الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[البسيط]
فإن صبرت فلم ألفظك من جزع
…
وإن جزعت فعلق منفس ذهبا
[ثم] :
106- دوّلة عمر بن عبد العزيز
ابن مروان «1» ، أبي حفص، ناهيك بفرد «2» لا يقرن بتوأم، وملك كانت أيامه كالمنام، ورعاياه نوّم تقابل في منابت أبيه وأمه، وتماثل بمناصب خاله وعمه، تكنّفه من قبل الأبوّة النسب الأموي، ومن قبل الأمومة الحسب العدوي، فطابت تبعته وطافت الأرض بأغضر الأنفاس سمعته، وأخذ نفسه بسلوك سيرة جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقارب فعل سميّه، وقارن منهم ذلك الولي بوسميه «3» ، وجدّ فما قصّر، ووجد محاسن ما تبصّر،
وقد كان من آثق بني أبيه تمتعا، حتى شمّر وأنف إخوانه تمنعا حتى تأمّر، فلما ولي ولي بتلك الزخارف، ولوى ورقات تلك المطارف وسئل عن مذاهب الراشدين ثم ما تعداها، وتجلبب تلك الخلائق الطاهرة وترداها، وأول ما بدأ به أمره أن بدّل سبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ
«1» ، وأبدل تلك السيئة بهذه الحسنة الباقية الإحسان «2» ، وأزال تلك السيئة ومحاها، وأزاح ليلها الداجي بارتفاع ضحاها، فخلصت الذمم من إرهاقها، واستراحت المنابر مما كانت تحمله من إثم [ص 279] الخطيئة في أعناقها، وقنع بالقليل من القوت، طلبا لحلّه، وسببا لتخفيف حمله، وهجر النساء منذ ولي، وقال لزوجته: إن رضيت بهذا وإلا فاعتزلي، ثم أمرها أن تردّ إلى بيت المال ما كان أبوها عبد الملك نحلها، وألزم بمثل هذا سائر بني أمية واستعاد نفلها، وقال: هذه فواضل أموال لبيت المال لا تجوز أن تحتجز، ولا أن يؤخذ بأيديكم عبثا وتكتنز، ولقد أعطاكموها أئمة جور، أعطت ما لم تملك، وأعدت بالهلاك بها ما لم تهلك، وأخلص لله كل عمله، وخلّا كل أمله، وكان يبرد البريد إلى المدينة لإبلاغ سلامه لساكنها عليه أفضل الصلاة والسلام، لا لشغل آخر له غيره خاصة، ولا لعامة الإسلام، ودام حميدا حتى وفي وما بلغ الأربعين، وأنشد باب الخير فلا له فاعل ولا عليه معين، ما طالت مدت، فما سلم حتى ودع، ولا أومض بارقه حتى انطوى، وكأنه لم يلمع، دفن بخناصرة «3» ، وغيب الحق في ذلك الثرى ناصره، ولم يقم بعده ملك لا إمام،
ولم يتم مثله في موضعه سقاه الغمام، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، واسمها ليلى، وأمها بنت الأمراء، التي كانت تمذق اللبن بالماء، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهاها فتنتهي بمحضره، ثم تعاود فعلها في مغيبه، وحديث ابنتها معها مشهود، وهو كان سبب تزويج عاصم بن عمر بها برأي أبيه عمر.
قال البلاذري: ولّى سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز الخلافة، وكتب كتابا سمّاه فيه ويزيد بن عبد الملك إن كان من بعده، فلما مات سليمان أخرج رجاء بن حيوة الكتاب، وأظهر اسمه، وبايعه الناس بدابق، فقال لرجاء ذبحتموني بغير سكين، وكان عمر بن عبد العزيز أشج، ضربه حمار وهو بمصر، فلما رآه أخوه الأصبغ «1» ، قال: هذا والله أشج بني أمية الذي يملأ الأرض عدلا، وكانت خلافته ثلاثين شهرا، ووفاته وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وتوفي في سنة إحدى ومائة، ودفن بدير سمعان «2» ، وكان نزوله بخناصرة من عمل جند قنسرين، وبها وفاته، وصلى عليه رجاء بن حيوة الكندي، ويقال مسلمة
بن عبد الملك، ولما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:«أيها الناس، من صحبنا فليصحبنا بخير، يبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ويدلنا من العدل على ما لم نهتد له، ويؤدي الأمانة إذا حملها، ويعيننا على الخير ويدع ما لا يعنيه، فمن كان كذلك فحي هلا به، ومن لم يكن كذلك فلا يقربنا» . قال أبو سنان ضرار: فحجبوا والله دونه، قال: وهذا والله أول كلام تكلم به حين استخلف.
