المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌103- عبد الله بن الزبير رضي الله عنه - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - جـ ٢٤

[ابن فضل الله العمري]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الرابع والعشرون]

- ‌المقدمة

- ‌مؤلف الكتاب:

- ‌علمه وأدبه:

- ‌وصف مخطوطة الكتاب:

- ‌الكتاب ومنهج مؤلفه:

- ‌منهج التحقيق:

- ‌[دولة حسنيين]

- ‌1- ذكر دولة المهديّ

- ‌2- ذكر دولة أخيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن

- ‌ذكر بني طباطبا

- ‌3- محمّد بن إبراهيم العلويّ

- ‌4- الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن طباطبا

- ‌5- محمّد المرتضى

- ‌6- أحمد النّاصر ابن الهادي

- ‌7- ذكر دولة القائم بالمدينة أبي عبد الله محمّد بن الحسن

- ‌8- ذكر دولة السّفّاك إسماعيل

- ‌9- ذكر دولة الكبير ومنهم أهل الينبع

- ‌10- أبو عزيز قتادة بن إدريس

- ‌11- النّاهض بأمر الله محمّد بن سليمان بن داود

- ‌12- أبو الفتوح الحسن بن جعفر

- ‌ذكر الدّولة الطّبرستانيّة

- ‌13- الدّاعي إلى الحقّ

- ‌14- القائم بالحقّ

- ‌15- المهديّ أبو محمّد

- ‌ذكر دولة الأخضريّين

- ‌ذكر دولة الأدراسة ببلاد المغرب

- ‌16- إدريس المغرب

- ‌17- إدريس بن إدريس

- ‌18- القاسم بن إدريس

- ‌19- دولة النّاصر عليّ بن حمّود

- ‌20- المأمون

- ‌21- ذكر دولة المعتلي أبي إسحاق يحيى بن عليّ بن حمّود

- ‌22- ذكر دولة المتأيّد أبي العلى

- ‌23- ذكر دولة القائم أبي زكريّاء

- ‌24- ذكر دولة المستنصر أبي محمّد

- ‌25- ذكر دولة أخيه العالي

- ‌26- ذكر دولة المهديّ

- ‌27- ذكر دولة الموفّق

- ‌28- دولة المستعلي

- ‌29- ذكر دولة المهدي محمّد بن تومرت

- ‌30- فأما دول بني الحسين بن عليّ

- ‌ذكر الدّولة العبيديّة

- ‌31- المهديّ بالله

- ‌32- القائم بأمر الله

- ‌33- المنصور بالله

- ‌34- المعزّ لدين الله

- ‌35- العزيز بالله

- ‌36- الحاكم بأمر الله

- ‌37- الظّاهر بإعزاز دين الله

- ‌38- المستنصر بالله

- ‌39- المستعليّ

- ‌40- الآمر بأحكام الله

- ‌41- الحافظ لدين الله

- ‌42- الظّافر بأمر الله

- ‌43- الفائز بنصر الله

- ‌44- العاضد لدين الله

- ‌[دولة الحسينيين]

- ‌45- ذكر دولة الزّيّديّ القائم بالكوفة

- ‌46- ذكر دولة محمّد بن جعفر الصّادق

- ‌47- ذكر دولة الزّنجيّ

- ‌48- ذكر دولة القرامطة وأوّلهم ذكر فرية قرمط

- ‌49- يحيى بن قرمط

- ‌50- الحسين بن قرمط

- ‌51- أحمد بن الحسين

- ‌52- الحسن بن بهرام الجنّابيّ القرمطيّ

- ‌53- سليمان بن الحسن بن بهرام الجنّابيّ القرمطيّ

- ‌54- الأعصم

- ‌وهذه الدّولة العبّاسيّة

- ‌55- دولة السّفّاح

- ‌56- دولة المنصور

- ‌57- دولة المهديّ

- ‌58- دولة الهادي

- ‌59- دولة الرّشيد

- ‌60- دولة الأمين

- ‌61- دولة المأمون

- ‌62- دولة المعتصم بالله

- ‌63- دولة الواثق بالله

- ‌64- دولة المتوكّل على الله

- ‌65- دولة المنتصر بالله

- ‌66- دولة المستعين بالله

- ‌67- دولة المعتزّ بالله

- ‌68- دولة المهتدي بالله

- ‌69- دولة المعتمد على الله

- ‌70- دولة المعتضد بالله

- ‌71- دولة المكتفي بالله

- ‌72- دولة المقتدر بالله

- ‌73- وأمّا خروج عبد الله بن المعتزّ عليه

- ‌74- دولة القاهر بالله

- ‌75- دولة الرّاضي بالله

- ‌76- دولة المستكفي بالله

- ‌77- دولة المطيع لله

- ‌78- دولة الطّائع لله

- ‌79- دولة القادر بالله

- ‌80- دولة القائم بأمر بالله [ص 170]

