الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القس، لأنه كان يهواها صفوان بن أمية الجمحي العابد المسمى بالقس «1» لعبادته، هوى لا يكدره أثام، ولا يغيره إن هواؤه مرت ريحه على حرام، وله فيها شعر منه:
[الكامل]
ما بال قلبك لا يزال يهيجه
…
ذكرى عواقب غيهنّ سقام
باتت تعللنا وتحسب أنّنا
…
في ذاك أيقاظ ونحن نيام
حتى إذا سطع الصباح لناظر
…
فإذا وقربك بيننا أحلام
قد كنت أعذر في السفاهة أهلها
…
فاعجب بما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما
…
سبل الضلالة والهدى أقام
وأما حبّابة فكانت تسمى العالية، كانت لرجل من الموالي بالمدينة، ثم اشتراها يزيد وكان بكل واحدة منها كلفا هائما لا يقبل فيها عاذلا ولا لائما، قد قصر على مجالستهما زمانه، وعلى مؤانستهما بيانه، صادف هواهما قلبه فارغا فتمكن في سويدائه، وتوطن به شغفه بهما حتى صار أكبر دائه.
[ثم]
108- دوّلة هشام بن عبد الملك
أبي العباس [ص 287] ملك همام «2» ، وفلك لا يطاوله يذبل ولا
شمام «1» ، بعزمة لا يفرى فريها، وهمة لا يقصر عبقريها، هو الأحول الحوّل، المنوّه والمنوّل، وهو واحد القوم ولا لوم، لم يكن في القوم أحوط منه حزما، ولا أحوج إلى أن لا يجد عزما، بما طاوعته المقادير وتابعته، لا يلوي بالمعاذير، ومنه البقية الأموية الداخلة إلى الأندلس أيام السفاح الداخرة، لخوفها في قصوره تحت العمد والصفاح، حتى هبّت ريحها، وذهبت فيحها، وإنما كانت بقية من سعادته ردت على الأعقاب، وردت ملابس الملك الجدد للأعقاب، حتى توقد جمرهم الخامد.
وكان هشام فحل بني مروان، عزمة لا يفت في عضدها، وهمة لا يفوت حصول مقصدها، ولقد كان المنصور على اتساع علمه، وإجماع الناس على حزمه، يعظم شأن هشام إذا ذكره، وإذا ذكر في مجلسه شكره، ولا يكشف العوائد إلا من دواوينه، وثوقا بضبطه، ووقوفا في أمور الملك على شرطه، وجمع هشام من الأموال ما طاول جدر الخزائن اعتلاء، وأخرج صدور البيوت امتلاء، وأحوج الشمس أن لا يظهرها اجتلاء، إلا أنه كان مفرطا في البخل، لو تخيّل أن له شبيها في ضنانته بخل، كانت يده مغلولة، ومدده كلها لا يرى له فيها صرّة محلولة، ما عرفت أنامله يوما بسطا، ولا نائله مكانا إليه يتخطى، إلا أن رأيه
كان يصيب المقاتل، ويصيد المخاتل، بتوفيق ما خانه منذ عاهده، ولا حل رأيه بتأييده منذ عاقده، فما حال حائل بينه وبين من عانده، ولا حوّل حتى راجع ما أراده وعاوده.
وكانت خلفاء بني العباس تؤامر دواوينه، وتداوم قوانينه، وثوقا بحزمه الذي لم يكن فيه مطمع، وعزمه الذي ما رآه السيف إلا أوى إليه بالسجود وانحنى ليركع. قال البلاذري: كنيته أبو الوليد، وكان أحول بخيلا، وأمه أم هشام بنت الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ويقال: عائشة بنت هشام، ويقال: مريم بنت هشام، وكانت أمه حمقاء، وكانت تثني الوسادة ثم تركبها [ص 288] وتزجرها، فطلقها عبد الملك، وسار إلى مصعب وهي حامل، فلما قتله، بلغه مولد هشام فسماه منصورا تفاؤلا بذلك، وسمته أمه هشاما باسم أبيها، وولد هشام بن عبد الملك عام قتل مصعب سنة اثنتين وسبعين، وأتته الخلافة وهو بالزيتونة «1» ، ومات بالرصافة التي بقرب الرقة في شهر ربيع الآخر لست خلون منه سنة خمس وعشرين ومائة، وصلى عليه ابنه مسلمة، وكانت خلافته عشرين سنة إلا خمسة أشهر، ومات ليلة الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
قال المدائني: لما خلع يزيد بن المهلب «2» ، وجه إليه يزيد بن عبد الملك
مسلمة بن عبد الملك، والعباس بن الوليد بن عبد الملك «1» ، وقال: أمير الجيش مسلمة، فإن حدث به حدث، فالعباس بن الوليد، فقال العباس: يا أمير المؤمنين، إن أهل العراق قوم غدر كثيرا زحافهم، وأنت توجهني محاربا، والأحداث تحدث، ولا آمن أن يزحف أهل العراق ويقولوا: مات أمير المؤمنين ولم يعهد، فيفت ذلك في أعضاد أهل الشام، ويدخلهم له الوهن والفشل، فلو بايعت لعبد العزيز بن الوليد، قال: غدا إن شاء الله، وبلغ مسلمة ذلك، فدخل على يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، أولد عبد الملك أحب إليك، أم ولد الوليد؟
قال: ولد عبد الملك إخوتي وأحب إليّ، قال: أفابن أخيك أحب إليك وأحق بالخلافة من أخيك؟ قال: لا، قال: أفتبايع لعبد العزيز؟ قال: لا، غدا أبايع لهشام أخي، وبعده للوليد ابني، وبلغ عبد العزيز قوله، وأتاه مولى له وهو لا يعرف الخبر، فقال: يا أبا الأصبغ، غدا نبايع لك، فقال عبد العزيز: هيهات، أفسد ذلك علينا مسلمة ونقضه، فلما كان الغد، بايع لهشام، ومن بعده لابنه الوليد بن يزيد، فكان يزيد إذا نظر إلى الوليد قال: الله بيني وبين من جعل هشاما [ص 289] بيني وبينك.
