الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
83- دولة المسترشد بالله
أبي منصور الفضل «1» بن أحمد المستظهر، وكان مع الملوك كشأن الخلفاء قبله، وعلى ما كان عليه من كان مثله، وكان الغالب عليه جمال الدولة سنجر عليه من يحجب ويحجز، والمسترشد يظهر إعراضا في ابتغاء، ويسر حسوا في ارتغاء «2» ، كأنه زند النار، ظاهره حجر، وباطنه أوار، وبقي يتربص بسنجر الدوائر، ويوقد له النوائر، وسنجر لا يقع في حبالته، ولا يلين له جانب حالته، إلى أن قدر لسنجر أجل أجله وأتيح، وألقي في مرط أمله وأطيح، فخفّ عن صدر المسترشد ثقل ذلك الطود، وأمن تحطم ذلك العود، وقام نور الدولة مسعود بن سنجر، ولم يكن المسترشد ممن يتقيه ولا يخافه، ويجد في توقيه، فطمح إلى الوقوف على أمر مملكته، وعمل على موت مسعود وهلكته، ليخلو له الجو، ويتبع الأسد الذاهب بالبو «3»
قال الشريف الغرناطي: فصنع المسترشد دعوة عظيمة لنور الدولة مسعود بن
سنجر، ووجوه الدولة، وينوي قتلهم، ففطن لذلك مسعود، فدخل عليه في [ص 175] رجلين من قرابته، وأومى إلى تقبيل يده، فجبذه بها جبذة شديدة ألقاه بها عن السرير إلى الأرض، وألقى عمامته في عنقه، وأراد خنقه، ثم كف عنه وخرج، وفي قلبه منه ما فيه.
قلت: وبقيا على ازورار البغضاء، وانحراف يقلهما على مثل الرمضاء، ثم قتل بعد ذلك بأيدي الباطنية، «1» وأورد أجل المنية، قتل بأرض الأعاجم، ودخل عليه الأجل الهاجم، وكانت قتلته بحي أصفهان القديمة، وثوت بها ركائبه المقيمة، وكان يمنّي نفسه الاستقلال بالخلافة من غير تشريك، ولا مزاحمة تكون لمليك، وكان المسترشد ينشد عند تزايد كربه، وترافد الرجال في حربه:
[الطويل]
أنا الأشقر الموعود بي [في] الملاحم
وكان هكذا أشقر أبيض، كأنّ لؤلؤا على صفحاته ترقص، وأتى نعيه بغداد، فأظلم جوّها لملمّ مماته، وأظل أهلها غم وفاته، وارتجت لمهلكه أكناف العراق، وفاضت دجلة بالدموع التي تراق، ولم يبق بها ناحية، إلا وبها نائحة، ولا جارحة إلا وفيها جارحة، لما فقدت من بعد سوقه، وعدل أمات العدو بخوفه.
وحكى مؤيد الدولة أسامة بن منقذ قال: كان المسترشد يلحق بالصدر الأول من سلفه، في علو الهمة وحسن السيرة والإقدام العظيم، فإنه لما التقى هو وعماد الدين زنكي بن آقسنقر في المصاف بعقرقوب «2» ، وأنا حاضر المصاف، ضرب له
خيمة من أطلس أسود «1» ، ووضع له فيها تخت، وجلس عليه، والخيل تطرد فكسر عسكر زنكي في يوم الاثنين السابع والعشرين من رجب سنة ست وعشرين وخمس مائة، فاستولى على ما فيه، وانهزم زنكي إلى الموصل، وذلك الإقدام سبب تلفه، وأنشد القاضي جمال الدين محمد بن واصل للمسترشد:
[الطويل]
أنا الأشقر الموعود بي في الملاحم
…
ومن يملك الدنيا بغير مزاحم [ص 176]
ستبلغ أرض الروم خيلي وتنتضي
…
بأقصى بلاد الصين بيض صوارمي
ثم إن المسترشد حاصر في العشرين من رمضان سنة سبع وعشرين وخمس مائة مدينة الموصل، فقصد باب المسترشد جماعة من الأمراء السلجوقية وخدموه وقوي بهم، واتفق اشتغال السلاطين بالحلف الواقع بينهم، فأرسل المسترشد أبا الفتوح الأسفراييني الواعظ، إلى جمال الدين زنكي، برسالة فيها خشونة، وزادها أبو الفتوح زيادة في الخية «2» ، ثقة بقوة الخليفة، وناموس الخلافة، فقبض عليه عماد الدين زنكي وأهانه، ثم دام الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر، فلم يظفر منها بشىء، فعاد إلى بغداد.