- ‌81- دولة المقتدي بأمر بالله

- ‌82- دولة المستظهر بالله

- ‌83- دولة المسترشد بالله

- ‌84- دولة الرّاشد بالله

- ‌85- دولة المقتفي بأمر بالله

- ‌86- دولة المستنجد بالله

- ‌87- دولة المستضىء بأمر بالله

- ‌88- دولة النّاصر لدين الله

- ‌كم بذي الدوح أثلة من قضيب

- ‌89- دولة الظّاهر بأمر الله

- ‌90- دولة المستنصر بالله

- ‌91- دولة المستعصم بالله

- ‌[الخلفاء العباسيون في مصر]

- ‌92- المستنصر بالله

- ‌93- الحاكم بأمر الله

- ‌94- المستكفي بالله

- ‌95- الواثق بالله

- ‌96- الحاكم بأمر الله

- ‌[صورة المبايعة للحاكم]

- ‌وهذه الدولة الأموية

- ‌97- دولة معاوية بن أبي سفيان

- ‌98- دولة ابنه يزيد بن معاوية

- ‌99- دولة معاوية بن يزيد بن معاوية

- ‌100- عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه

- ‌101- دولة مروان بن الحكم

- ‌102- دوّلة ابنه عبد الملك بن مروان

- ‌103- عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه

- ‌104- دوّلة ابنه الوليد بن عبد الملك

- ‌105- دوّلة سليمان بن عبد الملك بن مروان

- ‌106- دوّلة عمر بن عبد العزيز

- ‌107- دوّلة يزيد بن عبد الملك بن مروان

- ‌108- دوّلة هشام بن عبد الملك

- ‌109- دوّلة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

- ‌110- دولة يزيد بن الوليد بن عبد الملك

- ‌111- دولة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك

- ‌112- دولة مروان بن محمّد

- ‌الدولة الأموية بالأندلس

- ‌113- دولة عبد الرّحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان

- ‌114- دولة ابنه هشام بن عبد الرّحمن [ص 310]

- ‌115- دولة ابنه الحكم بن هشام الرّبضيّ

- ‌116- دولة ابنه عبد الرّحمن بن الحكم

- ‌117- دولة ابنه محمّد بن عبد الرّحمن

- ‌118- دولة ابنه المنذر بن محمّد

- ‌119- دولة أخيه عبد الله بن محمّد

- ‌120- دولة ابن ابنه عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الله بن محمّد النّاصر

- ‌121- دولة ابنه الحكم المستنصر بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌122- دولة ابنه هشام المؤيّد بن الحكم

- ‌123- دولة محمّد المهديّ بن هشام بن عبد الجبّار بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌124- دولة سليمان بن الحكم المستنصر بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌125- دولة المستظهر عبد الرّحمن بن هشام

- ‌126- دولة محمّد بن عبيد الله بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌127- دولة هشام بن محمّد بن عبد الملك بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌مصادر التحقيق

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌103- عبد الله بن الزبير رضي الله عنه

لم يخرج عمرو إلى الصلاة، قاتل أصحابه البوابين، وشج الوليد بن عبد الملك، فلما رأى ذلك قبيصة بن أبي ذؤيب، قال لعبد الملك: ارم لهم بالرأس وانثر الدنانير عليهم ليشتغلوا ويتفرقوا، ففعل، وكان الأمر على ما قال ابن أبي ذؤيب، وذهب دم عمرو هدرا.

