الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الكامل]
ملك إذا قابلت نور جبينه
…
فارقته والنور فوق جبيني
وإذا لثمت يمينه وخرجت من
…
أبوابه لثم الملوك يميني
ولمّا طال بعمارة العمر، وذاق طعم عيشها المر، رثى بني رزيّك بمراث عوتب عليها، فقال إيها وأنشد:[البسيط]
زالت ليالي بني رزيك وانصرمت
…
والحمد والذمّ فيها غير منصرم
كان صالحهم يوما وعاد لهم
…
في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم
ولم يكونوا عدوا لان جانبهم
…
وإنما غرقوا في سيلك العرم
فلو فتحت فمي يوما بذمهم
…
لم يرض برّك إلا أن تسدّ فمي
ولو ذكرت لياليهم ونضرتها
…
وحسنها لم يكن بالدهر من قدم
ثم ابن عمّه:
44- العاضد لدين الله
أبو محمد عبد الله بن يوسف «1» ابن الحافظ عبد المجيد، بويع له بعد الفائز سنة خمس وخمسين وخمس مائة، ولم يك أبوه [في] الخلافة، ولا دارت في
جلده، ولا كان يظنها تصل إليه ولا إلى ولده، وبايعه الناس وهو طفل لا قدر عليه ولا كفل، وقام بأمره الصالح طلائع، وقرر له المصالح الروائع، ودام على مراعاة حاله ونهايته في التدبير نهاية العمل عليه في التدمير، وقيل إن العاضد لما فعل كان كالمتعاضد «1» حتى أكمنت له المنايا كمون الشجاع، ووثبت له وثبة الأسد المفترس إذا جاع، وغالته [ص 68] حيث لا يقدر على الارتجاع، ولا يقتدر على الانتجاع، ولبدت له في دهليز قصره، وفي موضع حصره، فقتل في الدهليز، وقيل: من أين أتي في هذا الكنف الحريز، وما أتي إلا من ذلك الكنف، ولا لحقه لولا تلك الحياة التلف، ولا خطّ طائره إلا من موضع أسف، وأظهر عليه العاضد الأسف، وكمدوا لبدره كيف انخسف، ثم استوزر العاضد ابنه رزيك بن طلائع «2» ، ولقّبه بالملك العادل، وقال: هذا لهذا يعادل، ثم قتل رزيك بعد سنتين، وكان هو وأبوه بالنسبة إلى ملوكهما حسنتين لا سيئتين فإنهما كانا ممن يتوسع في العطايا، ويترفع عن المؤاخذة بالخطايا، وكان قتله بأيدي العرب لما أخرجه شاور قريبا من القاهرة، وأسف العاضد عليه، وخاف أن يتكلم إن تكلّم، فوزّر شاور «3» ولقّب أمير الجيوش، وكان داهية ثلّالا للعروش،
فلّالا للعزائم ولم يخل الفروش، قلّابا للدول غلّابا على الملوك والخول، إلا أنه كان قصير الباع في الدفاع، حقير الرباع في اليفاع، لكنه كان ذا كيد ينصب أشراكه، ويلقي له عمامته وشراكه، لم يخف نقيصة تنسب إليه فيما فعل، ولا فيما وضع له نفسه وجعل، ومدحه عمارة على كرهه له ولأيامه، وأنفته منه ومن أنعامه، ولكنه خافه فداراه، وكان يود ألا يراه وما تراه، ومما قال فيه:
[الكامل]
ضجر الجديد من الحديد وشاور
…
في نصر دين محمد لم يضجر
هانت عليه النفس حتي إنه
…
باع الحياة فلم يجد من يشتري
حلف الزمان ليأتينّ بمثله
…
حنثت يمينك يا زمان فكفّر
وكان بعد ذلك في تقريب عمارة، ويخصه بمحل القرب والإشارة، ثم غلب ضرغام بن سور على الوزارة وابتزها وقطع دونها غلاصم المطامع واحتزّها، وأخرج شاور من القاهرة يتعثر بأذياله ويتخيّر [ص 69] طريق احتياله، ولقب ضرغام بالملك المنصور، وكتب له السجل الأشرف المنشور، ووجّه شاور وجهه إلى الحضرة النورية، فوفد عليها وفادة حسان «1» على أهل جلّق، ورأى نورها رؤية الحطيئة لنار الملحق «2» ، ثم خرج في الصحب الأسدية الشير كوهية إلى
