المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الرابع والعشرون]

- ‌المقدمة

- ‌مؤلف الكتاب:

- ‌علمه وأدبه:

- ‌وصف مخطوطة الكتاب:

- ‌الكتاب ومنهج مؤلفه:

- ‌منهج التحقيق:

- ‌[دولة حسنيين]

- ‌1- ذكر دولة المهديّ

- ‌2- ذكر دولة أخيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن

- ‌ذكر بني طباطبا

- ‌3- محمّد بن إبراهيم العلويّ

- ‌4- الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن طباطبا

- ‌5- محمّد المرتضى

- ‌6- أحمد النّاصر ابن الهادي

- ‌7- ذكر دولة القائم بالمدينة أبي عبد الله محمّد بن الحسن

- ‌8- ذكر دولة السّفّاك إسماعيل

- ‌9- ذكر دولة الكبير ومنهم أهل الينبع

- ‌10- أبو عزيز قتادة بن إدريس

- ‌11- النّاهض بأمر الله محمّد بن سليمان بن داود

- ‌12- أبو الفتوح الحسن بن جعفر

- ‌ذكر الدّولة الطّبرستانيّة

- ‌13- الدّاعي إلى الحقّ

- ‌14- القائم بالحقّ

- ‌15- المهديّ أبو محمّد

- ‌ذكر دولة الأخضريّين

- ‌ذكر دولة الأدراسة ببلاد المغرب

- ‌16- إدريس المغرب

- ‌17- إدريس بن إدريس

- ‌18- القاسم بن إدريس

- ‌19- دولة النّاصر عليّ بن حمّود

- ‌20- المأمون

- ‌21- ذكر دولة المعتلي أبي إسحاق يحيى بن عليّ بن حمّود

- ‌22- ذكر دولة المتأيّد أبي العلى

- ‌23- ذكر دولة القائم أبي زكريّاء

- ‌24- ذكر دولة المستنصر أبي محمّد

- ‌25- ذكر دولة أخيه العالي

- ‌26- ذكر دولة المهديّ

- ‌27- ذكر دولة الموفّق

- ‌28- دولة المستعلي

- ‌29- ذكر دولة المهدي محمّد بن تومرت

- ‌30- فأما دول بني الحسين بن عليّ

- ‌ذكر الدّولة العبيديّة

- ‌31- المهديّ بالله

- ‌32- القائم بأمر الله

- ‌33- المنصور بالله

- ‌34- المعزّ لدين الله

- ‌35- العزيز بالله

- ‌36- الحاكم بأمر الله

- ‌37- الظّاهر بإعزاز دين الله

- ‌38- المستنصر بالله

- ‌39- المستعليّ

- ‌40- الآمر بأحكام الله

- ‌41- الحافظ لدين الله

- ‌42- الظّافر بأمر الله

- ‌43- الفائز بنصر الله

- ‌44- العاضد لدين الله

- ‌[دولة الحسينيين]

- ‌45- ذكر دولة الزّيّديّ القائم بالكوفة

- ‌46- ذكر دولة محمّد بن جعفر الصّادق

- ‌47- ذكر دولة الزّنجيّ

- ‌48- ذكر دولة القرامطة وأوّلهم ذكر فرية قرمط

- ‌49- يحيى بن قرمط

- ‌50- الحسين بن قرمط

- ‌51- أحمد بن الحسين

- ‌52- الحسن بن بهرام الجنّابيّ القرمطيّ

- ‌53- سليمان بن الحسن بن بهرام الجنّابيّ القرمطيّ

- ‌54- الأعصم

- ‌وهذه الدّولة العبّاسيّة

- ‌55- دولة السّفّاح

- ‌56- دولة المنصور

- ‌57- دولة المهديّ

- ‌58- دولة الهادي

- ‌59- دولة الرّشيد

- ‌60- دولة الأمين

- ‌61- دولة المأمون

- ‌62- دولة المعتصم بالله

- ‌63- دولة الواثق بالله

- ‌64- دولة المتوكّل على الله

- ‌65- دولة المنتصر بالله

- ‌66- دولة المستعين بالله

- ‌67- دولة المعتزّ بالله

- ‌68- دولة المهتدي بالله

- ‌69- دولة المعتمد على الله

- ‌70- دولة المعتضد بالله

- ‌71- دولة المكتفي بالله

- ‌72- دولة المقتدر بالله

- ‌73- وأمّا خروج عبد الله بن المعتزّ عليه

- ‌74- دولة القاهر بالله

- ‌75- دولة الرّاضي بالله

- ‌76- دولة المستكفي بالله

- ‌77- دولة المطيع لله

- ‌78- دولة الطّائع لله

- ‌79- دولة القادر بالله

- ‌80- دولة القائم بأمر بالله [ص 170]

