الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
28- دولة المستعلي
«1»
أبي عبد الله محمد بن إدريس المتأيد بن الناصر علي بن حمود، وكان ممن يسود ولا يسود، يتساقط ضعفا، ويتقدم خلفا، بويع سنة ست وأربعين وأربع مائة، وخطب له بمالقة ومرية وزبدة وغيرها من البلاد، فتمهّد له الأمر وما كاد، وأراد التشبه بسيرة أبيه فما أطاق، ولا قدر أن يفتح بها فما، ولا يشد له بها نطاق، وضيق عليه باديس بن حيوس الصنهاجي صاحب غرناطة، فقهره وخلعه، وابتزه ملكه وما جمعه، وذلك في سنة تسع وأربعين وأربع مائة، وكانت مدته سنة واحدة، تنبّه عيونها وهي راقدة، ثم سار إلى المرية، قال [ص 37] الغرناطي: فأقام سنة أذلّ من سائل، وأحقر من جاهل، فاستدعاه أهل مليلة ليملكوه، فعبر البحر فبايعوه في شوال سنة تسع وخمسين، ثم بايعه بنو ورتيدي وقلوع حاره ونواحيها، وأقام بها مملكا إلى آخر سنة ستين، ومات، وكانت مدته بها سنتين وثلاثة أشهر، وانقرضت دولتهم، وفني ملكهم، فسبحان من لا يفنى ملكه، بيده أخذ كل شىء وتركه.
29- ذكر دولة المهدي محمّد بن تومرت
«2»
ويكنى بأبي عبد الله، وهو المدعو له على منابر الغرب وبإفريقية خاصة إلى
الآن، تقول الخطباء: الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، وقال لي الإمام أبو عبد الله محمد بن الصايغ القرشي: إنه ربما دعي له إلى اليوم على منابر الأندلس، ولكن لا يزاد على قول المهدي المعلوم، وهو حسني من ولد الحسن بن علي عليهما السلام، ومن الكنوز: أنه إدريسي، قال مؤلفه: هو من بني إدريس بن إدريس، وقال: وبنو عبد الله بن إدريس بن إدريس في السوس، عدد وخلق، قلت: ولم أقف على نسبه الموصول، ولا عرفت فرعه اليانع من أي الأصول.
وكان ابن تومرت داهية لا يعد معاوية بن أبي سفيان تربه، ولا مثله المغيرة بن شعبة، يقصر عنه دهاء عمرو، وسميّه ابن العاصي في آخر الأمر، أو قيس به زياد لما زاد، أو أبو جعفر المنصور لخاف على جعفره من مكاثرة الأمداد، وكانت
همّته لا تحدثه بما دون النجم، وعزمته لا يلين عودها بالعجم، أبصر بمقاصده [من] زرقاء اليمامة، وأجدى على مؤمّله من أنواء الغمامة، وكان قد ساح في الأرض ورأى دنسها، وشمّر ذيله لما عرف نجسها، فأورد [ص 38] خيله المجرّة «1» ، وصعد أبنية البروج المشمخرّة، ونازع النجوم في رتبها، ونصل سها «2» بشهبها، وافترس الأسد بالأسد، واقتبس جمرة المريخ في سنان ذابله وقد وقد، وكان قد قدم الصعيد في الدولة العبيدية، والرفض «3» قد ملأ الملا واعتلى العلى، وعم الديار المصرية، حتى طبق مفاصلها وطرّق بالبدعة الشنيعة مواصلها، فنزل بمسجد هناك، رأى مكتوبا عليه:(لعن الله الصحابة) رضوان الله عليهم، فنزله، وهو من الحق تغلي مراجله، وود لو قد يساور كاتبه ويعاجله، فكتب عليه:
[البسيط]
إني وفي النفس أشياء مخبّأة
…
لألبسنّ لها درعا وجلبابا
حتى أطهّر هذا الدين من نجس
…
وأوجب الحقّ للسادات إيجابا
والله لو ظفرت كفّي ببغيتها
…
ما كنت عن ضرب أعناق الورى آبى
ثم قام وهو لا يتهدّى ولا يعرف أي بحر يجاوره ويتعدّى، ثم أتى مكة وشهد الموسم بمنى، وشاهد من فيه الغناء لا الغنى، واتخذ لعبة من الزجاج المذهب ووضعها على جمرة العقبة «4» ، وقعد أيامها وعينه مرتقبة، وبقي كلّ ما
مرّ به مارّ قال له: هذه صورة فاكسرها، فلا يجيبه، ويقول: لعل لهذه صاحبا إذا كسرتها طالبني بثمنها، إلى أن مرّ به مغربي من أهل الجبل الذي آوى إليه، فلما قال له ما تأبّى أن كسرها وما تأتّى، فقال ابن تومرت: هؤلاء أريد لسرعة تلقيهم لما يقال لهم بالقبول، وترك القائل لهم وما يقول، وقضيته معروفة لم يخل منها مجالسة جليس، ولا مؤانسة أنيس، ولا سمع مرءوس ولا رئيس لما فيها من دقائق التلطف في المراد، والتوصل إلى ما في النفس والتهيؤ «1» للاستعداد، بهمة تقسر المآرب، وتعتذر على المطالب، وكان ابن تومرت واحد زمانه، وفريد عصره حتما وحزما وعزما وجزما وعلما [ص 39] وحلما وعدلا، لا يدع ظلما ولا جورا، إلا ما يسمى في عيون الغيد حورا، ويدعى في ريق الغواني ظلما، مع الزهد والورع والقنع، ولو شاء لما اقتنع، والعفاف وما تلبس منه وادّرع، وكان لا يمل صاحبه ولا يسأمه، ولو تركه مغيرا لوجه ساحبه.
