الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويوكل باسمه الدنيا جميعا
…
وما من ذاك شىء في يديه [ص 155]
إليه تحمل الأموال طرا
…
ويمنع بعض ما يجنى إليه
قال: وكان آخر من سكن من الخلفاء بسر من رأى، ثم لم يسكنها بعده أحد منهم.
قلت: دام على ما به مدة أيام أخيه الموفق، ثم مات الموفق، وقام ابنه المعتضد، فكان أشد شجى في حلق المعتمد، وما مضت سنة حتى سمّه وكفاهم همّ الدنيا، واكتفى همّه، يقال: إن المعتضد سمّه، وقيل بل أفرغ في حلقه رصاصا مذابا، وقيل: لا، بل ملأ له حفرة من ريش، ورماه فيها، فمات غما.
ثم:
70- دولة المعتضد بالله
أبي العباس أحمد «1» بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل، كان أبوه في
خلافة المعتمد قد اعتقله لما خافه واعتمده حذرا أن يسابقه إلى الخلافة، وذلك لسعي إسماعيل بن بلبل الوزير بينهما بالنمائم، ووعى قلب الموفق عليه بالسمائم»
، وما شعر أن أمامه منصب الإمامة، وإن الخلافة لا ينبغي خلافه، وأن الملك معصم لا ينزل منه بغير سوار، ومعقل لاعلى منه بلا أسوار، فلبث في الاعتقال مضيقا عليه، في مكان أقصر من طول العقال، وبيض له المعتقل ليبهر نظره البياض، ويخطف بصره بالإيماض، حتى تحيل له مشرف العماير، فلبس سراويل أخضر «2» ، ودخل المعتقل على أنه يتفقد العمارة، فتفقدها، ثم دخل الطهارة فنزع ذلك السراويل وخرج، فلما وجده المعتضد سر به وابتهج، فكان يدعه على عينيه، ويعده بينه وبين الحائط، وينظر إليه، فوجد بحوة «3» لونه حفا لصحوة عينيه، ولم يكن عنده إلا فرد غلام لا يغني في رد كلام، وكان المعتضد يشغل وقته بمصحف يقرأ منه القرآن العظيم، ودعاء يقرع به باب السميع الكريم، ودخل عليه الوزير ابن بلبل يوما، والمعتضد يقرأ، فوضع إلى جانبه المصحف، وأخذ بأنه يخضع للوزير [ص 156] ويتلطف، وكان يدخل عليه ليجد ما ينم به، وينمي أحاديث كذبه، وكان الموفق قد خرج إلى الجبل فزاد خوف المعتضد من غرّة فيه تهتبل، وكان يتخوف دخوله عليه على غفلة، ويشفق لا يكاتب أباه عنه بكذب يعجل نقله، ويجعل نظره إليه نسله، ويخلي به مثله مثلة، فيأمر بقتله ولا يكشفه، ولا يجد من يثنيه عنه ولا يصرفه، قال المعتضد ما معناه: وكان ابن بلبل يجيئني في كل يوم مراعيا خبري، وساعيا في قص أثري، ويظهر أنه يتردد إليّ خدمة يؤديها، وإنما يردد نقمة يردّيها، فلما دخل عليّ ذلك اليوم قال: إيها، أعطني المصحف لأتفاءل لك إن كنت تبلغ مؤملك،
فلم أجبه بشىء، ولم أجبه بموافقة ولا لي، فأخذ المصحف وفتحه فكان أول سطر تصفحه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
«1» فاسودّ وجهه واربد حتى كان كالليل أو شبهه، ثم أطبق المصحف وفتحه ثانيا، فخرج منه باديا: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ
«2» ، فازداد قلقا واضطرابا واضطر أن يفتح بابا، ثم فتح المصحف ثالثا فوجد عاجلا لا نائيا: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
«3» ، فوضع المصحف والخوف قد جلله، وألحف ثم قال: أيها الأمير، أنت والله الخليفة بلا شك، فما حق بشارتي وحال قبولك لإشارتي، فقلت: الله الله في دمي، وما عليك ألا تكون السبب في عدمي وأسأل الله أن يبقي أمير المؤمنين، والأمير الناصر الموفق، وما أنا وهذا، ولم أزل به أوثق وأقول: مثلك في عقلك لا يطيق القول بمثل هذا الاتفاق، وأنا أحوج منك إلى غير هذا من الارتفاق فأمسك عني، وقد كان يأخذني منى، ثم ما زال يحادثني ويخرجني من حديث ويدخلني في آخر إلى أن جرى حديث ما بيني وبين أبي، وأنه ربما كان يؤاخذه بسببي، ثم أقبل يحلف بالأيمان الغليظة [ص 157] أنه ما سعى عليّ بمكروه، وأنه ممن لم يحرجوا صدره عليّ، ولم يغروه، فصدقته خوفا أن تزيد وحشته مني فيسرع إلى التدبير في تلفي، وأريته من الود ما لم يكن له في، ثم صار كلما جاء أخذ معي الاعتذار والتنصل، كأنما أبلغه مني الإنذار، وإنما أظهر له التصديق وأبسط معه مباسطة الصديق حتى سكن قلق راحته، وما