- ‌81- دولة المقتدي بأمر بالله

- ‌82- دولة المستظهر بالله

- ‌83- دولة المسترشد بالله

- ‌84- دولة الرّاشد بالله

- ‌85- دولة المقتفي بأمر بالله

- ‌86- دولة المستنجد بالله

- ‌87- دولة المستضىء بأمر بالله

- ‌88- دولة النّاصر لدين الله

- ‌كم بذي الدوح أثلة من قضيب

- ‌89- دولة الظّاهر بأمر الله

- ‌90- دولة المستنصر بالله

- ‌91- دولة المستعصم بالله

- ‌[الخلفاء العباسيون في مصر]

- ‌92- المستنصر بالله

- ‌93- الحاكم بأمر الله

- ‌94- المستكفي بالله

- ‌95- الواثق بالله

- ‌96- الحاكم بأمر الله

- ‌[صورة المبايعة للحاكم]

- ‌وهذه الدولة الأموية

- ‌97- دولة معاوية بن أبي سفيان

- ‌98- دولة ابنه يزيد بن معاوية

- ‌99- دولة معاوية بن يزيد بن معاوية

- ‌100- عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه

- ‌101- دولة مروان بن الحكم

- ‌102- دوّلة ابنه عبد الملك بن مروان

- ‌103- عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه

- ‌104- دوّلة ابنه الوليد بن عبد الملك

- ‌105- دوّلة سليمان بن عبد الملك بن مروان

- ‌106- دوّلة عمر بن عبد العزيز

- ‌107- دوّلة يزيد بن عبد الملك بن مروان

- ‌108- دوّلة هشام بن عبد الملك

- ‌109- دوّلة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

- ‌110- دولة يزيد بن الوليد بن عبد الملك

- ‌111- دولة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك

- ‌112- دولة مروان بن محمّد

- ‌الدولة الأموية بالأندلس

- ‌113- دولة عبد الرّحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان

- ‌114- دولة ابنه هشام بن عبد الرّحمن [ص 310]

- ‌115- دولة ابنه الحكم بن هشام الرّبضيّ

- ‌116- دولة ابنه عبد الرّحمن بن الحكم

- ‌117- دولة ابنه محمّد بن عبد الرّحمن

- ‌118- دولة ابنه المنذر بن محمّد

- ‌119- دولة أخيه عبد الله بن محمّد

- ‌120- دولة ابن ابنه عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الله بن محمّد النّاصر

- ‌121- دولة ابنه الحكم المستنصر بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌122- دولة ابنه هشام المؤيّد بن الحكم

- ‌123- دولة محمّد المهديّ بن هشام بن عبد الجبّار بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌124- دولة سليمان بن الحكم المستنصر بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌125- دولة المستظهر عبد الرّحمن بن هشام

- ‌126- دولة محمّد بن عبيد الله بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌127- دولة هشام بن محمّد بن عبد الملك بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌مصادر التحقيق

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌56- دولة المنصور

بني أمية صنع هذه الأبيات، وتلطف في إيصالها إليه، وهي:

[الرمل]

ولقد أبصرت لو تنقضي عبرا

والدهر يأتي بالعجب

أين زرقاء عبد شمس أين هم

أين أهل الباع منهم والحسب

كلّ سامي الجد محمود الجدا

واضح الغرّة بدر منتجب

لم يكن أندبهم عندكم

ما فعلتم يالعبد المطلب

إن تجدّوا الأصل منهم سفها

يا لقومي للزمان المنقلب

إنّ هذا الدهر لابد له

بخيار الناس يوما ينقلب

فغض السفاح من فعله وألان جانبه وفلّ غرب سطوته، ومولده سنة خمس ومائة، وتوفي بالجدري سنة ست وثلاثين ومائة، وعمره واحد وثلاثون سنة، ومدته أربع سنين وتسعة شهور وأيام، وقبره بالأنبار.

