المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الرابع والعشرون]

- ‌المقدمة

- ‌مؤلف الكتاب:

- ‌علمه وأدبه:

- ‌وصف مخطوطة الكتاب:

- ‌الكتاب ومنهج مؤلفه:

- ‌منهج التحقيق:

- ‌[دولة حسنيين]

- ‌1- ذكر دولة المهديّ

- ‌2- ذكر دولة أخيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن

- ‌ذكر بني طباطبا

- ‌3- محمّد بن إبراهيم العلويّ

- ‌4- الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن طباطبا

- ‌5- محمّد المرتضى

- ‌6- أحمد النّاصر ابن الهادي

- ‌7- ذكر دولة القائم بالمدينة أبي عبد الله محمّد بن الحسن

- ‌8- ذكر دولة السّفّاك إسماعيل

- ‌9- ذكر دولة الكبير ومنهم أهل الينبع

- ‌10- أبو عزيز قتادة بن إدريس

- ‌11- النّاهض بأمر الله محمّد بن سليمان بن داود

- ‌12- أبو الفتوح الحسن بن جعفر

- ‌ذكر الدّولة الطّبرستانيّة

- ‌13- الدّاعي إلى الحقّ

- ‌14- القائم بالحقّ

- ‌15- المهديّ أبو محمّد

- ‌ذكر دولة الأخضريّين

- ‌ذكر دولة الأدراسة ببلاد المغرب

- ‌16- إدريس المغرب

- ‌17- إدريس بن إدريس

- ‌18- القاسم بن إدريس

- ‌19- دولة النّاصر عليّ بن حمّود

- ‌20- المأمون

- ‌21- ذكر دولة المعتلي أبي إسحاق يحيى بن عليّ بن حمّود

- ‌22- ذكر دولة المتأيّد أبي العلى

- ‌23- ذكر دولة القائم أبي زكريّاء

- ‌24- ذكر دولة المستنصر أبي محمّد

- ‌25- ذكر دولة أخيه العالي

- ‌26- ذكر دولة المهديّ

- ‌27- ذكر دولة الموفّق

- ‌28- دولة المستعلي

- ‌29- ذكر دولة المهدي محمّد بن تومرت

- ‌30- فأما دول بني الحسين بن عليّ

- ‌ذكر الدّولة العبيديّة

- ‌31- المهديّ بالله

- ‌32- القائم بأمر الله

- ‌33- المنصور بالله

- ‌34- المعزّ لدين الله

- ‌35- العزيز بالله

- ‌36- الحاكم بأمر الله

- ‌37- الظّاهر بإعزاز دين الله

- ‌38- المستنصر بالله

- ‌39- المستعليّ

- ‌40- الآمر بأحكام الله

- ‌41- الحافظ لدين الله

- ‌42- الظّافر بأمر الله

- ‌43- الفائز بنصر الله

- ‌44- العاضد لدين الله

- ‌[دولة الحسينيين]