مصر، وخرج ضرغام وتلاقيا على بلبيس «1» وأجلت الوقعة عن قتل ضرغام وانتصار الأسد الهمام، وانهزم جيش ضرغام إلى القاهرة، ودخل شاور القصر ووزر الوزارة الآخرة، وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمس مائة، ونكث عهود شيركوه ومواثقه وساسي تجشمه المشقة وطريقه، ثم خاف شاور فراسل الفرنج مستنصرا، فجاءه الملك مري في خلق كبير، فتحصن شيركوه في قلعة بلبيس، واجتمع شاور ومري عليه، وأحدق به العدو وحصره، وأنجز الله وعده وأيد شيركوه «2» ونصره، وخرج سالما إلى دمشق، ثم لم يعلم به حتى وصل إلى إطفيح «3» وعدّى إلى الجيزة، وأقام بها مدة وأنفذ شاور إلى مري واستصرخه، وملأ زقه الفارغ ونفخه، وبذل له مالا عظيما ووعده بمشاطرة
البلاد، فحمى لأجله ووافاه بخيله ورجله، ثم عدّى إلى الجيزة واندفع شيركوه إلى الصعيد «1» فلحقوه في الناس قريب منية ابن خصيب، ووقف لهم شيركوه وواقفهم، فانكسر شاور والفرنج، وأخذ صاحب قيسارية أسيرا، ووصل إلى شاور بالفرنج إلى القاهرة مهزومين، وسار شيركوه إلى الاسكندرية فدخلها وأقام بها مدة، وسمع بها شاور والملك مري، فجيّشوا جيوشا عظيمة وأتوا الإسكندرية في طلبه، فنزل بها ابن أخيه صلاح الدين في شرذمة قليلة وأصعد هو وعسكره إلى الصعيد، فجبى منه مالا جليلا، وأقام شاور على الإسكندرية خمسة وسبعين يوما، ثم رجع شيركوه حتى نزل على [ص 70] القاهرة ونازلها، وضيق على من فيها، فصالحوه على أنه يرتفع عنها، ويرتفع شاور عن الإسكندرية، ثم خرج صلاح الدين واجتمع بعمه شيركوه، وأتى شاور القاهرة وأقام مدة فوافاه الملك الرومي صاحب الشام والسبتار في جمع عظيم، فنزلوا على بلبيس وفتحوها عنوة وقتلوا رجالها وعجلوا آجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، وأبكوها بكاء التوجع والتوعج فعدت آمالها، وسمع شاور فخرج إلى مصر وأحرقها ونهبها، ونكر محاسنها وأذهبها، وترك الرومي على القاهرة وعوّل على فتحها، ثم عدل على صلحها، فبذل له أهلها مائتي ألف دينار، فما قنع بها، وطلب ألفي ألف، فرأى العاضد ووجوه دولته أن يستعينوا بشيركوه، فأتى هو وجيوشه العاضد وأدركوه وراسلوا نور الدين فأمدهم بجيوش ما سمعوا بخبرها، حتى رأوا طلائع عسكرها، فلما سمع به الفرنج ارتحلوا لا يلوون على شىء، ودخل شيركوه القاهرة، وخلع عليه العاضد خلعا سنية، وأضافه ضيافة تامة، وأقام له الأتراك، ونزل بظاهر القاهرة، ثم كان شاور يتردد إليه، فخرج إليه يوما مسلما فأوقع به صلاح الدين ومن معه، وقتل ابنه شجاع الملقب بالكامل، وكان خيرا
من أبيه يأمره بالخير، وأشار عليه ألا يستنجد بالفرنج، فقال: دعني من رأيك فإنني أخاف ألا أملك، فقال له: أن تهلك وأنت وحدك خير من أن تهلك أهل مصر كلهم، وكذلك قتل ابنه احرطي الملقب بالمعظم، وأخوه فارس المسلمين، وطيف برءوسهم على الرماح، وخلع على شيركوه بالوزارة في سابع عشر جمادى الأولى سنة أربع وستين وخمس مائة، وتوفي يوم الأحد الثالث والعشرين من رجب منها، ثم وزر بعده صلاح الدين يوسف، ثم قطع خطبة [ص 71] العاضد بعدها، وخطب للمستضىء، ولم يعش العاضد بعدها إلا أياما يسيرة ثم مات، ومشى صلاح الدين وعليه طيلسان وعمامة في الجنازة، وقعد للعزاء وبكى بكاء لم يشف به الحزازة، فانه ندم على ما كان من خلع رداء تلك الدولة خوفا من نور الدين لا يقصده ويطلب ما يحتج به فلا يجد ما كان يجد بالعبيديين من الحجة في ملاواته «1» والتستر بهم من سهام مناواته، ثم كان يقول: لو علمت بسرعة أجله ما روعته بالخلع، واختلف في موته، فقيل: إنه علم بالخلع فسمّ نفسه، والجمهور على أنه كان عليلا وأخنى عنه ضر الخلع، ومات حتف أنفه، وأخذ أهل القصر وحبسوا، وفرّق بين الرجال والنساء قطعا لنسلهم واجثاثا «2» لشجرتهم الخبيثة من أصلهم، وكانت مدة ملكهم منذ فتحوا مصر إلى أن خلع العاضد مائتين وخمس عشرة سنة، وكان صلاح الدين يشكر العاضد ويصف كرمه ويقول: استمددته بمال لسداد دمياط فأمدني بألف ألف دينار من العين والعروض، وكان لا يزال يتذكره ويتندم على فعله، حيث لا يمكنه استدراك الفارط، ولا يقدر على استرجاع الفائت، ومرّ عمارة بالقصر «3» فرآه خاوي الأركان خالي الأقطار من السكان، وكان يعهده لسجود