ثم:

‌56- دولة المنصور

أخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد «1» ، وكان منصور اللواء، مقصور الرأي

ص: 181

على دفع اللأواء، لا ينثني عوده بالالتواء، ولا يستحوذ عليه بالاحتواء، لا يمل طول الثواء ولا يلم برده على تأخير الدواء، لا تزعجه تظافر الأشياء والأسواء، ولا تردعه تغاير الأهواء، أوقع على مقاصده من مواطن [ص 105] الأنواء، وأبصر بمصالحه من نواظر الصحة عداوة الأدواء، لا يفكر في عباد يهلكها، لبلاد يملكها، ولا يستأثر بدماء يسفحها لنعماء يمنحها، حتى توطدت قواعد ملكه، وتوطنت فرائد الأقاليم في سلكه، فما أعجزه مرام، ولا أعجزه حافز أمر عن تمام، ولم يكن في بيته أقوى منه شكيمة، ولا أورى زناد عزيمة، ولا أغزر علما، ولا أوفر حلما، إلا أنه كان مبخلا لا يرشح له صلد تبدى، ولا يفيض له بحر بجدا، ونجمت في مدته خوارج فرماها بغوائله، وماراها حتى شفى منها صدور مناهله، فاستقام له غويها، ودخل في ذمام طاعته عصيّها، ومن نأت عليه أنهد إليها جيوشه فأوطاها أحداثا، وأوطنها أجداثا، ثم بعث إلى الأطراف فسدد ثغورها، وشد سعورها، وبنى المدن ومدنها، وسجن المعاقل وحصنها، وكان لا يطمع في اهتبال غرته، واحتلال أسرته، فما لانت حصاته لماضغ، ولا هانت حصانته على رائغ، فلم يتخلص من قبضته نازغ، ولا قصده إلا من عاد بقلب ملآن فارغ، ودام الملك في بيته تتوارثه، وينتقل إليهم عنه موارثه، وهاهم إلى اليوم في بقايا نعمه التي أحرزها، وذخائره وهي الخلافة التي في بيته أكثرها، وهو داهية القوم وقلّبته الأحوال أكثر من كل بني أبيه، واضطر في دولة بني أمية إلى أنه قصد شيعتهم بالعراق، فمر في طريقه بقصر خالد بن عبد الله القسري «1» ، فلما رآه خالد لم

ص: 182

يكن يعرفه، طالبه وسأله عن نسبه وأين يريد، فأخفى نسبه وقال: إني أريد العراق لدين عليّ، وحقوق لزمتني، فأمر له بمال جليل وأعاده، فراعاها له أبو جعفر، فلما أفضت إليه الخلافة رد على آل خالد بن عبد الله نعمتهم «1» ، وألجأته الضرورة إلى أنه تزوج امرأة من الأزد، وأكرى نفسه مع الملاحين، يمد في الحبل، وأولد تلك الامرأة ولدا كتب في دولة أبي جعفر عند أبي أيوب المورباني، وهو [ص 106] لا يدري ولا الصبي أنه ابن أبي جعفر، فرآه أبو جعفر، فهفت إليه نوازعه، فسأله عن أبيه فقال: رجل شريف تزوج بأمي، فسأله عن أمه وأهله ومكانه، فعرفه وعرف أنه ابنه، فأمره بحمل أمه وأهله إليه، فلما سافر لهذا، بعث أبو أيوب من تتبعه وقتله غيلة، خوفا منه لما كان اطلع عليه من معابثه؟ وأمسك أبو جعفر المنصور في آخر سلطان بني أمية بسبب مال، وضربه عامل البصرة بالسياط، وكان أبو أيوب المورياني يكتب لعامل البصرة، فقام وأكب على أبي جعفر وخلصه، وكان أبو جعفر يرعى له هذا الود، ثم كان منه ما كان إليه، على ما يأتي في موضعه، ولما مات السفاح خرج عليه عبد الله بن علي «2» بالشام، وكان ليه من قبل السفاح، وقال إن السفاح عهد قبل موته إن