ولما ترعرع عمر بن عبد العزيز استأذن أباه في إتيان المدينة وقال: أحب أن أكتب العلم، وأحضر قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرب عليّ الحج، فأذن له في ذلك، فأتى المدينة. وقال الواقدي: أذن له أبوه في إتيان المدينة وقال له: اجتنب آل عبد الرحمن بن عوف، وآل سعيد بن العاص، فإن ثمّ شرارة وشرارة وسوء أخلاق، فكان يجالس أهل الفقه والورع. قال المدائني: أوصى عبد العزيز لعمر بأربعين ألف دينار، ودفعها إلى ابن رمانة، مولى لبعض أهل المدينة، فلما توفي عبد العزيز أتاه المال فقبضه، ثم ذهب ابن رمانة فحدث بذلك أبا بكر بن عبد العزيز، فغضب وكتب إلى عمر: إنك أخذت هذا المال دوننا، ثم شخص عمر من المدينة فقدم الشام، فلما استخلف الوليد بن عبد الملك وهو صهره، كانت أم البنين بنت عبد العزيز عنده، ولاه الوليد المدينة فأحسن السيرة، إلا أنه كان لبّاسا عطرا، وإنما تقشف بعد ذلك، فكان يعمل له ثوب الخز بمائة دينار فيستحسنه، ثم إنه كان يؤتى بالثوب الخشن بأقل من دينار أو بدينار، فيقول: ما أصنع بهذا، ايتوني بأخشن منه وأقل ثمنا، وكان ابن رمانة لمغاضبته إياه يرفع على عماله ويقع فيهم حين عزل عن المدينة، فقال عمر: لو أشاء أن آخذ كتاب الوليد إلى عامل المدينة في ضرب ابن رمانة مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته، فقلت: ولكني رأيته يتقي الله منجّى، وفي ولاية عمر المدينة يقول
الأحوص: «1» [ص 281]
[الكامل]
وأرى المدينة إذ وليت أمورها
…
أمن البريء بها وخاف المذنب
وقال أيضا:
وأرى المدينة حين كنت أميرها
…
أمن البرىء بها ونام الأعزل
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم
…
مذق الحديث يقول ما لا يفعل «2»
وكان عمر يساير سليمان بن عبد الملك، فرعدت السماء وبرقت، فقال عمر: يا أمير المؤمنين، هذه قدرة الله عند الرحمة، فكيف بها عند العذاب.
وقال عمر لرجل: من سيد قومك، فقال: أنا، قال: لو كنت كذلك ما قلته.
وقال المدائني: جمع عمر بني مروان، فقال: يا بني مروان، إني أظن نصف جميع مال الأمة عندكم، فأدوا بعض ما عندكم إلى بيت مال المسلمين، فقال هشام: لا يكون والله ذاك حتى تذهب أرواحنا، فغضب عمر وقال: أما والله يا بني مروان، إن لله فيكم ذبحا، ولولا أن تستعينوا عليّ بمن أطلب هذا المال منه لأضرعت خدودكم.
وقال المدائني: كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: إن مدينتنا تحتاج إلى مرمّة، فكتب إليه:«أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، فحصن مدينتك بالعدل، ونقّها من الظلم، والسلام» . وقال: كتب عمر إلى عبد الحميد «3» بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عامله على الكوفة:
اجتنب الحاجات عند حضور الصلوات، والسلام. وقيل لعمر: أي الجهاد أفضل، قال: جهاد المرء هواه.
وقال المدائني، قال رجاء بن حيوة: كنت عند عمر فكاد المصباح يطفى، فقمت لأصلحه، فقال: مه، إن جهلا بالرجل أن يستخدم ضيفه، ثم قام، فوجد غلامه نائما فلم يوقظه، وتولى صلاح المصباح، ثم عاد، فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، وقعدت وأنا ذاك.
قالوا: وكان عبد الملك «1» ابنه زاهدا خيّرا، فقال له: يا بني: لأ [ن] تكون في ميزاني أحبّ إلى أن أكون في ميزانك، فقال: ولأن تكون ما تحب، أحبّ إليّ من أن تكون ما أحب، فلما مات عبد الملك خرج عمر إلى الناس وقد اكتحل، فسئل عنه فقال:[ص 282] قد سكن ورجاه أهله، وما كان في حال أحب إليّ من حاله، ثم علم بموته، فقيل له: فعلت ما فعلت وقد مات، فقال:
أحببت أن أرغم الشيطان، وانصرف من جنازته، فرأى قوما ينتضلون، فقال لبعضهم: أخطأت، فافعل كذا، فقيل له في ذلك، فقال: ليس في موت عبد الملك ما يشغل عن نصيحة المسلم، وكان سعيد بن مسعود المازني عاملا لعدي بن أرطاة على عمان، فأخذ رجلا من الأزد مائة سوط في ناقة أرادها منه، فأتى إلى عمر، وشكا إليه، وأنشده قول كعب الأشقري:«2»
[الكامل]
إن كنت تحفظ ما يليك فإنّما
…
عمّال أرضك بالعراق ذئاب
لن يستقيموا للذي تدعو له
…
حتى تضرب بالسيوف رقاب
بأكفّ منصلتين أهل بصائر
…
في رفعهن مواعظ وعقاب
لولا قريش نصرها ودفاعها
…
أمسيت منقطعا بي الأسباب
فقال عمر: لمن هذا الشعر، فقال: لرجل من أزد عمان يقال له كعب فقال:
ما كنت أظن أهل عمان يقولون بمثل هذا الشعر، فكتب إلى عدي بن أرطاة «1» :
إن استعمالك سعيد بن مسعود قدر من الله قدره عليك، وبلية ابتلاك بها، فإذا أتاك كتابي، فابعث إليه من يعزله، وابعث به إليّ مشدودا موثقا، فعزله واستعمل عبد الرحمن بن قيس، وحمل سعيدا إلى عمر، فلما دخل عليه، كلمه عمر فقال: أصلحك الله، أتكلمني وأنا موثق، أطلق عني حتى أتكلم بحجتي، فأطلق عنه، وقال للأزدي اضربه، فقال قمير بن سعيد: أنا الذي ضربته، ولم يضربه أبي، قال: فاعط الأزدي سوطا، وقال عمر: قم فاجلده كما جلدك، فجلد قميرا مائة سوط، فقال له أبوه: يا قمير اصرر أذنيك إصرار الفرس الجموح، وعضّ على نواجذك، واذكر أحاديث عدو أتاك، وذكر الله فإنه معجزة.