ويحكى أنه لما قتل عمرو بن سعيد وتسمى بالخلافة سلم عليه «1» أول تسلمه، فالمصحف في حجره، فأطبقه وقال:(هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)

«2» ، وكان في عنفوان نسكه، صديق من أهل الكتاب يقال له يوسف، وكان قد أسلم، فقال له عبد الملك يوما، وقد مضت جيوش يزيد بن معاوية مع مسلم بن عقبة المري يريد المدينة الأخيل عدو الله، كيف يقصد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له يوسف: حسبك والله إلى حرم الله أكبر من جيشه إلى حرم رسول الله، فقال عبد الملك: عياذا بالله، «3» ، فقال له يوسف: والله ما قلت شاكا ولا مرتابا، وإني لأجدك بجميع أوصافك، قال عبد الملك: فيكون ماذا، قال: يتداولها رهطك إلى أن تخرج الرايات السود من خراسان.

وأما:

‌103- عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه

وكان يكنى أبا بكر «4» ، ويكنيه من ذمه أبا خبيب، فإنه لما قتل أخوه

ص: 386

مصعب، وبايع الناس عبد الملك، ودخل الكوفة، قال له لحجاج: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في المنام كأني أسلخ ابن الزبير من رأسه إلى قدمه، فقال له عبد الملك: أنت [ص 259] صاحبه، فأخرج معه الجيوش، فسار بها حتى نزل على مكة، ونصب المجانيق على أبي قبيس وعلى قيقعان، وما زال يحاصره ويضيق عليه، فلما كان في الليلة التي قتل في صبيحتها، جمع القرشيين، فقال لهم: ما ترون؟ فقال رجل من بني مخزوم: والله لقد قاتلنا معك حتى لا نجد مقتلا، والله لئن صرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هي إحدى خصلتين، إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا ولك، وإما أن تأذن لنا فنخرج، فقال له رجل:

اكتب إلى عبد الملك، قال: كيف أكتب، من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان، فو الله لا يقبل هذا أبدا، أو أكتب لعبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، من عبد الله بن الزبير، فو الله، لئن تقع الخضراء على الغبراء أهون عليّ من ذلك، فقال له عروة بن الزبير، وهو جالس معه على السرير: يا أمير المؤمنين، قد جعل الله لك أسوة، قال: ومن هو، قال: الحسن بن علي، خلع نفسه وبايع معاوية، فرفع عبد الله رجله وركضه في رجله أرماه عن السرير، وقال: يا عروة، قلبي إذا مثل قلبك، والله لو قلتها ما عشت إلا قليلا، وقد أخذتني الدنية، ولئن أضرب بسيف من عز، خير من أن ألطم في ذل، فلما أصبح دخل على امرأته أم هاشم بنت منظور، وهي التي يقول فيها الفرزدق، إذ نافرته زوجته النوار إلى عبد الله بن الزبير، فنزل الفرزدق على حمزة بن عبد الله بن الزبير، ونزلت زوجته النوار على بنت منظور بن زبان، فكان كلما أصلح

ص: 387

حمزة من شأن الفرزدق عند أبيه نهارا، أفسدته زوجته أم هاشم ليلا، حتى غلبته النوار، ففي ذلك يقول:

[البسيط]

أما البنون فلم تقبل شفاعتهم

وشفّعت بنت منظور بن زبّانا

ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا

مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا [ص 260]

فلما دخل ابن الزبير على أم هاشم قال لها اصنعي لي طعاما، فلما صنعت له ذلك، أخذ منه لقمة فلاكها ثم لفظها، وقال: اسقوني لبنا ثم اغتسل وتحنط وتطيّب، ثم أتى أمه أسماء ذات النطاقين، فقال: ما ترين يا أماه، فقد خذلني الناس، فقالت: لا يلعب بك صبيان بني أمية، عش كريما، ومت كريما، قال لها: إني أخشى أن يمثّل بي بعد الموت، فقالت: إن الشاة لا تألم بالسلخ بعد الذبح، فقبّل بين عينيها وودعها وخرج، وأسند ظهره إلى الكعبة، وجعل يقاتل، فلا يؤم جمعا إلا هدّه، فقال رجل شامي اسمه خليوب: ألا يمكنكم أخذه إذا ولّى، قيل له: فخذه أنت إذا ولّى، قال: نعم، وهو يريد أن يحتضنه من خلفه، فعطف عليه فقطع ذراعيه، فصاح فقال: اصبر خليوب، ثم جعل يقول:«1»

قد جدّ أصحابي ضرب الأعناق

وصارت الحرب بينهم على ساق

فبينا هو يقاتل جاءه حجر من حجارة المنجنيق [وهم] يرتجزون:

خطّارة مثل الفنيق المزبد

يرمى بها عوّاذ أهل المسجد

ولما صرعه حجر المنجنيق، اقتحم عليه أهل الشام، فحملوه فذهبوا به إلى

ص: 388

الحجاج «1» ، فدعا بالنطع وحزّ رأسه بيده، وبعث به إلى عبد الملك، ثم أتى الحجاج أمه ليعزيها فيه، قالت له: يا حجاج أقتلت عبد الله، قال لها: يا بنة أبي بكر، إني قاتل الملحدين، قالت له: قاتل الموحدين، قال لها: كيف رأيتني صنعت بابنك، قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، ولا ضير إن الله أكرمه على يديك، وقد أهدي رأس زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.