- ‌45- ذكر دولة الزّيّديّ القائم بالكوفة

- ‌46- ذكر دولة محمّد بن جعفر الصّادق

- ‌47- ذكر دولة الزّنجيّ

- ‌48- ذكر دولة القرامطة وأوّلهم ذكر فرية قرمط

- ‌49- يحيى بن قرمط

- ‌50- الحسين بن قرمط

- ‌51- أحمد بن الحسين

- ‌52- الحسن بن بهرام الجنّابيّ القرمطيّ

- ‌53- سليمان بن الحسن بن بهرام الجنّابيّ القرمطيّ

- ‌54- الأعصم

- ‌وهذه الدّولة العبّاسيّة

- ‌55- دولة السّفّاح

- ‌56- دولة المنصور

- ‌57- دولة المهديّ

- ‌58- دولة الهادي

- ‌59- دولة الرّشيد

- ‌60- دولة الأمين

- ‌61- دولة المأمون

- ‌62- دولة المعتصم بالله

- ‌63- دولة الواثق بالله

- ‌64- دولة المتوكّل على الله

- ‌65- دولة المنتصر بالله

- ‌66- دولة المستعين بالله

- ‌67- دولة المعتزّ بالله

- ‌68- دولة المهتدي بالله

- ‌69- دولة المعتمد على الله

- ‌70- دولة المعتضد بالله

- ‌71- دولة المكتفي بالله

- ‌72- دولة المقتدر بالله

- ‌73- وأمّا خروج عبد الله بن المعتزّ عليه

- ‌74- دولة القاهر بالله

- ‌75- دولة الرّاضي بالله

- ‌76- دولة المستكفي بالله

- ‌77- دولة المطيع لله

- ‌78- دولة الطّائع لله

- ‌79- دولة القادر بالله

- ‌80- دولة القائم بأمر بالله [ص 170]

- ‌81- دولة المقتدي بأمر بالله

- ‌82- دولة المستظهر بالله

- ‌83- دولة المسترشد بالله

- ‌84- دولة الرّاشد بالله

- ‌85- دولة المقتفي بأمر بالله

- ‌86- دولة المستنجد بالله

- ‌87- دولة المستضىء بأمر بالله

- ‌88- دولة النّاصر لدين الله

- ‌كم بذي الدوح أثلة من قضيب

- ‌89- دولة الظّاهر بأمر الله

- ‌90- دولة المستنصر بالله

- ‌91- دولة المستعصم بالله

- ‌[الخلفاء العباسيون في مصر]

- ‌92- المستنصر بالله

- ‌93- الحاكم بأمر الله

- ‌94- المستكفي بالله

- ‌95- الواثق بالله

- ‌96- الحاكم بأمر الله

- ‌[صورة المبايعة للحاكم]

- ‌وهذه الدولة الأموية

- ‌97- دولة معاوية بن أبي سفيان

- ‌98- دولة ابنه يزيد بن معاوية

- ‌99- دولة معاوية بن يزيد بن معاوية

- ‌100- عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه

- ‌101- دولة مروان بن الحكم

- ‌102- دوّلة ابنه عبد الملك بن مروان

- ‌103- عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه

- ‌104- دوّلة ابنه الوليد بن عبد الملك

- ‌105- دوّلة سليمان بن عبد الملك بن مروان

- ‌106- دوّلة عمر بن عبد العزيز

- ‌107- دوّلة يزيد بن عبد الملك بن مروان

- ‌108- دوّلة هشام بن عبد الملك

- ‌109- دوّلة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

- ‌110- دولة يزيد بن الوليد بن عبد الملك

- ‌111- دولة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك

- ‌112- دولة مروان بن محمّد

- ‌الدولة الأموية بالأندلس

- ‌113- دولة عبد الرّحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان

- ‌114- دولة ابنه هشام بن عبد الرّحمن [ص 310]

- ‌115- دولة ابنه الحكم بن هشام الرّبضيّ

- ‌116- دولة ابنه عبد الرّحمن بن الحكم

- ‌117- دولة ابنه محمّد بن عبد الرّحمن

- ‌118- دولة ابنه المنذر بن محمّد

- ‌119- دولة أخيه عبد الله بن محمّد

- ‌120- دولة ابن ابنه عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الله بن محمّد النّاصر

- ‌121- دولة ابنه الحكم المستنصر بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌122- دولة ابنه هشام المؤيّد بن الحكم

- ‌123- دولة محمّد المهديّ بن هشام بن عبد الجبّار بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌124- دولة سليمان بن الحكم المستنصر بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌125- دولة المستظهر عبد الرّحمن بن هشام

- ‌126- دولة محمّد بن عبيد الله بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌127- دولة هشام بن محمّد بن عبد الملك بن عبد الرّحمن النّاصر

- ‌مصادر التحقيق

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌59- دولة الرشيد

وعشرون سنة «1» ، وكانت مدته سنة وأربعة أشهر، وقيل دونها، وقبره ببغداد.