ص: 183

الأمر لقاتل مروان، وأنا قاتله، فقالوا صدقت وبايعوه، فبعث إليه المنصور أبا مسلم، فالتقوا ببلاد نصيبين، وكانت بينهم حروب عظيمة دامت شهورا، ثم انهزم أصحاب عبد الله بن علي إلى البصرة، وكان عليها أخوه سليمان بن علي، فأنزله وأخبر المنصور فأمره بحبسه، ثم كان آخر العهد به، ثم إن أبا مسلم شمخ بنفسه فأرسل إليه المنصور يقطين بن موسى ليقبض ما أصاب، فرده ردا قبيحا، ثم سار أبو مسلم من الجزيرة وقد أزمع على الخلاف، وبلغ الخبر المنصور وهو بالمدائن فاغتم لذلك، وسار إلى مدينة رومية، وكتب إليه أني أريد أن أشاورك في أمر لا أستطيع أن أكتمه، فأتني مسرعا، فلم يلتفت على الكتاب، فدس عليه صاحبا له، فأتى به فقتله على الصورة المعروفة، ولما قتله التفت إليه، ثم قال يرحمك الله أبا مسلم، لقد بايعتنا وبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووافيتنا ووفينا لك، وإنا بايعناك على أن لا يخرج علينا أحد في هذه الأيام إلا قتلناه، فخرجت علينا فقتلناك.

وحكي أن أبا مسلم كان يجد خبره في الكتب [ص 107] السابقة وأنه مميت دولة ومحيي دولة، وأنه يقتل ببلد الروم وهي من المدائن من العراق، ولما ضربه المنصور أول ضربة، قال له: استبقني يا أمير المؤمنين لأعدائك، فقال: لا أبقاني الله إن أبقيتك، وأي عدو أعدى لي منك، وكان مقتله سنة سبع وثلاثين ومائة، وهو ابن إحدى وثلاثين سنة، ذكره الغرناطي، ولما رآه المنصور طريحا بين يديه قال:

ص: 184

[السريع]

زعمت أنّ الدّين لا يقتضى

فاستوف بالكيل أبا مجرم

واشرب بكأس كنت تسقي بها

أمرّ في الحلق من العلقم

فاضطرب أصحاب أبي مسلم، فنثرت «1» عليهم الأموال وأعلموا بقتله، فأمسكوا رغبة ورهبة، ومضى أبو مسلم لسبيله لم يغن عنه كثرة قبيله، ولا توقد بصر كان يسري بقنديله، ولا نجاة بعد غور كانت السفن تغرق في ضحضاحه، وتدلج ولا تظفر بصباحه، فلم ينفع بحذار، ولم يدفع بحذر لمقدار، وحكت سلامة أم منصور قالت: رأيت حين حملت به أسدا خرج من قبلي فأقعى وزأر وضرب الأرض بذنبه، فاجتمعت إليه الأسود، وكان كلما جاءه أسد سجد له، وكان المنصور فقيها عالما حافظا، قال مالك بن أنس: ما اجتمعت قط بأبي جعفر المنصور إلا احتقرت نفسي، وادّعت الراوندية «2» فيه الألوهية، وخرج لدفعهم، فأرادوا قتله، وقالوا: نريد يخرج الجزء الإلهي من هذا الناسوت، فخافهم، فاختط مدينة بغداد وانتقل من الهاشمية إليها، وقد تقدم ذكر بغداد في موضعه من تقسيم الأقاليم، وكان أبو حنيفة ممن على عملها. وعن عمير المديني قال: قدم علينا المنصور المدينة ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه، وأنا كاتبه، فاستعدى الحمالون عليه في شىء ذكروه، فأمرني أن أكتب إليه كتابا