وقال المدائني: كتب سليمان بن هشام إلى أبيه: إن بغلتي عجزت عني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابة، فكتب إليه:«قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وقد ظن أمير المؤمنين أن عجز بغلتك عنك من قلة تعهدك لها، وإن علفها يضيع، فتعهد دابتك وقم عليها، وسيرى أمير المؤمنين رأيه في حملانك إن شاء الله، والسلام» . وقال: كتب بعض عمال هشام إليه: قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة فيها درّاقن، يعني الخوخ، فليكتب إليّ بوصولها، فكتب إليه:«قد بلغ أمير المؤمنين كتابك، ووصل إليه الدراقن وأعجبه، فزد أمير المؤمنين منه واستوثق من الوعاء الذي توعيه إياه، والسلام» . قال: وكتب إلى بعضهم: «قد أتت أمير المؤمنين الكمأة التي بعثت بها إليه، وهي خمسون، وقد تغير بعضها، ولم يؤت ذلك إلا من قبل حشوها، فاذا بعثت إلي أمير المؤمنين بشىء من الكمأة، فأجد الحشو في طرفه بالرمل حتى لا يضطرب، ولا يصيب بعضها بعضا إن شاء الله» .
قال: وقال الأبرش، وهو سعيد بن الوليد بن عبد عمرو، لهشام وكان جليسه وأنيسه: يا أمير المؤمنين، لو ينادي رجل في عرض الناس: يا مفلس، فسمع رجل من جلسائك نداه، ما ظن أنه عني غيره. ودخل أبو النجم العجلي «1» على هشام فقال له: كيف رأيك في النساء؟ قال: ما لي عندهن خبر، ولا لهن عندي خبر فقال: ما ظنك بأمير المؤمنين، قال: مثل ظني بنفسي، فبعث هشام إلى جواريه فأخبرهن بما قال أبو النجم، فقلن: كذب عدو
الله، ما منا جارية تصلي صلاة حتى تغتسل، فوهب لأبي النجم جارية منهن، ثم سأله عما صنع، فأنشده:«1»
[الكامل]
نظرت فأعجبها الذي في درعها
…
من حسنه ونظرت في سرباليا
فرأت لها كفلا ينوء بخصرها
…
ثقلا وأخثم في المجسة رابيا
ورأته منتشر العجان مقلصا
…
رخوا حمائله وجلدا باليا [ص 290]
أدني له الرّكب الحليق كأنّما
…
أدني إليه عقاربا وأفاعيا
وهمّ هشام أن يكتب إلى عامله على المدينة بإشخاص أشعب الطامع إليه، فقال له الأبرش: تتحدث الناس بأنك كتبت إلى «2» عاملك بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشخص منها مضحكا لتلهو به، فقال: امسكوا امسكوا، فإنها وصمة عظيمة، ثم قال بيتا زعموا أنه لم يقل قط بيتا غيره، ويقال إنه تمثل به:«3»
[الطويل]
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى
…
إلى بعض ما فيه عليك مقال
فقال المدائني: رأى عبد الملك بن مروان كأن ابن هشام بن إسماعيل فلقت رأسه، فلطعت منه عشرين لطعة، فغمّه ذلك، فأرسل إلى سعيد بن المسيب من قصّها عليه، فقال: تلد غلاما يملك عشرين سنة، فولدت له هشاما.
وقال المدائني: كان هشام يتكلم بكلمات في العيدين في خطبة لا يقولهن
في غير هذين اليومين، ثم يخطب بعد ذلك:«الحمد لله الذي ما شاء صنع، وما شاء أعطى، وما شاء منع، ومن شاء خفض، ومن شاء رفع، ومن شاء ضر، ومن شاء نفع» . وقال المدائني وغيره: قال مسلمة بن عبد الملك لهشام، وتلاحيا في شىء: كيف ترجو الخلافة وأنت جبان بخيل، فقال: لأني عفيف حليم. وقال المدائني: كان المنصور يذكر هشاما فيقول: كان رجل القوم.