وحكى الأمير سديد الدولة أبو محمد بن الأنباري، كاتب الإنشاء، قال:
وقع بين السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، وبين المسترشد خلف، وخرج المسترشد لقتاله مرتين وكسر، فلما مات السلطان محمود، وولي أخوه السلطان مسعود بن محمد، استطال نوابه بالعراق، وعارض الخليفة في خاصه، فوقعت بينهما وحشة، وتجهز المسترشد للخروج، وجدّ في ذلك، فدخل إليه الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي، وكمال الدين صاحب المخزن، وأنا معهما،
وكان المسترشد قد طرد نواب السلطان عن البلاد، ورتب صاحب المخزن للنظر في المظالم، فلما دخلنا قال له الوزير: يا مولانا، في نفس المملوك «1» شىء، فهل يؤذن له في المقال؟ فقال: قل، فقال: إلى أين نمضي وبمن نعتضد، وإلى من نلتجئ، ومقامنا ببغداد أمكن لنا، ولا يقصدنا أحد، والعراق ففيه لنا الكفاية، فإن الحسين بن علي عليهما السلام، لما خرج إلى العراق، جرى عليه ما جرى، ولو أقام بمكة، ما اختلف عليه أحد من الناس، فقال لي الخليفة: ما تقول يا كاتب؟ فقلت يا مولانا، الصواب المقام، وليت العراق يبقى لنا، فقال لصاحب المخزن: يا وكيلي، ما تقول؟ فقال ما في نفسي، وأنشد الخليفة قول المتنبي:«2»
[الخفيف][ص 177]
وإذا لم يكن من الموت بدّ
…
فمن العار أن تموت جبانا
وخرج، وخرجنا معه، فلما قاربنا همذان وقع المصاف بين الخليفة والسلطان مسعود بن محمد، بمكان يسمى داي مرك قرب همذان، فلما اصطفت العساكر فر من معسكرنا جميع الأتراك إلى ناحية السلطان، ثم وقع القتال، فانهزم الخليفة وأرباب المناصب، وحمل الوزير وصاحب المخزن وأنا ونقيب العلويين إلى قلعة سرجهك قريب قزوين، وبقي الخليفة مع السلطان، وسار معه في بلاد أذربيجان، إلى أن وصلوا إلى مراغة، فهجم على الخليفة ثلاثة نفر من الملاحدة والباطنية، وهو في خيمته، فقتلوه، وقتلوا معه ابن سكينة، وكان يصلي به، وذلك في يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمس مائة، فلما قتل الخليفة أظهر السلطان مسعود الجزع العظيم والحزن الكثير، ودفن
الخليفة بمراغة، ووصل الخبر بذلك إلى العراق، فحزن الناس عليه حزنا عظيما، وبويع بالخلافة ولده الراشد «1» ببغداد، واستقرت خلافته بها.
وذكر الشريف الغرناطي أن المسترشد عهد إلى الراشد حين بلغ، وإنه بلغ لتسع سنين، وإنه لو كان يمكن أعادها سفاحية منصورية. قلت: ثم قدم السلطان مسعود «2» وضرب عنق دبيس بن مزيد صاحب الحلة.
قال ابن الأنباري: لما قتل المسترشد أحضرنا السلطان مسعود وقال: ما التدبير في أمر الخلافة، وبمن ترون؟ فقال الوزير: الخلافة لولي العهد، يعني الراشد، وقد بايعه الناس ببغداد، وجلس واستقر، وبويع له من قبل قتل أبيه بولاية العهد، وبويع له الآن بالخلافة، فقال السلطان: ما لي إلى هذا سبيل أبدا، ولا أقره عليها، فإنه تحدثه نفسه بالخروج مثل أبيه، كان قد خرج على أخي محمود مرتين، وعليّ مرة، وهذه أخرى، فتم عليه ما تم، وبقيت علينا شناعة عظيمة، وسبّة إلى [ص 178] آخر الدهر، فإنه يقال: قتلوا الخليفة وهم كانوا السبب في عود الخلافة إلى هذا البيت، ولا أريد أن يلي الأمر إلا رجل لا يدخل في غير أمور الدين، ولا يجند، ولا يجمع، ولا يخرج عليّ، ولا على أهل بيتي، وفي دار الخلافة جماعة، فاعتمدوا على شيخ منهم صاحب عقل ورأي وتدبير، يلزم نفسه ما يجب من طاعتنا، ولا يخرج من داره. قال ابن الأنباري: وأرسل السلطان مسعود إلى عمه السلطان سنجر بن ملكشاه يستشيره فيمن يولي الخلافة، فأرسل إليه يقول: لا تولي الخلافة إلا من يضمنه الوزير صاحب المخزن، وكاتب الإنشاء، فلما وصل السلطان همذان، اجتمع بنا، وأشار بهارون بن المقتدي، وعرفنا بما أمره به عمه السلطان سنجر، فقال الوزير: إذا كان الأمر