ص: 185

بالحضور معهم وإنصافهم، فقلت: تعفيني [ص 108] من هذا فإنه يعرف خطي، فقال: اكتب، فكتبت ثم ختمه، فقال: لا يمضي به والله غيرك، فمضيت به إلى الربيع «1» ، وجعلت إليه اعتذر، فقال «2» : لا عليك، فدخل عليه بالكتاب، ثم خرج الربيع فقال للناس: أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد دعيت إلى مجلس الحكم، فلا أعلمن أحدا قام إلىّ إذا خرجت أو بدأني بالسلام، ثم خرج والمسيب بين يديه، والربيع وأنا خلفه، فسلم على الناس، فما قام إليه أحد، ثم مضى حتى بدأ بالقبر فسلم ثم التفت إلى الربيع وقال: يا ربيع ويحك، أخشى إن رآني عمران أن يدخل قلبه لي هيبة فيتحول عن مجلسه، وتالله إن فعل لا ولي لي ولاية أبدا، فلما رآه وكان متكئا، أطلق رداءه عن عاتقه ثم احتبى به، ودعا بالخصوم وبالحمالين، ثم دعا بالمنصور فسوّى بينهم، ثم ادعى عليه القوم، فقضى لهم، فلما دخل الدار قال للربيع: اذهب فاذا قام وخرج من عنده الخصوم فادعه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ما دعا بك الا بعد أن فرغ من أمور الناس، فمضى ودعاه، فلما دخل عليه سلم فقال له: جزاك الله عن دينك وحسبك وعن خليفتك أحسن الجزاء، قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار فاقبضها، فكانت عامة أموال محمد بن عمران من تلك.

وحكى البلاذري قال: ما كان المنصور يستصبح إلا بالزيت في القناديل،

ص: 186

وإنما خرج إلى المسجد ومعه من يحمل سراجا بين يديه، ثم إنه حمل بين يديه ما فيه الرطل والمن، وكان إذا أراد قراءة الكتب أو كاتبها أحضر شمعة في تور «1» ، ثم إذا فرغ رفعها، وكان لا يرى إلا الاقتصاد في كل أموره، والاقتصار على الضروري الذي لابد منه، وكان أبو عبيد الله الكاتب يقول: كان المنصور يعطي الناس في حق، وأعلمهم «2» بحرمه، وأشدهم شكيمة على عدو، وكان أمره جدا كله، وسمع المنصور جلبة في داره، فقال: ما هذا؟ فاذا خادم له قد جلس وغلمة حوله وهو يضرب لهم بطنبور «3» وهم يضحكون منه، فأخبر بذاك، فقال: وما الطنبور؟ فوصفه [ص 109] له عماد التركي، فقال له: وما يدريك به؟ فقال: رأيته بخراسان، فقال: نعم، ودعا بنعله وقام يمشي رويدا حتى أشرف على الغلمان، فلما أبصروه تفرقوا، فقال: خذوا الخادم فاكسروا ما معه على رأسه، ثم قال: يا ربيع، أخرجه من قصري، وابعث إلى حمران النخاس حتى يبيعه، فوجه به الربيع من ساعته فبيع.

وعن رجل من حشم المنصور قال: كان المنصور يقسم علينا الأرزاق وما في الخزائن حتى القانيد «4» والدرياق «5» ، وركب المنصور يوما نحو باب قطربل «6» حتى دخل من ناحية باب حرب «7» ، فأساء بعض أحداث مواليه، وسار في ناحية

ص: 187

مثيرا، لا يسير فيها أحد كراهة للغبار، فالتفت إلى عيسى بن علي وهو يسايره، فقال: والله ما ندري يا أبا العباس ما نصنع بهولاء الأحداث، إن حملناهم على الأدب وأخذناهم بما نحب ليقولن جاهل لم يحفظ أباهم فيهم، وإن تركناهم وركوب أهوائهم ليفسدنّ علينا غيرهم وسئل عنه إسحاق بن مسلم [قال] : لقد سبرت «1» أبا جعفر فوجدته بعيد الغور، وعجمت عوده فوجدته صلب المكسر، ولمسته فوجدته خشن الملمس، وذقته فوجدته مر المذاق، وإنه وما حوله لكما قال ربيعة:«2»

[الطويل]

سما بي فرسان كأنّ وجوههم

مصابيح تبدو في الظلام مزاهر

يقودهم كبش أخو مصمئلة

حليف سرى قد لوّحته الهواجر «3»

