الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
122- دولة ابنه هشام المؤيّد بن الحكم
امتدت الأيدي لمبايعته «1» ، وسنه لعشرة أعوام وغصنه ما أميطت من تمائمه الأكام، قوى عزيمة أبيه الحكم على العهد إليه النساء والخدم، فعهد إليه ثم داخله الندم، فما استحسن أن يخلع عن معطفيه ذاك الرداء، ولا أن يقطع عن المنابر من اسمه ذاك النداء، وقد كانت طوائف الشعراء عرّضت بذكر هشام لأبيه تقربا إلى خاطره، وتجنبا إليه أن لا يخرج عنه شطر مشاطره، فمنها قول محمد بن حسين الطنبي، مما يخاطب به أباه:
[الكامل]
حسّن به دين النبيّ محمد
…
وأقم به أود الزمان الأعوج
لهجت ببيعته النفوس فأخذها
…
من أوجب الأشياء لو لم تلهج
عود النبوة والخلافة عوده
…
فالفرع من تلك العروق الوشّج
وإذا تبلّج وجه صبح مقبل
…
فالشمس تحت ضيائه المتبلّج
هو زهرة الدنيا وباب سرورها
…
فاعهد وسرّ به البرية وابهج
وارم المشارق باسمه فليفتحن
…
ما بين مصر إلى بلاد الزّنج
يا ربّ بلّغه جميع رجائه
…
لأبي الوليد وزده ما لم يرتج «1» [ص 328]
ليدم سراج الله في هذا الورى
…
فضياؤه من نور [هـ] المسرّج
وفيه يقول أيضا:
[الكامل]
وأشد بذكر أبي الوليد فشد به
…
مجدا هشاميا وعزّا أغبطا
ما فوق بيعته مدى أمنية
…
فيمن تسامى في المنى وتشططا
نعم الذخيرة للعزائم ينتضى
…
دون الخلافة والمنابر تمتطى
نظرت قريش في كريم نظامها
…
فرأته منها في القلادة أوسطا
هي بيعة الرضوان تحيي كل من
…
أصفى ويقبل سعيها من خلّطا
اربط به الأيدي فإن قلوبنا
…
مكفيّة بودادها أن تربطا
شرطت محبّته على أهل النّهى
…
ما لا يكاد موثق أن يشرطا
ثم لما مات الحكم المستنصر، وبويع ابنه هشام المؤيد، لان جانبه حتى ذلّ، وكثر حلمه حتى قل، وعقد انتقامه بالعفو فحل واستقام بقدمه على منهج المسالمة، فزلّ على أنه أول من بويع بالخلافة، كان يخلط بالعسل صابه، وبالشفاء أوصابه، وفيه قال محمد بن شخيص:
[الطويل]
وجدنا هشاما للأئمة عاشرا
…
إذا كمل التسعين فالملك تاسع
أتانا بتصديق الرواية مذ أتى
…
به أوّل الشهب الدراري رابع
فسارت بأعراق النجابة إذ سرت
…
من الحكم المهدي فيه طبائع
يحلّ به نجم على أنجم الدّجى
…
منيف ومن شرخ الخلافة طالع
ومن فخره أن العبيد بظله
…
ملوك كما أن الملوك صنائع
وشافع آمال البرية إنها
…
إلى عهده المأمول صور نوازع
وكان المؤيد هشام مغلبا منذ ولي استحجب المنصور أبا عامر محمد بن عامر «1» ، فحجبه وقام دونه، ثم استحجب ابنه المظفر عبد الملك بن محمد بن عامر، فسلك سبيل أبيه، ثم استحجب أخاه عبد الرحمن، وكان ثالثهما، وغزا أسابيه، وأوغل في بلاد الجلالقة، فلم يقدم ملكها على لقائه، وتحصن منه في رؤوس الجبال، ولم [ص 329] يقدر عبد الرحمن على اتباعه لزيادة الأنهار، وكثرة الثلوج، فأثخن في البلاد التي وطئها، وخرج موقورا، فبلغه في طريقه ظهور محمد بن هشام»
بن عبد الجبار بن الناصر بن عبد الرحمن بقرطبة، وأخذه
المؤيد أسيرا، ففرق عنه عسكره، ولم يبق إلا في خاصته، فسار إلى قرطبة ليلاقي ذلك الخطب، فخرج عسكر محمد بن هشام فقتلوه وحملوا رأسه إلى قرطبة، وطافوا به، ثم صلبوه، وكان ظهور محمد بن هشام بن عبد الجبار ومعه اثنا عشر رجلا، فبايعه الناس، وتلقب بالمهدي، وملك قرطبة، وأخذ المؤيد وتركه في محبسه حيث لا جليس سوى رجع نفسه، وقام هذا محمد بن هشام بن عبد الجبار بالأمر مستبدا لرأيه، مستمدا إلى أن قتل تلك القتلة الشنيعة، وكانت مدة استيلائه ستة عشر شهرا بزّ بها سرير الملك قهرا، ونجسه لو لم يجد له نجاء الماضيات طهرا.