وروى هشام بن عروة عن أبيه قال: كان عثمان بن عفان قد استخلف عبد الله بن الزبير على الدار، فبذلك ادّعى الخلافة. ثم لما صلب ابن الزبير كان عبد الله بن عمر يقول لقائده: جنبني خشبة ابن الزبير، فوقف ودعا له وقال: إن علتك رجلاك- وكان [ص 261] منكسا- لطالما وقفت عليهما في صلاتك، وإن قوما كنت شرهم لقوم كلهم أخيار، ثم قال لأصحابه: أما والله، ما عرفته إلا صوّاما قوّاما، ولكن ما زلت أخاف عليه مذ رأيته أعجبته بغلات معاوية الشهب، وكان معاوية قد حج، فدخل المدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء عليها رحائل الأرجوان، فيها الجواري، عليهن الحلي والمعصفرات، ففتنت الناس.

وإذا انتهينا في ذكر ابن الزبير، فلنعد إلى تتمة أخبار عبد الملك بن مروان:

ص: 389

قال المدائني: دخل عبد الملك على يزيد بن معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين، إن لك أرضا بوادي القرى لا غلة لها، فإن رأيت أن تأمر لي بها، فقال يزيد: إنا لا نخدع عن صغير، ولا نبخل بكبير، قال: فإنها تغل كذا وكذا، قال: هي لك، فلما ولّى قال يزيد: هذا الذي يقال إنه يلي بعدنا، فإن كان ذلك باطلا، فقد وصلناه، وإن كان حقا، فقد صانعناه.

وعن ذكوان قال: كان فقهاء المدينة يعدون أربعة منهم عبد الملك بن مروان.

وعن نافع قال: لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرا، ولا أملك لنفسه، ولا أظهر مروءة، من عبد الملك، قال: وكان يقال لعبد الملك حمامة المسجد لعبادته. وشكى بعض العمال إلى ابن عمر، وعبد الملك يصلي إلى سارية، فقال ابن عمر: لو وليهم عبد الملك هذا ما رضوا به، يضرب به المثل في الفضل والصلاح.

قال الشعبي: دخلت على عبد الملك فقلت: أنا الشعبي يا أمير المؤمنين، فقال: لو لم نعرفك لم نأذن لك، فلم أدر ما أقول، ثم قال: علّم بني الشعر، فإنه ينجدهم ويمجدهم. وقال: وفدت على عبد الملك، فما أخذت بحديث أرى أنه لم يسمعه، إلا سبقني إليه، وربما غلطت في الشيء وقد علمه، فيتغافل عني تكرما.

وقال عبد الملك: شممت الطيب حتى ما أبالي رائحة ما وجدت، وأتيت النساء [ص 262] حتى ما أبالي أرأيت امرأة أم حائطا، وأكلت الطعام، حتى ما أبالي ما أكلت، وما بقيت لي لذة إلا في محادثة رجل ألقي التحفظ بيني وبينه.

وأوصى أهل مكة فقال: يا بني مروان، ابذلوا معروفكم، وكفوا أذاكم، واعفوا إذا قدرتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم، ولا تلحفوا إذا سألتم، فإنه من ضيّق ضيّق عليه، ومن وسّع وسّع عليه.

ص: 390

وقيل له: لقد شبت يا أمير المؤمنين، فقال: وكيف لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة، يعني الخطبة. وقال وقد قيل له هذا مرة أخرى: لقد شيبتني قعقعة لجام البريد، وصرير أعواد المنابر. وعن جويرية بن أسماء قال: كان لعبد الملك بيت مال لا يدخله إلا مال طيب، لم يظلم فيه مسلم ولا معاهد، قد عرف وجوهه، فكان يصدق منه النساء، ويشتري منه الإماء اللاتي يتخذهن أمهات أولاد، ويقول: لا أستحل أنكح إلا طيّبا، فإن ذلك في الأولاد.