وقال: يقول للمهدي: يا بني استدم النعمة بالشكر والقدرة بالعفو والطاعة بالتألف، والنصر بالتواضع لله، والرحمة للناس، ولما أتاه مخرج محمد بن عبد الله «4» بالمدينة سن عليه درعه، وتقلد سيفه، ولبس خفّه، وصعد المنبر، فحمد

ص: 188

الله وأثنى عليه، ثم قال:

[البسيط]

ما لي أدافع عن سعد ويشتمني

ولو شتمت بني سعد لقد سكنوا «1»

جهلا عليّ وجبنا عن عدوهم

لبئست الخلتان الجهل والجبن [ص 110]

أما والله، لقد عجزوا عمّا قمنا به، فما عضدوا الكافي، ولا شكروا المنعم، فماذا حاولوا، أأشرب رنقا على غصص، وأبيت منهم على مضض، كلا والله، إني لا أصل ذا رحم بقطيعة نفسي، وإن لم يرض بالعفو مني ليطلبن مالا، يوجد عندي، ولأن أقتل معذورا أحبّ إليّ أن أحيا مستذلا، فليبق ذو نفس على نفسه قبل أن يقضي نحبه، ثم لا أبكي عليه، ولا تذهب نفسي حسرة لما ناله، ثم دقّ بيده على صدره، وأنشد:

ص: 189

[الوافر]

فكم من غارة ورعيل خيل

تداركها وقد حمي اللقاء

فردّ رعيلها حتى ثناها

بأسمر ما يرى فيه التواء

ثم أنشد:

[الكامل]

ونصبت نفسي للرماح دريئة

إنّ الرئيس لمثل ذاك فعول «1»

ثم لم يلبث أن أتاه الخبر بمخرج إبراهيم بن عبد الله «2» إثر أخيه، جمع المنصور بني أبيه وقال: ما ترون؟ فقالوا: توجه موسى بن عيسى، فقال:

يا ولدي على ما أنصفتم وجهت إياه وأوجه ما يجوز، قالوا: فوجه عبد الله بن علي واصطنعه، قال: هيهات، أبعث عليّ حربا أخرى، إن خافني مالأ عدوي عليّ، وإن ظفر أعاد الحرب بيني وبينه خدعة، وقد سمعتكم تذكرون أن له أربعة آلاف مولى يموتون تحت ركابه، فأي رأي هذا، والله لو دخل عليّ إبراهيم بسيف مسلول لكان أهون عليّ من تقبيل عبد الله بن علي رأسي، ثم جهز إليه موسى بن عيسى «3» .

ص: 190

وحكى المنصور قال: رأيت كأني حول الكعبة، فنادى مناد من جوف الكعبة: أبا العباس، فنهض أخي فدخل الكعبة، ثم خرج وبيده لواء، فمضى فنادى مناد: يا عبد الله، فنهضت أنا وعمي عبد الله بن علي نبتدر، فلما استوينا على الدرجة العليا دفعته عن الدرجة فهوى، ودخلت الكعبة، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فعقد لي لواء طويلا على قناة، وقال:

خذها حتى تقاتل بها [ص 111] الدجال.

وحكى عنه شبيب بن شبة الأهتمي التميمي قال: حججت في العام الذي ولد فيه الوليد بن يزيد، فبينا أنا مريح ناحية من المسجد، إذ طلع من بعض أبوابه فتى كأن عينيه لسانان ناطقان، يخلط أبّهة الأملاك بزي النساك، فما ملكت نفسي أن نهضت في إثره سائلا عن خبره، فسبقني فتحرم بالطواف، فلما سبّع «1» قصد المقام فركع، ثم نهض منصرفا، فكأنّ عينا أصابته، فكبا كبوة ذهب لها إصبعه، فقعد لها القرفصاء، فدنوت منه متوجعا له، أمسح عن رجله التراب فلا يمتنع، فشققت حاشية ثوبي فعصبت بها إصبعه، فما تأفف، ثم نهض متوكئا عليّ، حتى أتى دارا بأعلى مكة، فابتدره رجلان تكاد صدورهما تنفرج من هيبته، ففتحا له الباب، فاجتذبني، فدخلت بدخوله، ثم خلى يدي وأقبل على القبلة، فصلى ركعتين أوجزهما في تمام، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم أتم صلاة وأطيبها، ثم قال: لم تخف عني مكانك بعد اليوم ولا فعلك بي، فمن تكون يرحمك الله؟ فسميت له نفسي، فرحّب وقرّب، ووصف قومي بخير، فقلت له: أنا أجلّك يرحمك الله عن السؤال،

