قولا، وإن كان لا يصرّح بمثله، ولا يلوّح به، إلا ليتحرز من قبح فعله، وكان الحجر عليه مضروبا، وليس بيتيم ولا سفيه ومضرورا، وله من الملك محق ما يكفيه، لكنه لغلبة الوزراء وعزل بصيرته في دفع الضراء، وولد في العشرين من المحرم سنة سبع وستين [ص 60] ، سنة كأنما كانت بأنواع الضوائق مئين.
ثم ابنه:
40- الآمر بأحكام الله
أبو علي المنصور «1» ولي وهو ابن خمس، وبويع وما أنزل أبوه الرمس، وقام
بدولته الأفضل ابن أمير الجيوش «1» وزير أبيه، وكان هو وزيره والذي يربيه، وكان أبا برا، إلا أنه أبى أن يفك عنه حجرا، ولم يزل يربيه على الشهامة، ويرتبه ترتيب الإمامة، إلى أن اشتدت ساعده، فرماه وأصابه من حيث لا يرى فأصماه، وكان الآمر أسمر «2» شديد السمرة، شهما لا تخمد له جمرة، عليّ الهمة، بليّ العزمة، لا يبعد عليه منال، مهما رام نال، وكان الأفضل مدة وزارته له، قد عامل الرعية بإحسان، وأبرز أيامه فيما يروق من الاستحسان، وكان من قلوب الرعايا بمحل، ما ثوى في غيره ولا حل، فلما مات وجدت لفقده، وجدّت في البكاء عليه والوقوف على لحده، وخلف من خزائن الأموال المملوءة ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، وكذلك وجد له من الجواري وحلى النساء، ما لو كوشف به الليل لمحا آية المساء، ويحكى من حسن اهتمامه بعمارة الأرض وتغليقها، ببذل البذار وتنميقها، بما لا يزال ولاة الأعمال منه على جانب الحذار، أنه استجلب أردبين قمحا غرائب الزريعة، أراد أن يجعلهما للاختبار الذريعة، فأخرهما حتى فرغ أوان الزرع، ولم يبق لمحراث في الأرض قرع، ثم بعث بالأردبين أحدهما إلى الصعيد، والثاني إلى أسفل مصر، وكتب إلى والي كل عمل منهما، بأن يبذر إردبّه ويستكمل زرعه، ولا يؤخر منه حبة، فأجابه أحدهما بأنه قد فعل، وأجابه الآخر بأنه اجتهد على تحصيل أرض فارغة لبذارها فما حصل، فعرف اهتمام الأول بتغليق عمله، وإهمال الثاني، حتى
وجد لذلك الأردب مكانا من معطله، فأنعم على الأول وشكره، وقبض على الثاني وسمّره، ثم لما مات وزّر الآمر المأمون بن البطائحي، وأقامه وفوّض إليه الزعامة، وكان هو المتقلد [ص 61] بالتفويض، وبه نجز الأمر يزجر ويغيض، وهو يراجع في الأمر الآمر، ويرجع إلى ما يأمر به ويستأمر، والآمر يركب وينزل ويتصيّد، ويتخلّى عن موضعه ويتفرّد، وكان يتحدث في أمور ما يكون، وما يتجدد من الحركات والسكون، وحكى بعض من كان له به اجتماع، أنه أراه كتابا فيه صور مصورة، ومنيّات مختلفة، وفيها صورته قد قتل وهو على فرس أشهب، وألقي إلى جانب جسر أكهب «1» ، ثم قال لي أتعرف هذه الصورة؟
فقلت: لا، فقال: بل تعرف هذه الصورة، وما أظنه إلا وقد آن الوقت، فما مضت سنة حتى رأيت الآمر راكبا بالجيزة على فرس أشهب مارّا مع الجسر كأنه ذلك المصور ثم تفرد، وانقطع عنه الموكب، فخرج عليه جماعة رجال في سلاح كانوا قد اتّعدوا على قتله، فرقبوه حتى تفرد عنه جسر الجيزة وقطعوه بأسيافهم.
قال الحاكي: فجئت حتى كنت فيمن وقف عليه على تلك الصورة، ما أخطأ منها شيئا، وحكي أن الآمر بينا هو في موكبه قبلي بركة الحبش «2» ، إذ تقدّمهم، فمرّ رجل على باب بستان له، وحوله عبيد وموال له، فاستسقاه ماء، فسقاه، فلما شرب قال: يا أمير المؤمنين، قد أطمعتني في السؤال، فان رأى أن يكرمني بنزوله لأضيفه، فقال: ويحك، معي الموكب، فقال: وليكن يا أمير المؤمنين، فنزل فأخرج الرجل مائة بساط، ومائة نطع، ومائة وسادة وفرشها، فصارت مدّ البصر، ثم أخرج مائة طبق بوارد، ومائة طبق فاكهة، ومائة جام
حلوى، ومائة زبدية أشربة سكرية كلها، فبهت الآمر، ثم قال له: أيها الرجل خبرك عجيب، فهل علمت بهذا فأعددت له؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، وإنما أنا رجل تاجر من رعيتك، لي مائة حظية، فلما أكرمني أمير المؤمنين بنزوله عندي أخذت من كل واحدة شيئا من فرشها، ورأيت أكلها وشربها [ص 62] ولكل واحدة في كل يوم طبق طعام، وطبق بوارد، وطبق فاكهة، وجام حلوى، وزبدية شراب، فسجد الآمر شكرا وقال: الحمد لله الذي في رعايانا من يسع حاله هذا، ثم أمر له بما في بيت المال من الدراهم، ضرب تلك السنة، فكان ثلاثة آلاف ألف وسبع مائة ألف درهم، ثم لم يركب حتى أحضرها فأعطاها للرجل، وقال له: استعن بهذه على حالك ومروأتك، ثم ركب وانصرف.
ومن الكنوز قال: وحكاياته مع البدوية التي عشقها وتزوج بها عند أهل مصر شبيهة بالخراف، قال ابن الفوطي: هي العالية، وكانت قد وصفت للآمر، فتزيّا بزي العرب حتى رآها، ثم أرسل لها خاطبا لها إلى أهلها وتزوج بها، فلما وصلت إليه صعب عليها فراق البرّ، فبنى لها بالجزيرة البناء المعروف بالهودج، وكانت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربيت معه يعرف بابن ميّاح، فكتبت إليه:
[الرمل]
يا بن ميّاح إليك المشتكى
…
من مليك بعدكم قد ملكا
كنت في حبّي مطاعا آمرا
…
نائلا ما شئت منكم مدركا
فأنا الآن بقصر موصد
…
لا أرى إلا حبيسا ممسكا
كم تثنينا بأغصان اللوي
…
حيث لا يخشى علينا دركا
وتلاعبنا برملات الحمي
…
حيثما شاء طليق سلكا