ثم:

‌59- دولة الرّشيد

أبي جعفر هارون بن محمد المهدي «2» ، وهو الذي لم يستقص لأحد من الخلفاء مثله، ولا شاع نظيره، حتى إن العامة تنسب إليه كل حكاية تحكى عن الخلفاء الأمويين والعباسيين، وتنتحل له ما فعله غيره، وتتمحل له ما لا فعله هو ولا أحد سواه، وما ذاك إلا لكثرة محاسن أيامه، ومن كان فيها من أفاضل الناس، كالبرامكة في الكرماء ومالك والشافعي وأحمد ونظرائهم في العلماء، وغير هؤلاء مما لا يسع هذا الموضع استقصاؤهم، ولا يدع عددهم الجم أن يمكن إحصاؤهم، من أعيان الكبراء وحذاق الشعراء والمجودين في الغناء والمجدين من أهل النجدة والغنى، وكانت أيام دولته مجمع الأفاضل [ص 123] ومطلع نجم كل

ص: 207

فاضل، وكان أول من سنّى الجوائز، وسنّ عوائد الكرم، وقسم للخير زمانه، ووسم في غرر الدهر إحسانه، كان لا يزال في حج أو جهاد، ولا يزل عن ذرى مطية أو جواد، قد ضرب بسهم في كل فضيلة، وقسم من كل جميلة، وقد ذكر ابن عبدوس أن الكلف كانت قليلة في أيامه، فإنه ما زاد المقررات كبير زيادة على ما كان، إلا أنه كان يهب هبات لا ينهض بها عبء إمكان، فإذا أعطى استوصلت البحار، واستبسلت بعجزها الأمطار، ووسع عقود المنن، ووسّع برود دولته بمحاسن السنن، وآثاره في غزو بلاد الروم ظاهرة، وأخباره فيها لوامع في أيامه الزاهرة، وكذلك لم يخل الترك من غزوات سلت في وجوههم السيف، وسلطت عليهم حتى الطيف، إلا أن قضية البرامكة جرحت القلوب ونفّرتها، وقرحت العيون وأسهرتها، ثم ندم عليهم ندما أكل عليه يديه، وقرع سنّه مما جرى بسببهم عليه، على أن الندم لا يرد به فائت، ولا يصح به من هو في القبور بائت.

وذكر أن الرشيد كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاتها، وكان إذا حج أحج معه من الفقهاء وأبنائهم، فإذا لم يحج أحج ثلاث مائة رجل بالنفقة السابغة، والكسوة الطاهرة، وكان يقتفي أخلاق المنصور، إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه لولي، ثم المأمون بعده، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في كل ما يحب ثواب، وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويقول: هو شىء لا نتيجة له، وبالأولى أن لا يكون فيه ثواب، وكان لا يحب إلا المديح، ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي الربيح، ودخل عليه مروان بن أبي حفصة فأنشده شعره الذي يقول فيه:«1» [ص 124]

ص: 208

[الطويل]

وسدّت بهارون الثغور فأحكمت

به من أمور المسلمين المرائر

وكلّ ملوك الروم أعطاه جزية

على الرغم قسرا عن يد وهو صاغر

لقد ترك الصفصاف هارون صفصفا

كأن لم يدمّثه من الناس حاضر

تسوق يداه من قريش كرامها

وكلتاهما بحر على الناس زاخر

أمور بميراث النبي وليتها

فأنت لها بالحزم طاو وناشر

عليّ بني ساقي الحجيج تتابعت

أوائل من معروفكم وأواخر

فأصبحت قد أيقنت أن لست بالغا

مدى شكر نعمائكم وإني لشاكر

حصون بني العباس في كل مارق

صدور العوالي والسيوف البواتر

فطورا بهارون القواطع والقنا

وطورا بأيديهم تهزّ المخاصر

بأيدي عظام النفع والضر لا يني

بهم للعطايا والمنايا بوادر

ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم

أسرته مختالة والمنابر

أبوك ولي المصطفى دون هاشم

وإن رغمت من حاسديك المناخر

فأعطاه خمسة آلاف دينار، وكساه خلعة، وأمر له بعشرة من رقيق الدوم، وحمله على فرس من خاص مراكبه.