ص: 191

وأحبّ المعرفة، فتبسم وقال: لطف أهل العراق، أنا عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فقلت له: بأبي أنت وأمي، ما أشبهك بنسبك، وأدلك على منصبك، ولقد سبق إلى قلبي من محبتك ما لا أبلغه بوصفي لك، قال:

فاحمد الله يا أخا بني تميم، إنما يسعد الله من أحببنا بحبه، ويشقى ببغضنا من أبغضه، ولن يصل الإيمان إلى قلب أحدكم حتى يحب الله ورسوله وأهل بيته، ومهما ضعفنا عن جزائه قوّى الله على أدائه، قلت إن أيام الموسم ضيقة، وشغل أهل مكة كثير، وفي نفسي أشياء أحب أن أسأل عنها أتأذن فيها؟ فقال: نحن من أكثر الناس مستوحشون، وأرجو أن يكون للسر موضعا وللأمانة واعيا، فإن كنت كما رجوت فافعل [ص 112] ، فقدمت من وثيق القول والأيمان ما سكن إليه، وتلا قوله تعالى:(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)

»

، ثم قال: سل عما بدا لك، قلت: ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان محمد بن يوسف الثقفي «2» ، فتنفس الصعداء، وقال: أعن الصلاة خلفه تسألني؟ أم كرهت أن يتأمر علينا أهل البيت؟ قلت: عن كلا الأمرين، قال: إن هذا عند الله لعظيم، فأما الصلاة ففرض الله تعبد بها خلقه، فأدّ ما فرض عليك في كل وقت مع كل أحد، فإنه لو كلفك أن لا تؤدي نسكا إلا مع أكمل المؤمنين إيمانا، لضاق عليك الأمر، فاسمح يسمح لك، ثم سألته عن أشياء من أمور ديني، فما

ص: 192

احتجت أن أسأل أحدا بعده، ثم قلت: يزعم أهل العلم أنه سيكون لكم دولة، قال: لا شك فيها تطلع طلوع الشمس وتظهر ظهورها، فنسأل الله خيرها، ونعوذ بالله من شرها، فخذ بحظ لسانك ويدك منها إن أدركتها، قلت: وإنه يبتلى بكم من أخلص المحبة، قال: قد روي أن البلاء أسرع إلى محبينا من الماء إلى قراره، قال: فقلت له إني لأخاف ألا أراك «1» بعد اليوم، قال: أرجو أن أراك وتراني كما تحب إن شاء الله، قلت: عجل الله ذلك، قال: آمين، فقلت:

ووهبني السلامة منكم، فإني من محبيكم، قال: آمين، وتبسم، ثم قال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث، قلت: ما هن؟ قال: قدح في الملك، دهنك في الدين، أو تهمة في حرمه، ثم قال: احفظ عني: لا تجالس عدونا وإن أخطبناه، فإنه مخذول، ولا تخذل ولينا فإنه منصور، واصحبنا بترك المماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصل إذا قطعوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرض للأموال، وأنا رائح من عشية، فهل من حاجة، فنهضت لوداعه، فلما خرجت أتبعني مولى له بكسوة، وافترقنا، فوالله ما رأيته، إلا وحرسيان قابضان عليّ يدنياني منه في جماعة من قومي لأبايعه، فلما نظر إليّ قال: خليا عمّن صحت مودته، وتقدمت [ص 113] خدمته، وأخذت قبل اليوم بيعته، ثم قال: أين كنت عني أيام أخي العباس، فذهبت أعتذر، فقال: أمسك فإن لكل شىء وقتا لا يعدوه، فاختر بين رزق يشغلك، أو عمل يرفعك، قلت: أنا حافظ لوصية أمير المؤمنين، قال:

إنما نهيتك أن تخطب الأعمال، ولم أنهك عن قبولها، قلت: الرزق مع قبول أمير المؤمنين أحب إليّ، قال: هو أجمّ لقلبك، وأحب إليّ لك، ثم قال: قد ألحقنا عيالك بعيالنا، وخادمك بخادمنا، وفرسك بأفراسنا، ثم ضمه إلى المهدي، فكان معه.