وحكى البلاذري أن عبد الملك كان يشتو بالصنبرة «1» من الأردن، فاذا انسلخ الشتاء نزل الجابية «2» ، فإذا مضت أيام من آذار دخل دمشق، حتى إذا حان حمّارة القيظ أتى بعلبك، فأقام بها، حتى تهيج رياح الشتاء، فيرجع إلى دمشق، فإذا اشتد البرد، خرج إلى الصنبرة.

وعن المدائني قال: رأى عبد الملك كأنه بال في الكعبة، فبعث إلى سعيد بن المسيب من سأله عنه، وقال له: لا تخبره أنني رأيته، فقال له الرجل: رأيت كذا، فقال له سعيد: مثلك لا يرى هذه الرؤيا، فرجع إلى عبد الملك فأخبره فقال: ارجع إليه فأخبره أني رأيتها، فرجع إليه فأخبره، فقال: يخرج من صلبه من يلي الخلافة.

وعن حبيب بن منيع قال: جلست إلى سعيد بن المسيب يوما، والمسجد خال، فجاء رجل فقال: يا أبا محمد، رأيت في النوم كأني أخذت عبد الملك بن مروان، فوتدت في ظهره أربعة أوتاد، وتدا بعد وتد، فقال: ما أنت [ص 263]

ص: 391

رأيت هذه الرؤيا، فأخبرني من رآها، قال: ابن الزبير، قال: الآن صدقت، وإن صدقت الرؤيا قتل عبد الملك عبد الله بن الزبير، وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة، قال: فرحلت إلى عبد الملك فدخلت عليه، وهو في الخضراء بدمشق، فأخبرته الخبر، وسألني عن ابن المسيب، ثم سألني عن ديني، فقلت: أربع مائة دينار، فأمر لي بها من ساعته، ومائة دينار أخرى، وإبل أحملني عليها، وحمّلني طعاما وزيتا وكساء، فانصرفت راجعا إلى المدينة.

وقال عبد الملك بن مروان لسعيد بن المسيب: يا أبا محمد، صرت أعمل الخير فلا أسرّ به، وأفعل الشر فلا أسأله، قال: الآن تكامل فيك موت القلب.

وكان يقال: معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم، وكان على ديوان الصدقة حتى كانت الفتنة.

وذكر البلاذري أنه لما ورد كتاب الحجاج على عبد الملك في أمر ابن الأشعث «1» ، نزل عن سريره، وبعث إلى أبي هاشم خالد بن يزيد، فأقرأه

ص: 392

الكتاب، فلما رأى ما به من الجزع والارتياع قال: إنما نخاف الحدث من خراسان وهذا الحدث من سجستان فلا تخفه، ثم خرج عبد الملك على الناس، فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن أهل العراق قد استطالوا عمري، فاستعجلوا قدرتي، فسلّط اللهم عليهم سيوف أهل الشام حتى تبلغ رضاك.

وصار الحجاج إلى البصرة فأقام بها، وعزم على لقاء ابن الأشعث، وجعل فرسان أهل الشام يأتونه أرسالا، في اليوم المائة والعشرة وأقل من ذلك وأكثر، وسار الحجاج فنزل الأهواز، وتلاقت المقدمتان، فانتصرت مقدمة الحجاج، فلما رأى ابن الأشعث ما فعل بأصحابه، عبر إلى أصحاب الحجاج، فاقتحم الناس خيولهم في دجيل «1» ، حتى صاروا إلى موضع الوقعة في يوم ضباب، لا يكاد الرجل يتبين فيه صاحبه، فهزم ابن الأشعث أصحاب الحجاج، ودخل ابن الأشعث البصرة، ونزل الحجاج الزاوية «2» ، ثم اقتتلوا، وكان النصر لأصحاب الحجاج، وفقد ابن الأشعث [ص 264] ، فأمر الحجاج فرفعت راية أمان، فأتوه طائعين، ودخل البصرة، وخطب خطبة قال فيها: إن الله عز وجل لم ينصركم بأهل الشام على عدوكم، ولكنكم كنتم أهل الطاعة، وهم أهل المعصية، فنصركم

ص: 393

بغير حول منكم ولا قوة، فاحمدوا الله على نعمه، ولا تبغوا ولا تظلموا، وإياكم وأن يبلغني أن رجلا منكم دخل بيت امرأة، فلا يكون له عندي عقوبة إلا السيف» ، ثم أتى الحجاج بآل الأشعث، فلم يقتل إلا عبد الرحمن بن محمد الأشعث وابن عمه عبد الله بن إسحاق.