وذكر أنه كان مع الرشيد ابن أبي مريم المدائني، وكان مضحكا له محادثا فكها، كان لا يصبر عنه، ولا يمل محادثته، وبوّأه منزلا من قصره، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة، فألفاه نائما، فكشف اللحاف عن ظهره وقال: كيف أصبحت؟ وقال: يا هذا ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قال: ويلك قم إلى الصلاة، قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي، فمضى وتركه نائما، وتأهب الرشيد للصلاة، فجاءه غلامه فقال: يا أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام

ص: 209

وألقى عليه ثيابه ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ:(وما لي لا أعبد الذي فطرني)«1» فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله، وقد ملكك الدنيا كلها، فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته [ص 125]، ثم التفت إليه وهو كالمغضب وقال: يا ابن أبي مريم، في الصلاة أيضا، قال: يا هذا وما صنعت، قال: قطعت عليّ صلاتي، قال: والله ما فعلت، وإنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت: وما لي لا أعبد الذي فطرني، وقد ملكك الدنيا، فقلت لا أدري والله، فضحك الرشيد، ثم قال له: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.

وذكر زيد بن علي الحسيني أن الرشيد [أراد] أن يشرب دواء فقال له يا بن أبي مريم هل لك أن تجعلني حاجبك إذا أخذت الدواء وكل شىء أكتسبه بيني وبينك، فقال: أفعل، وبكر ابن أبي مريم ووضع له الكرسي، وأخذ الرشيد الدواء، فجاء رسول أم جعفر يسأل عنه، فأوصله إليه، وعرفه حاله وانصرف بالجواب وقال: اعلم السيدة بما فعلت في الإذن لك قبل الناس، فأعلمها فبعثت إليه بمال كثير، ثم جاء رسول يحيى بن خالد، ففعل به مثل ذلك، ثم جاء رسول جعفر والفضل، ففعل ذلك، فبعث إليه كل واحد من البرامكة بصلة جزيلة، ثم جاء رسول الفضل بن الربيع فرده، وجاءت رسل القواد والعظماء، فما سهل إذن أحد منهم، إلا بصلة جزيلة، فما صلى العصر حتى صار إليه ستون ألف دينار، فلما نقي الرشيد، فقال له: ما صنعت في يومك هذا؟ قال:

يا سيدي، كسبت ستين ألف دينار، فقال: أين حاصلي، قال: معزول، قال:

لا وقد وهبته لك، ولكن اهد لي عشرة آلاف تفاحة.

وذكر مصعب بن عبد الله الزبيري، عن أبيه: أن الرشيد قال له: ما تقول

ص: 210

في الذين طعنوا على عثمان؟ قال: قلت يا أمير المؤمنين، طعن عليه ناس، وكان معه ناس، فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه، وأما الذين كانوا معه، فهم أهل الجماعة إلى اليوم، فقال لي: ما أحتاج أن أسأل بعد اليوم عن هذا، وذكر عنه قال: سألني الرشيد: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقلت: كانت منزلتهما منه في حياتهما منزلتهما [ص 126] في مماته، فقال:، كفيتني فيما أحتاج إليه، وسئل مالك بن أنس عن هذا أيضا فقال له مثل هذا القول: منزلتهما منه في حياته مثل منزلتهما منه في مماته، فقال له: شفيتني يا مالك شفيتني يا مالك.

وذكر الليث بن عبد العزيز الجوزجاني عن بعض الحجبة، أن الرشيد دخل الكعبة، وقام على أصابعه وقال: اللهم يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك ردا حاضرا، وجوابا عتيدا، وبكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، صلّ على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا، وكفّر عنا سيئاتنا، يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا، يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه الأسماء الحسنى، صلّ على محمد وعلى آل محمد، وخر لي في جميع أموري، يا من خشعت له الأصوات بأنواع اللغات، يسألونك الحاجات، إن من حاجتي عندك أن تغفر لي إذا توفيتني، وصرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي، اللهم لك الحمد حمدا يفضل كل حمد، كفضلك على جميع الخلق، اللهم صلّ على محمد صلاة تكون له رضى، وصلّ على محمد صلاة تكون له جزاء وأجزه عنا الجزاء الأوفى، اللهم أحينا سعداء، وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياء محرومين، وكان يقول: والله إني لأعرف في عبد الله، يعني