شك أني أعتقد براءة ساحته، وما كان بأسرع من أن جاء الموفق من الجبل وقد اشتدت به علته، ومات، وأخرجني الغلمان من الحبس وأروني مكانه، وأورثوني سلطانه، وقاد الله الخلافة إليّ، ومكنني من ابن بلبل، فأخذت ثأري بيدي، وكان المعتضد ملكا مهيبا، إذا اغتاظ توقد لهيبا، وبويع بالخلافة وقد تمزقت كل ممزق، وتوزع ملكها وتفرق، وقد صار كل طرف بيد ثائر، وكل إقليم تحقق عليه نبذ كل ملك جائر، واضمحلت الحرمة كأنها لم تكن، وصعبت الأمة كأنها لم تهن، فقام حتى جمع شلوها المبدد، ومنع أديمها المقدد، وكان في الغنية مثل موافقه في الكنية أبي العباس السفاح في تعريض وجهه للكفاح، وكل منهما أقام دولة أبي العباس، وأقاد لها أنف كل ذي باس، وكلاهما كانت خلافته للخلافة العباسية بانية، ذاك أوله وهذا ثانيه، وكانت له على الأتراك وأرباب دولته سطوة تخاف بها أبصارهم أن تختطف، وأعمارهم أن تقتطف، حذرا من ضيغمة المفترش المفترس، وأرقمة المنتهش المنتهس، وعقابه الخطوف الكاسرة، وعقابه الممثل بعذاب الآخرة، فإنه كان أليم العذاب، عقيم العقاب، وكان يدلي عليهم الحرس، ويذكر لهم من أمورهم وبيوتهم ما يلجمهم بالخرس، وما عرف أحد بعد المعتصم أخف منه إلى العدو ركابا، ولا أمد على بلد انسكابا، ولا يحط له سرج، ولا يحل له عن موكب طوق ورهج، وقد حكى ابن ظافر في سياسة الملوك أنه كان لا يبرز إلا مخفا، ولا [ص 158] يستصحب ثقلا ولا خفا، وقرر النوروز «1» ، وأقر عليه رزق الجند المفروز، وتبعه عليه من بعده من الخلفاء ووفوه حسابه، وما قدروا على الوفاء، وكان غاية في الحزم والعزم، حكى شارح العبدونية قال: لم تزل الأتراك مذ مات الواثق يتحكمون عليهم في
خلافتهم، يعني تحكم الرجال على صبيانهم، حتى كان أيام المعتضد فغلبهم الغلبة التي يجب أن تكون لمثله على مثلهم وأذلهم وردهم إلى مراتبهم من العبودية، وكان المعتضد مهيبا لا يقدم أحد على أمر من أموره إلا مغرورا، وكان يسمى السفاح الثاني، لأنه جدد ملك بني العباس ووطده بعد أن كانت أخلقته الأتراك، وفي ذلك يقول ابن الرومي:«1»
[الطويل]
هنيئا بني العباس إن إمامكم
…
إمام الهدى والجود في ذاك يشهد
كما بأبي العباس أسس ملكهم
…
كذا بأبي العباس أيضا يجدد
ولقد اتفق في أيامه أمر فظيع «2» كشفه الله له فعظم في نفوس أتباعه، فإنه كان لا يتجرأ أحد منهم أن يكتمه ما في نفسه مخافة صولته، وكان أحد كبراء دولته قد بنى بناء عاليا مشرفا على منازل جيرانه، فلم يقدر أحد يعارضه، فأشرف منه فرأى جارية بارعة الجمال، فسأل عنها، فقيل: ابنة تاجر، فخطبها إلى أبيها، فأبى أن يزوجها من تاجر مثله، فلم يزل يغريه «3» ويأبى، فزوّر كتاب تزويج بشهادة عشرة من المعدلين، ثم أخذها بظاهر الشرع، فتحيّل أبوها حتى دخل في زي فعلة البناء في قصر كان المعتضد قد شرع فيه، فأتاه يوما يشرف عليه، فوقف له وذكر له حاله، فأرسل في طلب الزوج والشهود، وسألهم كيف كان الحال، فما استطاع أحد منهم أن ينكره، فوضع ذلك الزوج في جلد ثور طري، وضرب بالأرازب «4» حتى اختلط لحمه ودمه، ثم أمر به فأفرغ بين يدي
نمور عنده، ثم [أمر] بالشهود فصلبوا، وأمر لذلك الرجل بالبيت وبجميع ما تركه زوجها [ص 159] من صامت وناطق، وكان بما لا يحصر.
وحكى ابن ظفر: أن قطر الندى «1» بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، لما زفت إلى المعتضد أغرم بها، فوضع رأسه في حجرها يوما فنام، فأزالته عن فخذها بلطف، ووسدته وخرجت من البيت، فاستيقظ المعتضد فذعر وناداها فأجابته من قرب، فقال لها: أسلمت إليك نفسي فذهبت عني، فقالت: لم أذهب عن أمير المؤمنين، ولم أزل كالئة له، قال: فما أخرجك؟ قالت: إن مما أدبني به أبي أن لا أجلس مع النيام، ولا أنام مع الجالسين، فاستحسن ذلك منها.
وحكى صافي الحرمي: أنه لما مات المعتضد كفنه في ثوبين قوهي «2» قيمتها ستة عشر قيراطا وولد، ولما حضرته الوفاة قال، وأراه له:
[الطويل]
تمتّع من الدنيا فإنّك لا تبقى
…
وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرّنقا
ولا تأمننّ الدهر إني أمنته
…
فلم تبق لي حالا ولم ترع لي حقّا
قتلت صناديد الرجال فلم أدع
…
عدوّا ولم أمهل على ظنّة خلقا
فلما بلغت النجم عزّا ورفعة
…
وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقّا
رماني الردى سهما فأخمد جمرتي
…
فها أنا ذي في حفرتي عاجلا ألقى «3»