الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
117- دولة ابنه محمّد بن عبد الرّحمن
وهي المتصرمة «1» عن افتراق الجماعة، المقسمة في آخرها بفراق الطاعة المسلمة من يده إلى الإضاعة المحومة لا إلى منهل عذب، المحولة رداها لا بمنصل عضب، بل يتحوم النفاق بكل جهة، وعدم الوفاق على ما تكون به السرائر مرفهة لقضاء سبق علمه لا لاقتضاء بسوء فعل، إلا أنه قسمه، وقد كان ذا كرم غمر اليدين، وهمم تسع صدر الفرقدين، وبصيرة ثاقبة، وسريرة لله مراقبة، إلا أنها الأقدار لا تعاند، والأسرار لا تبيد ذممها ولا تعاهد.
استخلف يوم مات أبوه، ودخل القصر على ملأ من الناس، وحماء ممن يريد هدّ ذلك الأساس، وقيل: بل دخل متخفيا، ثم أصبح على السرير جالسا، ثم علا صهوة المنبر فارسا، وتولى أخذ البيعة له ابن شهيد «2»
بمشهده، واستناب يده له عن يده، وقام لديه مؤمن بن سعيد «1» منشدا:
[الطويل]
تهلّل بطن الأرض لما ثوى بها
…
إمام الهدى الثاوي بها بطن ملحد
وزلزلها موت الإمام وفقده
…
فقال لها الله اسكني بمحمّد [ص 318]
ثم كان من أكثر القوم تأنيا، وأوفر لما في النفوس تمنيا، وصفا العيش في ظل خلافته، وكفى المسىء اعتذارا فضل رأفته، وكان له في مدته الآثار الجميلة، والفتوح العظيمة، والعناية التامة بمصالح المسلمين، والاهتمام بالثغور وحفظ الأطراف، والتحرز من قبل البحر.
قال الرازي: كانت لا تجري في بحره جارية إلا عن معرفته. قال: وهو الذي قسم مراتب أهل الخدمة، وإعلاء رتبة الوزارة، ورجّح أهل الشام على أهل الأندلس، وأعلى رتبة الوزراء منهم في الجلوس، انتهى كلامه.
قال صاحب المقتبس: وزاد في توسعة الجامع بقرطبة، فقال العباس بن فرناس «2» :
[البسيط]
محمد خير مسترعى ومؤتمن
…
للمسلمين جميعا حيث ما كانوا
بنى لهم مسجدا جلّت عجائبه
…
لولا السماء لما ضاهاه بنيان
قال: وكان مجبول الطباع على حب البنيان، مسعوفا بتشييد مبانيه، مبالغا في إتقانه، سخيا بالإنفاق عليه، منه قصور قرطبة والرصافة، وفيها يقول أحمد بن عبد ربه:«1»
[الطويل]
ألمّا على قصر الخليفة وانظرا
…
إلى منية زهراء شيدت لأزهرا
مزوّقة يستودع النجم سترها
…
فتحسبه يصغي إليها لتخبرا
بناء إذا ما الليل حلّ قناعه
…
بدا الصبح من أعرافه الشّمّ مسفرا
ترى المنية البيضاء في كل شارق
…
تلبس وجه الشمس ثوبا معصفرا
ودونك فانظر هل ترى من تفاوت
…
به أو رأت عيناك أحسن منظرا
تذكر بالفردوس من كان لاهيا
…
وتلهي عن الفردوس من قد تذكّرا
كأنّ السماء استوهبت لون أرضها
…
وأنجمها من نورها حين نوّرا
وكان ممدّحا. ومما قال فيه عمار بن المنبي:
[الطويل]
غدا في أسارير الأمير محمد
…
إمام الهدى بدر وفي كفه بحر
فلو ملّك الله الرعية عمرها
…
لكان له من ذلك العمر الشطر [ص 319]
إذا ذخر الأملاك مالا فما له
…
سوى المجد فالمعروف كنز ولا ذخر
مهيب إذا أبصرت غرّة وجهه
…
تكاد له من هيبة يصدع الصدر
وكان كثير الخروج إلى الصحراء للتنزه في نواحيها، والتوسع في سعة ضواحيها، وكان معجبا بدربد وهو مكان قتلى أشبيلية، مرج أخضر كأنه زمرد شارب، ونهر يتكسر ماؤه كأنه عسل ممزوج لشارب، فابتنى به أبنية رفيعة، إلا أنها خيام، وقرّض هناك قراره إلا أنه هيام، فقال الوزير تمام بن أحمد:
[الطويل]
لعمري لما يوم من الدهر كله
…
بأنعم من يوم حللنا بدربد
لدن روضة خضراء ما أن تخالها
…
لعمرك إلا معدنا للزمرد
ودام في بلهنية من الملك إلى أن ثارت إليه الثواير، ودارت عليه الدواير، وسار إلى مغالبته كل ساير، وطار لمواثبته في البر والبحر كل طاير، ولم يكفه انفتاق الفتوق، وانبثاق البثوق، واختلاف كلمة أهل ملكه، حتى قصدته ملوك الكفار، وأجهدته بالنهود إلى الأسفار، وما رمي بأهل الصليب على انفرادهم، حتى مني بالمجوس من أقصى بلادهم، وكان في هذه النوائب تارة وتارة، ومرة ومرة، آونة حلاوة، وآونة مرارة، وفي بعض غزواته التي أثخن فيها في أهل الخلاف، وأمعن في زيادة الاختلاف، قال مؤمن بن سعيد:
[البسيط]
دع اللهى يفنها محمدها
…
أسنى بني غالب وأمجدها
أشياع لب سنابل خشعت
…
أعناقها فالسيوف تحصدها
دانوا له وهو وارد بهم
…
حياض حتف يعاف موردها
كعابد النار وهي تحرقه
…
بعدا لمثواه حين يعبدها
ساؤوا ملوكا هم لهم خول
…
وهل يسامي الملوك أعبدها
أضحوا أحاديث للمواسم عن
…
ظبى السيوف استفاض مسندها
وعارضه محمد بن عبد العزيز القيسي فقال: [ص 320]
[البسيط]
دع الوغى لمم يزل محمدها
…
يوقد نيرانها ويخمدها
فليس تروى السيوف إن ظمئت
…
إلا إذا علّها محمّدها
سيف هدى تشهد السيوف له
…
يوم الوغى أنه مهنّدها
تقيل في ظله المنون إذا
…
هاجرة الحرب حار موقدها
فتلك دار العدو خالية
…
أو حين نور الأنيس معهدها
أطفأ عنا بسيفه فتنا
…
أوقدها في البلاد أعبدها
ثم طغت الفتنة ومرد النفاق، وانبعث الفساد، ودبّ الوهن في أقطار الدولة، حتى وهت أركانها، وهوت أقمارها، وعمي المبصر، وصم السامع، وخرس الناطق، وعم الأندلس بلاء أطل سحابه، وعظم شتات، لم يدر له امرؤ كيف ذهابه.
ثم توفي محمد بن عبد الرحمن ليلة لخميس، ليلة بقيت من صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين «1» ، ومولده في ذي القعدة سنة سبع ومائتين، وبلغ من السن خمسا وخمسين سنة وثلاثة أشهر، منها مدة خلافته نحو أربع وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا، وكان أبيض مشربا حمرة، مستدير الوجه، ربعة تام اللحية أصهبها به شىء من وقص «2» ، يخضب بالحناء والكتم.