ودخل البراء بن قبيصة الثقفي على عبد الملك، وكان الحجاج قد طلبه لخروجه مع ابن الأشعث، فأنشده قوله:

[الطويل]

أرى كل جار قد وفى بجواره

وجار أمين الله في الأرض يخذل

فما هكذا كنتم إذا ما أجرتم

وما هكذا كانت أمية تفعل

فقال عبد الملك: صدقت، وأمر الحجاج أن يمسك عنه. وكان عبد الله بن أنس قد قتل مع الجارود، وكان شجاعا شديد البطش، حمل بخراسان بدرة بفمه فعبر بها نهرا، فلما بلغ الحجاج خبر مقتله، قال: لا أرى أنسا إلا بعين عليّ «1» ، فلما دخل البصرة استصفى مال أنس، فلما دخل عليه قال: لا مرحبا ولا أهلها إيها يا شيخ ضلالة، جوال في الفتن مع أبي تراب مرة، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن جارود، أما والله لأجردنّك جرد القضيب، ولأعصبنّك عصب السّلمة، ولأقلعنّك قلع الصمغة، فقال أنس: من يعني الأمير؟ قال:

إياك، أصمّ الله صداك، فرجع أنس فأخبر [عبد الملك] بما لقي من الحجاج، فأجابه عبد الملك جوابا لطيفا، وكتب إلى الحجاج: «أما بعد، يا بن أم الحجاج، فإنك عبد طمّت بك الأمور حتى عدوت طورك، وتجاوزت قدرك، وأيم الله يا بن المستعجمة بالزبيب، لأغمرنّك غمرة كبعض غمرات الليوث للثعالب، ولأخطبنّك خطبة تود لها أنك رجعت في مخرجك من بطن أمك، أما تذكر

ص: 394

حال آبائك بالطائف [ص 265] حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم، ويحتفرون الآبار بأيديهم في أوديتهم ومناهلهم، أم نسيت حال آبائك في اللؤم والدناءة في المروة والخلع، وقد بلغ أمير المؤمنين الذي كان منك إلى أنس بن مالك جرأة وإقداما، وأظن أنك أردت أن تسبر ما عند أمير المؤمنين في أمره، فتعلم إنكاره أو إغضاءه عنه، فإن سوّغك ما كان منك مضيت عليه إقداما فعليك لعنة الله من عبد أخفش «1» العينين، أصك الرجلين، ممسوح الجاعرتين «2» ، ولولا أن أمير المؤمنين يظن أن الكاتب كثر في الكتاب من الشيخ إلى أمير المؤمنين فيك، لأتاك من يسحبك على ظهرك وبطنك، حتى يأتي بك أنسا فيحكم فيك، فأكرم أنسا وأهل بيته، واعرف له حقه، وخدمته رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تقصر في شىء من حوائجه، ولا يبلغنّ أمير المؤمنين عنك خلاف ما تقدم فيه إليك من أمر أنس وبرّه وإكرامه، فنبعث إليك من يضرب ظهرك، ويهتك سترك، ويشمت بك عدوك، والقه في منزله متنصلا إليه، وليكتب إلى أمير المؤمنين برضاه عنك إن شاء الله، والسلام» . وبعث بالكتاب مع إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم، فأتى إسماعيل أنسا بكتاب عبد الملك إليه فقرأه، ثم أتى الحجاج بالكتاب إليه، فجعل يقرأه ووجهه يتغير ويتمعر»

، وجبينه يرشح عرقا وهو يقول: يغفر الله لأمير المؤمنين، فما كنت أظنه يبلغ مني هذا كله، ثم قال لإسماعيل: انطلق بنا إلى أنس، قال إسماعيل، فقلت: يأتيك، قال: فقم أذا، فأتى أنسا، فأقبلا جميعا حتى دخلا على الحجاج، فرحب به الحجاج وأدناه، وقال: يا أبا حمزة، عجلت يرحمك الله باللائمة والتنكية «4» إلى أمير المؤمنين قبل أن يعلم كل الذي لك عندي، إن