حكى ابن الأثير «1» : أن محمد بن هشام «2» بن عبد الجبار أخذ المؤيد وحبسه معه في القصر، ثم أخرجه وأخفاه، وأظهر أنه مات، وقد كان مات
إنسان نصراني يشبه المؤيد، فأبرزه للناس في شعبان، وذكر لهم أنه المؤيد، فلم يشكوا في موته، وصلوا عليه ودفنوه في مقابر المسلمين، ثم إنه أظهره على ما نذكره، وأكذب نفسه، وكانت مدة المؤيد هذه إلى أن حبس ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر.
وخرج هشام بن سليمان بن الناصر عبد الرحمن، لأن أهل الأندلس أبغضوا ابن عبد الجبار، فأخرجوه من داره وبايعوه ولقبوه بالرشيد، في شوال سنة تسع وتسعين، واجتمعوا بظاهر قرطبة، وأحضروا ابن عبد الجبار، وترددت الرسل بينهم ليخلع ابن عبد الجبار من الملك، على أن يؤمنه وأهله، ثم إن ابن عبد الجبار جمع أصحابه، وأخذ هشاما أسيرا فقتله ابن عبد الجبار، وكان عم هشام، ثم إن سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر، وهو ابن أخي هشام المقتول، خرج وتلقب بالمستعين، ثم تلقب بالظاهر، وساروا إلى النصارى فأنجدوهم، وساروا معهم إلى قرطبة، فاقتتل هو وابن عبد الجبار بقنتيج «1» وهي الوقعة المشهورة عزوا إليها، وقتل [ص 330] ما لا يحصى، فانهزم ابن عبد الجبار، وتحصن بقصر قرطبة، ودخل سليمان القصر، وبايعه الناس بالخلافة في شوال سنة أربع مائة، وبقي بقرطبة أياما وكان عدة القتلى بقنتيج نحو خمسة وثلاثين ألفا، ثم لما أخفى ابن عبد الجبار سار سرا إلى طليطلة، وأتاه واضح العامري في أصحابه، وجمع لهم النصارى وسار بهم إلى قرطبة، فخرج إليهم سليمان، فالتقوا بقرب عقبة الورق، واقتتلوا أشد قتال، فانهزم سليمان ومن معه منتصف شوال سنة أربع مائة. ومضى سليمان إلى شاطبة ودخل ابن عبد الجبار قرطبة، وجدد البيعة لنفسه، وجعل الحجابة لواضح، وتصرف بالاختيار.
ثم إن جماعة من الفتيان العامرية، منهم عنبر وعمرون وغيرهما كانوا مسلمين، فأرسلوا إلى [ابن] عبد الجبار يطلبون قبول طاعتهم، وأن يجعلهم في جملة رجاله، فأجابهم إلى ذلك، وإنما فعلوا هذا مكيدة به ليقتلوه، فلما دخلوا قرطبة واستمالوا واضحا، فأجابهم، فلما كان تاسع ذي الحجة سنة أربع مائة اجتمعوا بالقصر فملكوه وأخذوا ابن عبد الجبار أسيرا، وأخرجوا المؤيد من محبسه، وأجلسوه في صدر مجلسه، وبايعوه بالخلافة بيعة ثانية، وتابعوه سرا وعلانية، وأحضروا ابن عبد الجبار بين يديه، فعدد ذنوبه عليه، ثم قتله وطيف برأسه في قرطبة، وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة.
قلت: وهذه الأخبار شرطها كان أن تذكر مفصلة، وقد ذكرناها الآن مجملة، لتعلق بعضها ببعض، وسأذكر ما تخلل في أنباء دولة هشام المؤيد بتراجم مفردة، ثم ألمّ بذكر هشام المؤيد ثانيا، حيث عادت دولته، وأنبهت إليه في الملك ثانيا نوبته.
حكى ابن الأثير في حوادث سنة أربع مائة، وقد ذكر عود هشام المؤيد ما معناه: وكان عوده تاسع ذي الحجة، وكان الحكم في دولته إلى واضح العامري، وأدخل إليه أهل قرطبة، فوعدهم ومناهم، وكتب إلى بربر سليمان بن الحكم، ودعاهم إلى الطاعة فلم يجيبوه، فأمر بالاحتياط، ثم شعر بأن نفرا من الأمويين، قد اجتمعوا فركب هشام إليهم، فعاد البربر واستنجدوا بملك الفرنج، فأرسل يعلم هشاما بذلك ويستنزله [ص 331] عن حصون تجاوره، ففعل، فيئس البربر من إنجاد الفرنج، فنزلوا قرب قرطبة، وجعلت خيلهم تغير يمينا وشمالا، فعمل هشام على قرطبة أمام السور الكبير سورا وخندقا، ثم نازل سليمان قرطبة، ثم الزهراء، فسلمه بعض الحفظة باب الزهراء «1» ، فملكها، واشتد الأمر بقرطبة، وظهر في