الجباه قبلا، ولعقود الشفاه ينظم قبلا، وتذكر سالف إحسانهم، وتبصر طائف طيف زمانهم، فما ملك عبرته ولا مل حسرته، وقال:
[البسيط]
رميت يا دهر كفّ المجد بالشلل
…
وجيده بعد حسن الحلي بالعطل
سقيت في منهج الرأي العثور فإن
…
قدرت من عثرات الدهر فاستقل
خدعت مارنك الأقنى بأنفك لا
…
ينفك ما بين أمر الشين والخجل [ص 72]
هدمت قاعدة المعروف عن عجل
…
سقيت مهلا أما تمشي على مهل «1»
لهفي ولهف بني الأملاك قاطبة
…
على فجيعتها في أكرم الدول
قدمت مصر فأولتني خلائفها
…
من المكارم وما أربى على أملي
قوم عرفت بهم كسب الألوف ومن
…
تمامها أنّها جادت ولم أسل
وكنت من وزراء الدست حيث سما
…
رأس الحصان بهاديه على الكفل
ونلت من عظماء الجيش مكرمة
…
وخلّة حرست من عارض الخلل
يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة
…
لك الملامة إن قصّرت في عذل
بالله جز ساحة القصرين وابك معي
…
عليهما لا على صفّين والجمل
وقل لأهليهما والله ما التحمت
…
فيكم جراحي ولا قرحي بمندمل
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة
…
في نسل آل أمير المؤمنين علي
وقد حصلتم عليها واسم جدكم
…
محمّد وأبوكم غير منتحل
مررت بالقصر والأركان خالية
…
من الوفود وكانت قبلة القبل
فملت عنها بوجه خوف منتقد
…
من الأعادي ووجه الودّ لم يمل
أسبلت من أسفي دمعي غداة خلت
…
رحابكم وغدت مهجورة السّبل
أبكي على خضرات من مكارمكم
…
حال الزمان عليها وهي لم تحل
دار الضيافة كانت أنس وافدكم
…
فالآن أوحش من رسم ومن طلل
وفطرة الصوم إن أضحت مكارمكم
…
تشكو من الدهر حيفا غير محتمل
وكسوة الناس في الفصلين قد درست
…
ورثّ منها جديد عندهم وبلي
وموسم كان في يوم الخليج لكم
…
يأتي تجملكم فيه على الجمل
وأول العام والعيدين كم لكم
…
فيهنّ من وبل جود ليس بالوشل
والأرض تهتز في يوم الغدير كما
…
تهتزّ ما بين قصريكم من الأسل
والخيل تعرض في وشي وفي شبه
…
مثل العرائس في حلي وفي حلل
وما حملتم قرى الأضياف من سعة
…
الأطباق إلّا على الأكتاف والعجل [ص 73]
وما خصصتم ببرّ أهل ملّتكم
…
حتّى عممتم به الأقصى من الملل
كانت رواتبكم للوافدين ولل
…
ضيف المقيم وللطاوي من الرسل
ثم الطرار بتنّيس التي عظمت
…
من الصّلات لأهل الأرض والدول
وللجوامع من أخماسكم نعم
…
لمن تصدّر في علم وفي عمل
وربّما عادت الدنيا فمعقلها
…
منكم وأضحت لكم محلولة العقل
والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم
…
ولا نجا من عذاب النار غير ولي
ولا سقي الماء من حرّ ومن ظمأ
…
من كفّ خير البرايا خاتم الرّسل
أئمّتي وهداتي والذخيرة لي
…
إذا ارتهنت بما قدّمت من عملي
تالله لم أوفهم في المدح حقّهم
…
لأنّ فضلهم كالوابل الهطل
ولو تضاعفت الأقوال واستبقت
…
ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل
باب النجاة فهم دنيا وآخرة
…
وحبّهم فهو أصل الدين والعمل
نور الهدى ومصابيح الدجى ومحل
…
الغيث إن وثب الأنواء في المحل
أئمّة خلقوا نورا فنورهم
…
من نور خالص نور الله لم يغل
والله لا زلت عن حبّي لهم أبدا
…
ما أخّر الله لي في مدّة الأجل
وذكر ابن الأثير أنه لما اشتد مرض العاضد، أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه ليوصيه، فظن أن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه فندم عليه وعلى تخلفه عنه.