ص: 193

ورأى المنصور قبل موته بيسير أعاجيب كثيرة مؤذنة بهلاكه، منها أنه لما دخل آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزله، فاذا فيه مكتوب:

[الطويل]

أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت

سنوك وأمر الله لا بد واقع

أبا جعفر هل كاهن أو منجم

لك اليوم من حر المنية مانع

فأقرأ متولي المنزل البيتين، فقال: ما أرى شيئا فأقرأ حاجبه فقال كذلك، قال: اقرأ آية من كتاب الله تشوقني إلى الغاية، فقرأ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ

«1» فقال له: أما وجدت آية غيرها، قال: والله لقد محي القرآن من قلبي غيرها، وهتف به هاتف قبلها بهذه الأبيات:

[البسيط]

أما وربّ السكون والحرك

إنّ المنايا كثيرة الشّرك

ما اختلف الليل والنهار ولا

دارت نجوم السماء في الفلك

إلا لنقل السلطان من ملك

قد انتهى ملكه إلى ملك

ثم رأى بعد ذلك كأنّ منشدا ينشده:

[مجزوء الكامل]

أأخي حفص من مناكا

فكأنّ يومك قد أتاكا

ولقد أتاك الدهر من

تصريفه ما قد أتاك [ص 114]

وإذا رأيت الناقص

العبد الذليل فأنت ذاكا

ملّكت ما ملّكته

والأمر فيه إلى سواكا

ص: 194

وذكر عنه أنه كان في مجلس من أعلا باب خراسان إذ جاء سهم عائر «1» فسقط بين يديه، فذعر وجعل يقلبه، فاذا بين الريشتين مكتوب:

[الوافر]

أتطمع في الحياة إلى المعاد

وتحسب أنّ مالك من نفاد

ستسأل عن ذنوبك والخطايا

وتسأل بعد ذاك عن العباد

ثم قرأ عند الريشة الثانية:

[البسيط]

أحسنت ظنّك بالأيام إذ حسنت

ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها

وعند صفو الليالي يحدث الكدر

ثم قرأ عند الريشة الثالثة:

[البسيط]

هي المقادير تجري في أعنّتها

فاصبر فليس لها صبر على حال

يوما تريك خسيس الناس ترفعه

إلى السماء ويوما تخفض العالي

وإذا على جنب السهم: رجل من همدان مظلوم في حبسك، فبعث من فوره، ففتش عليه، فوجده، فأنصفه وأزال ظلامته، ولما رأى ما رأى من العجائب المنذرة بهلاكه، قال لحاجبه الربيع: إني أتخوف على هذا الأمر، قال له: من يا أمير المؤمنين؟ تعني عيسى بن موسى «2» وهو معك بالحضرة، فأمرني فيه بأمرك حتى أنفذه، فقال: كلا يا ربيع، رجل ما أعطى الله عهدا إلا وفى به،

ص: 195

وإنما أتخوف صاحب الشام عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام «1» ، ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم اكفني عبد الوهاب، قال الربيع: فلما مات المنصور ودليته في القبر، وعرضت عليه الحجارة، سمعت هاتفا يهتف من القبر: مات عبد الوهاب وأجيبت الدعوة، قال الربيع: فهالني ذلك الصوت، وجاء الخبر بعد سابعة بوفاة عبد الوهاب، ومولده «2» سنة خمس وتسعين، وتوفي في ذي الحجة لست خلون منه سنة ثمان وخمسين ومائة، وعمره ثلاث وستون سنة، ومدته [ص 115] نحو اثنتين وعشرين سنة، وقبره ببئر ميمون قرب مكة المعظمة.

ويروى له من الشعر قوله:

[مجزوء الكامل]

المرء يهوى أن يعي

ش وطول عيش قد يضره

تفنى بشاشته ويب

قى بعد حلو العيش مرّه

وتصرف الأيام حت

ى ما يرى شيئا يسرّه

ص: 196