ص: 395

الذي فرط مني إليك عن غير نية ولا رضى بما قلت، ولكني أردت أن يعلم أهل العراق إذ كان من ابنك ما [ص 266] كان إذا بلغت منك ما بلغت كنت بالغلظة والعقوبة أسرع، فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ الحقد، وقد زعمت أننا الأشرار، وسمانا الله جل وعز الأنصار، وزعمت أنا أهل النفاق، ونحن الذين تبوّءوا الدار والإيمان، وسيحكم الله بيننا وبينك، فهو أقدر على العز لا يشبه الحق عنده الباطل، ولا الصدق الكذب، وزعمت أنك اتخذتني ذريعة وسلما إلى مساءة أهل العراق باستحلال ما حرم الله عليك مني، ولم يكن لي عليك قوة، فوكلتك إلى الله وإلى أمير المؤمنين، فحفظ من حقي ما لم تحفظه، فوالله إن النصارى على كفرهم، لو رأوا رجلا خدم المسيح عيسى بن مريم عليه السلام يوما واحدا، لعرفوا من حقه ما لم تعرفه من حقي، وقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وبعد فإن رأينا خيرا حمدنا الله عز وجل عليه، وإن رأينا غير ذلك صبرنا والله المستعان، فرد الحجاج عليه ما كان قبض من أموالهم.

وأراد عبد الملك أخاه عبد العزيز على أن يخلع نفسه، فأبى، فكتب إليه يعتبه ويقول: احمل إليّ خراج مصر، فكتب إليه: يا أمير المؤمنين، إنّا قد بلغنا سنا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه بعدها قليلا، وإنّا لا ندري أينا يأتيه الموت أولا، فإن رأيت ألا تغثت «1» عليّ بقية عمري فافعل، فرق له عبد الملك وقال: لعمري لا فعلت ذلك ولا سؤت أخي، وقال لبنيه: إن يرد الله يعطكم إياها، ثم لم يلبث أن أتاه نعي عبد العزيز، فاسترجع وبكى، ووجم ساعة ثم قال: رحم الله عبد العزيز، فقد مضى لسبيله، ولابد للناس من علم يسكنون له وقائم يقوم بالأمر بعدي، وكان مؤثرا للوليد من بنيه على حبه لكلهم، وكان الحجاج يكتب إليه بأن يعهد إلى الوليد، فعهد إلى الوليد ثم إلى

ص: 396

سليمان، وكتب ببيعته إلى المدينة وسائر الآفاق [ص 267] . ثم مرض عبد الملك مرض موته، فقال بعض الأطباء إن شرب الماء مات، فاشتد عطشه، فقال: يا وليد اسقني، قال: لا أعين عليك، فقال: يا فاطمة اسقني، فقامت لتسقيه فمنعها الوليد، فقال للوليد «1» لتدعنها أو لأخلعنك، فقال: لم يبق بعد هذا شىء، فسقته، فخمد، وكان عبد الملك قد كرب للموت، فقال: اصعدوا بي أعلا الدار، فصعد، فرأى من كوة فيها قصّارا وحوله حمار له يرتع، فقال: يا ليتني كنت قصارا، يا ليتني كنت حمار القصار، فأتى الوليد يسأل عنه، وفاطمة بنت عبد الملك تبكي، ففتح عبد الملك عينه وأنشد:

[الطويل]

ومستخبر عنّا يريد لنا الردى

ومستخبرات والدموع تسيل

ثم طلب ابنه الوليد وقال له: إذا أنا مت فضعني في قبري ولا تعصر عينيك عصر الأمة، ولكن شمّر وابرز والبس للناس جلد نمر، فمن قال برأسه كذا، فقل بسيفك هكذا، فقلّ ما اجتمع فحلان في ذود «2» إلا بغى أحدهما على الآخر، فكن أنت الباغي، ثم بقي بمنتبهه يقول: إنه لا يجتمع فحلان في ذود، ولا سيفان في غمد.

ولد عبد الملك في رمضان سنة عشرين، وتوفي في نصف شوال سنة ست وثمانين، وعمره ثلاث وستون سنة، ومدة ولايته بعد مقتل ابن الزبير، وهي الخلافة المجمع عليها، ثلاث عشرة سنة، وثلاثة أشهر، وخمسة عشر يوما، وكانت الفتنة نحو تسع سنين، وقبره خارج باب الجابية بدمشق.

وقال شاعر يرثيه:

ص: 397