ص: 211

المأمون حزم المنصور، ونسك المهدي، وعز نفس الهادي، ولو شئت أنسبه إلى الرابع لفعلت، يعني نفسه، وفي ذلك يقول:

[الطويل]

لقد بان وجه الرأي لي غير أنني

غلبت على الأمر الذي كان أحزما

وكيف يردّ الدّر في الضرع بعدما

توزع حتى صار نهبا مقسما

أخاف التواء الأمر بعد استوائه

وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما

واصطبح الرشيد قرب رمضان وقد قرب أن يرسي به زورق هلاله، فكتب إلى جعفر بن يحيى:[ص 127][الخفيف]

سل عن الصوم ابن يحيى تجده

راحلا نحونا من النهروان

فأتنا نصطبح ونله جميعا

لثلاث بقين من شعبان

فأجابه في رقعة كتبها، ثم ركب إليه واستصحبها، فلما قرأها الرشيد استطار قلبه، واستبشر بها ساعفه «1» (ساعة) قربه، وكان فيها:

[الخفيف]

إنّ يوما كتبت فيه إلى عب

دك يوم يسود كلّ زمان

فاغتبق واصطبح فقد صانني

الله إذا صنتني من الحدثان

وكان الرشيد بعد هذا يقول لما قتله تلك القتلة التي شوّه بها الجود، ونبه بها دمه للطلول بسلاف العنقود، والله ما صانه الله لي من الحدثان، بل كمنت له كمون الأفعوان في أصول الريحان، فلما تعرض للشم قابله بالسم، وسيأتي ذكر جعفر في موضعه، وكان الرشيد قد حبس أبا العتاهية وجعل عليه عينا يأتيه

ص: 212

بما يقول، فأخبره يوما أنه كتب على الحائط:«1»

[الوافر]

أما والله إنّ الظلم لوم

وما زال المسيء هو الظلوم

إلى ديّان يوم الدين نمضي

وعند الله تجتمع الخصوم

فاستحضره الرشيد واستحله وأعطاه ألف دينار، ثم أمر بمجلس فزخرف، وبالطعام فأحضر، وأحضر أبا العتاهية فقال له: صف ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فقال:«2»

[مجزوء الكامل]

عش ما بدا لك سالما

في ظل شاهقة القصور

يسعى عليك بما اشتهيت

لذي الرواح وفي البكور

فقال: ثم ماذا، فقال:

وإذا النفوس تقعقعت

في ضيق حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقنا

ما كنت إلا في غرور

فبكى الرشيد، فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته، فقال: يا فضل، دعه، وإنّا في عمى، فكره أن يزيدنا.

وعن القاضي [ص 128] أبي يوسف «3» قال: بينا أنا البارحة قد أويت إلى

ص: 213

فراشي، فإذا هرثمة بن أعين «1» يدق الباب دقا شديدا، فكلمته فقال: أجب أمير المؤمنين، فسألته الإمهال إلى غد، فقال: ما إلى هذا سبيل، فاغتسلت وتحنطت، ثم صرنا إلى الرشيد، وإذا بعيسى بن جعفر بن المنصور على يمينه، فسلمت، فرد السلام، ثم قال: أظننا روعناك، قلت: إي والله وكذلك من خلفي، قال: اجلس، فجلست حتى سكن روعي، ثم التفت إليّ فقال: أتدري لم دعوتك؟ فقلت: لا، قال: دعوتك لأشهدك على هذا، إني سألته جارية عنده أن يهبها لي فامتنع، فسألته أن يبيعها فأبى، وو الله لئن لم يفعل لأقتلنّه، فالتفت إلى عيسى وقلت: وما تبتغي بجارية تمنعها أمير المؤمنين؟ فقال: عجلت عليّ قبل أن تعرف ما عندي، قلت: فما الذي عندك؟ قال: إنّ عليّ يمينا بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أن أبيع هذه الجارية ولا أهبها، فقلت: تهب له نصفها وتبيعه نصفها فتكون لم تهب ولم تبع، فقال: أشهدك أني وهبته نصفها وبعته نصفها بمائة ألف دينار، ثم أتى بالجارية وأخذ المال، فقال الرشيد:

بقيت واحدة، فقلت: ما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: إنها مملوكة ولابد لها من الاستبراء، وو الله إن لم أبت معها ليلتي، إني أظن أنّ نفسي ستخرج، قلت: يا

ص: 214

أمير المؤمنين، تعتقها وتتزوجها، فإنّ الحرة لا تستبرأ، قال: قد أعتقتها، فمن يزوجنيها؟ قلت: أنا، قال: افعل، فدعا بمسرور وحنين الخادمين، فخطبت فحمدت الله ثم زوجته بها على عشرين ألف دينار، ودفع إليه المال، ثم قال:

انصرف الآن، وأمر لي بمائتي ألف درهم، وعشرين تختا ثيابا، فحمل ذلك معي، فالتفت إليّ هرثمة وقال: فأين حقي؟ فقلت: خذ العشر، ثم إذا بعجوز فدخلت فقالت: يا أبا يوسف، إن ابنتك تقرئك السلام وتقول: لك ما وصل إليّ من أمير المؤمنين إلا المهر، وقد حملت إليك النصف وتركت الباقي لما تحتاج إليه، فو الله لا قبلته، أخرجتها من الرق وزوجتها [ص 129] أمير المؤمنين وترضى لي بهذا، فلم تزل بي الجماعة حتى قبلت، وأمرت لهرثمة منها بألف دينار أخرى.

وذكر محمد بن علي، عن أبيه قال: دخلت على الرشيد في دار عون العبادي، فإذا هو في هيئة الصيف في بيت مكشوف، وليس فيه فرش وغلالة رقيقة عليه وإزار عريض الأعلام، وكان لا يجلس في بيت الخيش، لأنه كان يؤذيه إفراط الهواء، ولكنه كان يجلس ظاهره فيأتيه برد الخيش، وكان له تغار من فضة يعمل فيه الطيب والزعفران والأفاويه وماء الورد، ثم يدخل إلى بيت مقيله، ويدخل سبع غلائل قصب رشدية تقطيع النساء تغمس الغلالة في ذلك الطيب، ويؤتى في كل يوم بسبع جوار، فيخلع عن الجارية ثيابها ثم يخلع عنها غلالة، ويجلس على كرسي مثقب، فيرسل الغلالة على الكرسي متحللة، ثم يبخر من تحت الكرسي بالعود المدرج في العنبر ابدا حتى يجف القميص عليها، يفعل ذلك بهن ويغلق البيت فيعبق بالبخور والطيب.

وذكر بعضهم أنهم كانوا مع الرشيد بالرقة، فخرج يوما إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لابن نهيك: خذه إليك حتى أنصرف، فلما رجع هارون أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل

ص: 215

وشرب، دعا به فقال: يا هذا، انصفني في المخاطبة والمسألة،

قال: قل ما تحب، قال: فأخبرني أيما أشر «1» وأخبث، أنا أم فرعون، قال:

بل فرعون قال أنا ربكم الأعلى، وما علمت لكم من إله غيري، قال:

صدقت، قال: فأخبرني فمن خير أنت أم موسى بن عمران، قال: موسى كليم الله وصفيه اصطنعه لنفسه، وائتمنه على وحيه، وكلمه من خلقه، قال:

صدقت، أفما تعلم أنه لمّا بعثه الله وأخاه إلى فرعون قال لهما: فقولا قولا لينا، وهذا في عتوه وجبروته «2» على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحال التي تعلم أكثر فرائض الله أؤديها ولا أعبد سواه، أقف عند أكثر حدوده [ص 130] فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأبشعها، وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيا، فقال الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين وأنا استغفر الله، قال: قد غفر الله لك، وأمر له بعشرين ألف درهم، فقال: لا حاجة لي بالمال، فزجره هرثمة، فقال له الرشيد: أمسك عنه، ثم قال له: لم نعطك المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا ألا يخاطب الخليفة أحد إلا وصله، فاقبل من صلتنا ما شئت، فضعها حيث أحببت، فأخذ من المال ألفي درهم، وفرقها على من حضره.