قال مؤلف الكنوز: كان ربعة قصفا «2» أسمر عظيم الهامة حديد النظر، كثير الإطراق سجّاعا عالما، مقبلا على العبادة، لا يصحبه من متاع الدنيا إلا عصا وركوة «3» ، ومن الأشعار لابن العديم قال: لحق إلى المشرق ولقي الغزالي «4» وأخذ معه فيما يرومه فصعّبه عليه، وقال له: لو كان هذا أمرا ممكنا لما سبقت إليه، فلما خرج الغزالي رحمه الله لوداعه قال ابن تومرت فيه:
[المتقارب]
أخذت بأعضادهم إذ نأوا
…
وخلّفك القوم إذ ودّعوا
فكم أنت تنهى ولا تنتهي
…
وتسمع وعظا ولا تسمع
فيا حجر الشحذ حتى متى
…
تسنّ الحديد ولا تقطع
قال: وأقام بمكة مدة يلاحظ أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتمثل طريقته، وينسج على منواله، فأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان قد اطلع على الجفر «1» ، وعلوم أهل البيت، وأتى مراكش فرأى زينب بنت أمير المسلمين علي بن تاشفين «2» ، وحولها جوار لها يرفلن بالحلي والحلل، وهن حاسرات، فأنكر عليهن وضربهن بعصاة، فلما بلغ هذا أباها، عقد له مجلسا، وجمع فيه العلماء وأحضره، فتكلم بكلام أنكى به ابن تاشفين، فأشار عليه مالك بن وهب بسجنه، وقال: هذا لا يجري منه خير على الدولة، فقام الوزير وقال: هذا أضعف من أن يخاف منه، فخلصه الله منه، فقال لأصحابه: إن ابن وهب لا يبرح يضرب الأمثال فينا لعلّي حتى يبدو له رأي آخر، والرأي أن يعتصم بالجبل، فصعدوا إلى درن «3» وبايعه أصحابه على أنه
المهدي المبشّر به، وذلك سنة [ص 40] خمس عشرة وخمس مائة، فلما صعد الجبل رأى زرقة في أبنائهم، فقال: من أين هذه الزرقة في بنيكم؟ قالوا علوج ابن تاشفين، تأتينا فتأخذ النساء وتنهب الأموال، فقبّح هذا وأكبره، وأمرهم بمنع ما كانوا يؤدونه، وقتل من أبى منهم، وظهرت على يده خوارق، يقول أولياؤه إنها كرامات، ويقول أعداؤه إنها مخاريق ميز في أهل الجبل المنافقين، وقال: قد عرّف بهم، يعني يكشف، ثم أخذ يضرب عنق كل متلو عليه فيشتد له أمر الجبل، وطفق يغزو بهم بلاد ابن تاشفين، وكانت عليه أول مرة، فطيّب قلوب أصحابه، وعرّفهم أن الكرّة لهم.
قلت: وله التصانيف المفيدة النافعة لمن تعلم الجامعة، في بعضها محاسن ما تقدم، واستفسد بالغرب أمما، بل استصلح واستبهم أمره بالكتمان حتى استصبح، ثم حارب لمتونة «1» ، واستحوذ على ملكهم بلا مؤونة، لكنه مات وما فتح بلدا شهيرا، ولا معقلا منيعا اتخذه ظهيرا، وكان قد عهد إلى عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي «2» ، وكان أخص أصحابه المعتبرة لصحابته، وأقرب
مكانهم منه إلى ظل سحابته، وكان إذا رآه مقبلا قال، إما له وإما متمثلا، شعر:
[البسيط]
تكمّلت فيك أوصاف خصصت بها
…
فكلنا بك مسرور ومغتبط
السنّ ضاحكة والكفّ مانحة
…
والصدر متسع والوجه منبسط
فاستخفه الطيش وتسمّى بأمير المؤمنين، وما هو من قريش، وتداول بنو عبد المؤمن ملكا سموه الخلافة، وعظم شأنهم، وملكوا من حدود مصر إلى البحر المحيط في نهاية المغرب وجزيرة الأندلس، وإنما أجهد ابن تومرت نفسه، وركب الأخطار، حتى سبّب لهم هذا الملك العتيد، ونظم لهم هذا السلك الفريد، أذاعوا عنهم تلك السمعة التي أحوجت السلطان صلاح الدين رحمه الله، إلى أنه كاتبهم وراود كاتبه الفاضل بأن يخاطب قائمهم إذ ذاك بإمرة المؤمنين، فتأبّى عليه وامتنع، وقال: مثل [ص 41] هذا ما وقع ولا يقع، وقال: متى كتبنا لهم بهذا حتى قرئ الكتاب على منبر من منابر الغرب، جعلونا لهم خالعين، ولهم لا لبني العباس طائعين، واقتصر على أنه كتب نسخة إلا موضع هذه الكلمة، وخاطبهم وما أطلق ولا أمسك قلمه، بل هو في الرتبة الوسطى، لا يتمحّص فيها أنه أصاب ولا أخطأ، ثم توسل إلى صلاح الدين بأن لا يكون الكتاب بخطه، وقال له والخادم يستجير هو وذريته بالمولى من هذا، وكان مضمون الكتاب الاستنجاد بابن عبد المؤمن، وطلب الإمداد على الفرنج بما يمكن، ثم جهّز على يد ابن منقذ، فما كان بمنقذ، فاستصرخ به وما هو بمصرخه، ولا بواضع وزر همّه، ولا مفرخه، وإن كان هذا ما هو موضع ذكر بني عبد المؤمن، وإنما ذكر ابن تومرت اقتضاه، وهو الذي سلمهم السيف وانتضاه.
فهذه مشاهير دول بني الحسن بن علي عليهما السلام، سوى من تقدم