قال: وبعث هشام إلى أبي حازم الأعرج «1» ، فأبطأ عليه، ثم أتاه فقال: ما منعك من إتياني، قال: والله لولا مخافة شرّك ما أتيتك، قال: ما ترى في إنفاق هذا المال، قال: إن أخذته من حلّه ووضعته في حقّه سلمت، وإلا فهو ما تعلم.
قال: وكان هشام إذا حدّث قال: القوا عنّي مؤونة التحفظ. قال: وكان المنصور إذا ذكر بني مروان يقول: أما عبد الملك فكان جبّارا، لا يبالي ما أقدم عليه، وأما الوليد فكان مجنونا [ص 291] ، وأما سليمان فكان همّه بطنه وفرجه، وأما عمر بن عبد العزيز فكان أعور بين عميان، ورجل القوم هشام.
قالوا: وكان الجعد بن درهم «2» مؤدب مروان بن محمد ومعلمه، وكان
دهريا، ويقال له معتزليا، شهد عليه ميمون بن مهران «1» ، وعدة شهدوا عند هشام على الجعد بن درهم بالكفر، وطلبه هشام فهرب إلى حرّان، ثم إنه ظفر به، فحمل إلى هشام، فأخرجه من الشام إلى العراق، وكتب إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو عامله على العراق بأن يحبسه، فلم يزل محبوسا حينا، ثم إن امرأته رفعت إلى هشام في أمره، تعلمه بطول حبسه وسوء حال عياله، فقال: أو حيّ هو، وكتب في خالد في قتله، فقال خالد في يوم أضحى: أيها الناس، انصرفوا إلى أضاحيكم، فإني مضح بعدو الله الجعد بن درهم. قالوا:
وكان غيلان يقول: كلمت جعدا فوجدته معطّلا.
قال المدائني: وكان عقال بن شبة يقول: دخلت على هشام، فدخلت على رجل محشو عقلا. قال البلاذري: بعث يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء، يخرج طرفاها من الكف، وحبة لؤلؤ من أعظم ما يكون من الحب، قال الرسول: فدخلت على هشام، فدنوت منه فلم أر وجهه من السرير وكثرة الفرش، فلما تناول الحجر والحبة قال: كتب معك بوزنهما، ومن أين يوجد مثلهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين، هما أجل بأن يكتب بوزنهما، ومن أين يؤخذ مثلهما، قال: صدقت، وكانت الياقوتة لرابعة جارية خالد بن عبد الله القسري اشتراها بثلاثة وتسعين ألف دينار.
ومات هشام بالذبحة، فروي عن سالم أبي العلاء أنه قال: خرج علينا هشام يوما وهو كئيب، يعرف ذاك فيه، مسترخي الثياب، قد أرخى عنان دابته، فقال: ادعوا الأبرش، فدعي فسار بيني وبين الأبرش، فقال الأبرش: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت منك ما غمّني، قال: ويحك يا أبرش، وكيف [ص 292] لا أغتم وقد زعم أهلي أني ميت إلى ثلاثة وثلاثين يوما، قال الأبرش: فلما انصرفت إلى منزلي كتبت: زعم أمير المؤمنين أنه يسافر يوم كذا، فلما كانت ليلة اليوم الذي كمل الثلاثة والثلاثين، أتاني رسول هشام، فقال: أجب واحمل معك دواء الذبحة، وقد كانت الذبحة عرضت له مرة فتداوى بذلك الدواء فانتفع به، قال: فأتيته ومعي الدواء، فتغرغر به، فازداد الوجع شدة ثم سكن، فقال: قد سكن بعض السكون، فانصرف إلى أهلك، وخلف الدواء عندي، فما استقررت في منزلي حتى سمعت الصراخ، فقالوا: مات أمير المؤمنين، فلما مات أغلق الخزّان الأبواب، فطلبوا قمقما يسخن فيه ماء لغسله فما وجدوه حتى استعاروا قمقما. وكان الوليد شخص عن الرصافة لكثرة عبث هشام به، وخلف عياض بن مسلم مولى عبد الملك بن مروان، وهو كاتبه بالرصافة، وأمره أن يكتب إليه الأخبار، فعتب عليه هشام فضربه وحبسه، وأفاق هشام إفاقة فطلب شيئا، فمنعه، فقال: أرانا إنما كنا خزّانا للوليد، ثم مات من ساعته، فخرج عياض من الحبس وختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه وحازها فما وجد له كفن، حتى كفنه غالب مولى هشام، فتّبا لدنيا متاعها قليل، وعزيزها ذليل، بينما المرء خليفة فإذا به جيفة.
ومن كلام هشام: اثنان يتعجلان النصيب، ولعلهما أن لا يظفرا بالبغية، الحريص في حرصه، ومعلم البليد مالا يبلغه فهمه.
[ثم] :