وذكر ابن بختيشوع «3» قال:

ص: 216

كنت مع الرشيد بالرقة «1» ، وكنت أول من يدخل عليه فأتعرف خبره في ليلته، ثم ينبسط فيحدثني بخبر جواريه ومجلسه وشربه، ثم يسألني من أخبار العامة وأحوالها، فدخلت عليه في غداة يوم، فرأيته عابسا مفكرا مغموما، فوقفت بين يديه مليا وهو على تلك الحال، فلما طال ذلك أقدمت عليه فقلت:

يا سيدي، جعلني الله فداك، ما حالك هكذا، فأخبرني بها، فلعله يكون عندي دواؤه، فقال: ويحك يا جبريل، ليس غمي وفكري لشىء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه فأفزعتني، وملأت صدري، وأقرحت قلبي، فقلت: فرّجت عني يا أمير المؤمنين، فدنوت فقبلت رجله وقلت: هذا الهمّ كله لرؤيا، والرؤيا إنما تكون في خاطر أو من بخارات ردية من تهاويل السوداء، وإنما هي أضغاث أحلام بعد هذا كله، فقال: أنا أقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها، وكف أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها، فقلت: وأين هذه التربة، فقال: بطوس وغابت اليد، وانقطع الكلام، فقلت «2» : يا سيدي أحسبك لما أخذت مضجعك فكرت في خراسان، وما ورد عليك من انتقاضها، قال: قد [ص 131] كان ذلك، قال فقلت:

فلذلك رأيت هذه الرؤيا، وما برحت أطيب نفسه بضروب من الحيل حتى سلا وانبسط، وأمر بإعداد ما يشتهيه ذلك اليوم في لهوه، ومرت الأيام، فنسي ونسينا تلك الرؤيا، فما خطرت لأحد منا ببال، ثم قدر مسيره إلى خراسان حين تحرك رافع، فخرج فلما صار في بعض الطريق ابتدأت به العلة، فلم تزل تزيد

ص: 217

حتى دخلنا طوس، فنزل في منزل لحميد بن عبد الحميد، في ضيعة له تعرف بسر آباد، فبينا هو يمرض في البستان في ذلك القصر، إذ ذكر تلك الرؤيا، ووثب متحاملا، يقوم ويسقط، فاجتمعنا إليه، كل يقول له: يا سيدي ما حالك، وما دهاك، فقال: يا جبريل، تذكر رؤياك بالرقة في طوس، ثم رفع رأسه إلى مسرور، فقال: جئني من تربة هذه الأرض، فجاءه بها في كفه، حاسرا عن ذراعيه، فلما نظر إليه قال: هذه والله الذراع التي أريتها في منامي، وهذه والله الكف بعينها، وهذه والله التربة الحمراء، ما خرمت شيئا، وأقبل على البكاء والنحيب، ثم مات بعد ثالثة، ودفن في ذلك البستان.

وذكر علي الربعي عن أبيه قال: لما وصل الرشيد إلى طوس قال: احفروا لي قبرا قبل أن أموت، فحفر له، فقال: احملني، فحملته في قبّة أقود به، حتى إذا نظر إليه قال: يا بن آدم، تصير إلى هذا، قالوا: ولما فرغ من حفر القبر أنزل فيه قوما فقرأوا فيه القرآن، حتى ختموا، وهو في محفة على شفير القبر.

قال الطبري: ومات هارون وفي بيت المال تسع مائة ألف ألف ونيّف، وقال أبو الشيص يرثي الرشيد:«1»

[مجزوء الرمل]

غربت في الشرق شمس

فلها العينان تدمع

ما رأينا قطّ شمسا

غربت من حين تطلع

وقال أبو نواس:

[مجزوء البسيط]

جرت جوار بالسعد والنّحس

فنحن في مأتم وفي عرس [ص 132]

ص: 218