وقال المدائني، قال عمر: ما قرن شىء إلى شىء أحسن من علم إلى حلم، وعفو إلى مقدرة. قال، وقال عمر: تعلموا العلم فإنه زين للغني، وعون [ص 283] للفقير، لا أقول إنه يكسب به، ولكنه يدعوه إلى القناعة. وقال البلاذري: قدم
وفد على عمر من العراق، فنظر إلى شاب منهم يتهيّأ للكلام، فقال عمر:
ليتكلم أكبركم سنا، فقال الفتى: يا أمير المؤمنين، ليس الأمر بالسن، ولو كان كذلك، لكان في المسلمين من هو أسنّ منك، قال: صدقت، فتكلم، فقال:
إنّا لم نأتك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فأتتنا في بلادنا، ودخلت علينا منازلنا، وأما الرهبة فإنّا قد أمناها بعدلك، قال: فما أنتم، قال: نحن وفد الشكر، فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلل، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغلبن جهالة القوم، بل معرفتك بنفسك، فإن من الناس ناسا غرهم الستر، وخدعهم حسن الثناء، وأنا أعيذك بالله أن تكون منهم، فبكى عمر رحمه الله.
وقال البلاذري: وفد جرير على عمر بن عبد العزيز، فغبر حينا لا يصل إليه، ثم رأى ذات يوم عون «1» بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، يريد الدخول عليه، وقال: وكان قارئا، فقام إليه جرير فقال له:
[البسيط]
يا أيها القارئ المرخي عمامته
…
هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه
…
إني لدى الباب كالمقرون في قرن
فقال له عون: إن أمكنني ذلك فعلت إن شاء الله، فلما دخل عون على عمر، سلم وجلس، حتى فرغ من حوائج الناس، ثم أقبل عون عليه فقال: يا أمير المؤمنين، إن ببابك جرير بن عطية الشاعر، وهو يطلب الإذن، فقال عمر:
أويمنع أحد من الدخول عليّ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، ولكنه يطلب إذنا خاصا
ينشدك فيه، فقال: يا غلام، ادخل جريرا، فأدخل عليه، وعون جالس، فأنشد جرير:«1»
[البسيط]
أأذكر الجهد والبلوى التي شملت
…
أم أكتفي بالذي أبليت من خبري
كم بالمواسم من شعثاء أرملة
…
ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممّن ترجّى له من بعد والده
…
كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
فبكى عمر حتى بلّت دموعه لحيته، وأمر بصدقات تفرق على الفقراء [ص 283]، فقال جرير:
هذي الأرامل قد قضّيت حاجتها
…
فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
فقال له: يا جرير، أأنت من المهاجرين الأولين؟ قال: لا، قال: أفمن أولاد الأنصار؟ قال: لا، قال: أفمن أولاد التابعين بإحسان؟ قال: لا، قال: أفمن فقراء المسلمين فنجزيك على ما نجزي عليه الفقراء؟ قال: قدري فوق ذلك، فقال: يا جرير، ما أرى لك بين الدفتين حقا، فولى جرير، فقال عون: يا أمير المؤمنين، إن الخلفاء كانت تعوّد الإحسان، وإن مثل لسانه يتّقى، فقال عمر:
ردّه، فردّ، فقال: يا جرير، إن عندي من مالي عشرين دينارا، وأربعة أثواب، فأقاسمك ذلك؟ فقال: بل نوفر يا أمير المؤمنين ونحمد، فلما خرج تلقاه الناس فقالوا: ما وراءك، قال: خرجت من عند رجل يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني له لحامد، ولم يذكره بسوء، ورثاه حين مات.
وقال البلاذري: كتب عدي بن أرطاة إلى عمر يستأذنه في عذاب قوم من عمال الخراج امتنعوا في أداء ما عليهم، فكتب عليه: «أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر، كأني جنّة لك من عذاب الله، أو