وحكى مؤلف الروضتين قال: اجتمع بي الأمير أبو الفتوح ابن العاضد وهو محبوس مقيّد سنة ثمان وعشرين وست مائة، فأخبرني أبو الفتوح قال: إن أبي لما مرض استدعى صلاح الدين فحضر، ثم جمعنا وأحضرنا، يعني أولاده، ونحن صغار، فأوصاه بنا، فأكرم إكرامنا واحترامنا، قال قاضي القضاة جمال الدين محمد بن واصل لما جرى لمؤتمن الخلافة ما جرى، وقيل: وكل صلاح الدين بالقصر قراقوش الأسدي «1» ، وجعله بزمام [ص 74] القصر مقامه، فرتب في القصر، فما كان يدخل إلى القصر شىء ويخرج إلا بمرأى منه ومسمع، فضاق خناق أهل القصر بسببه، فلما مات العاضد، عرض صلاح الدين من بالقصر من الجواري والعبيد، والعدد والآلات، والذخائر النفيسة، فأطلق من ثبتت حريته، ووهب الباقي، وأخلى الدور، وأغلق القصور، وأخذ ما صلح له
ولأهله وأمرائه وخواص مماليكه وأصحابه من نفائس الذخائر والجواهر والملابس، ومن جملة ذلك الدرة اليتيمة والياقوتة الغالية القيمة، والمصوغات العنبر، والأواني الفضية، والصواني الصينية، والمنسوجات المغربية، والممزوجات الذهبية، وغير ذلك مما لم يقع عليه الإحصاء، وأسرف في العطاء والبذل، وأطلق البيع بعد ذلك فيما دون ذلك، واستمر البيع مدة عشر سنين، وكانت خزانة الكتب تزيد على مائة ألف وعشرين ألف مجلدة، وفيها من النفائس التي لا يكاد يوجد مثلها، ومنها ما هو مكتوب بالخطوط المنسوبة التي لا توجد في خزانة أحد من الملوك، فتملك صلاح الدين الأملاك التي كانت لهم، وضربت الألواح على رباعهم ودورهم، ثم ملك بعضها خاصته وأمراؤه، وبعضها أذن ببيعه، ووهب الفاضل من الكتب عن آخرها، وأزال مبسم تلك الأنام، ومحا رسوم تلك البنية، فتكدرت مواردهم المشرعة، وتعفّت آثارهم بالكليّة، إن في ذلك لموعظة وذكرى لأولي الألباب.
قال ابن مماتي «1» : ولم تشهد التواريخ بانقضاء دولة كانقضاء دولتهم على حالة سكون وأحمد قضية تكون، قال: واتفقت بعدهم غرائب، فمنها أن بعض أمراء المصريين صار نوّابا على باب داره في خدمة من أعطيت له، وآخر صار أمينا في بعض ما كان في إقطاعه، قال ابن مماتي: وجرى [ص 75] يوما
حديث المصريين في مجلس القاضي الفاضل، فسألته: كم كانت عدتهم في عرض ديوان الجيش لما كان متوليه أيام رزيك بن صالح؟ فقال: كانت أربعين ألف فارس ونيّفا وثلاثين ألف من السودان. وحكى أن الأمير الكبير باركوج اشترى من الديوان السلطاني عدة آدر وخرابات بمصر ليستعين بأنقاضها على عمايره، وكان من جملتها دار كبيرة وصفت له وذكرت عنده، فتوجه إليها، وتسرع الغلمان لإزعاج من فيها، فسمعهم يبكون فسئل عن ذلك، فقيل له:
هؤلاء بعض عيال المصريين، فلما أخرجوا من دورهم بالقاهرة آووا إلى هذه الدار، وهم لا يعرفون أين يذهبون إذا خرجوا، فبكى واستدعى بعضهم برفق وأطاب قلوبهم ووهبهم الدار، وكتب لهم خطة بها، وجعلهم على ثقة من التصرف فيها، وما فسح لهم في بيعها أن آثروا الانتفاع بها، وانصرف عنهم معتذرا. وقال ابن مماتي: حدثني الشريف النسابة النقيب أسعد بن الحواتي، قال: سكنت في مصر بدار عتيقة الأشرف، وكانت لي زوجة كنت أبات أنا وإياها في بادهنج بها، فاستيقظت ليلة فقالت: رأيت في النوم قائلا يقول لي: احفروا تحت الطيلسان الرخام الذي تحتكم وخذوا ما تجدونه من المال تنفقوا به، فقد آن ظهوره، فقلت لها أنا رجل فقير، وهؤلاء الأشراف لا يطاقون، وأخاف أن ينكسر الطيلسان في قلعه ولا نصيب شيئا فأتعجل الغرامة، ومنعتها منه بكل حيلة، ثم رأت المنام بعينه مرة أخرى، وجريت على العادة في الامتناع، ثم رأت المنام ثالثا وكأنه يقول لها: أنتم محرومون، وما مضت إلا أيام يسيرة حتى أحرقت مصر، فما شعرت إلا وجماعة كبيرة من السودان قد هجموا الدار وقصدوا البادهنج فقلعوا الطيلسان واستخرجوا من تحته سماوية نحاس يكون فيها قدر مائة ألف [ص 76] دينار فأغمي عليّ وكدت أقتل نفسي غيظا لما فاتني من الغنى، وسألتهم أن يعطوني ولو مائة دينار، فما فعلوا، وخرجوا كأنهم دخلوا دارهم وأخذوا مالهم.
وقال ابن مماتي: ومن غريب ما جرى في حريق مصر أن رجلا عمد إلى برنية «1» صير، فجعل فيها ألف دينار لتسلم من الريب، فما لبث أن هجم الغوغاء عليه بيته، فلم يكن له همّ إلا النجاة بنفسه، فتحامل إلى باب زويلة «2» ، فبينا هو قاعد يستريح، وإذا ببعض من كان هجم عليه ومعه برنية الصير، فاشتراها منه بدر همين، ثم ذهب فاستخرج منها الذهب، وشرى به جميع ما أخذ له، ولم يزل يضارب فيه حتى نما وارتزق به.
وقال ابن مماتي: حدثني القاضي الفاضل قال: كان من أهل مصر رجل وله ابنة مستحسنة، فلما أحرقت مصر ونهبت أموال أهلها، خرج إلى البر العربي، وسكن في بعض الضياع، وقعد في حانوت، واتفق لنائب القطع أن رأى الابنة فهويها فتعلق قلبه بها فضيق عليها وتعرض لها، فما ظفر بمقصوده، وخطبها من أبيها فما رضي أن يكون زوجا لها، فتسلط عليه وقصده وآذاه، ولم يزل يدقق عليه الحيل إلى أن كتب عليه وثيقة بعشرة دنانير إلى أجل مسمى، وقدر أنها تتعذر عليه، فجدّ «3» السبيل إلى أخذ البنت، قال: فلما كان في اليوم الذي يجب عليه فيه المبلغ، وقد أيس الرجل من نفسه، وأيقن بالشر، جاء إليه شاب فاشترى منه بدرهم عسلا وانثنى عنه، فسقطت منه خرقة مشدودة، فأخذها وحلها فوجد فيها عشرة دنانير، فأخفاها معه وقال: أخلّص بها نفسي من هذا الظالم، وأجتهد في تحصيل العوض وإيصاله إلى صاحبها، فلما كان غير ساعة حتى حضر إليه الخصم وطالبه، ورفعه إلى القاضي، فأعطاه العشرة دنانير التي وجدها، وأخذ الشهادة عليه بها، وعاد إلى حانوته وقد كفاه الله ما كان