الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن رأس الحمار «1» طبيب عمه عبد العزيز بن مروان، وكان من أهل الإسكندرية، فتراطنا بالرومية، فقال أحدهما لصاحبه: ما تؤوّله؟ قال: السلّ، قال: صدقت، ودعا له صاحب موسى بفرخ، فطبخ، وألقى عليه مرقة دواء، وحشّاه منه جرعا، فلم يثبت في جوفه وقاءه، وقال: لا أرى هذا وافقك، وعندي [ص 273] ما هو أسهل منه، وأنا آتيك به غدا، فخرج من عنده وقال:
والله لا يصبح حيا، فمات في السحر، وتوفي سنة ست وتسعين، وهو ابن تسع وأربعين، وملك تسع سنين، ودفن خارج باب الصغير بدمشق، وكان نقش خاتمه: اذكر الموت يا وليد، وقيل: بل كان: يا وليد إنك ميت.
ثم:
105- دوّلة سليمان بن عبد الملك بن مروان
أبي أيوب «2» ، وكان ألذ من غفوة النّوم، وحفوة اللّوم، لطيب زمانه، ووطي المخاوف بأمانه، وكان مفرط الغيرة، يؤاخذ بالظنون، وينابذ بريب المنون، سمع رجلا يرجّع في الغناء فتوجّع وقال: هذا رائد الزنا، وأمر بأن يخصى فجذ أنثييه، وبذ السوابق بما جنى عليه، وكان مدة أبيه عبد الملك، وأخيه
الوليد مغرى بعيب الحجاج، معنّى منه بما يكثر ريب اللجاج، وكان ينوي إن صارت إليه نوبة الخلافة، له نومة كل آفة، فمات قبل ذلك الحجاج، وفات الحجاج، فسبقت نية سليمان فعله، وسيفه عدله، وكان سليمان نهما لا يشبع، ملتهما يأكل مع اللقمة الإصبع، حتى استأسد واستسبع، وأكل ما طار بجناح أو مشى على أربع، وأمه وأم الوليد ولادة بنت العباس بن جزي العبسي، نشأ في أخواله بني عبس، ونأى في أحواله عن اللبس، وكان أبيض جعدا، كاد محياّه يندى، نظر يوما إلى المرآة وقد لبس حلة خضراء، رفل في سندسها، ونحل نوار الخمائل من أنواره ضوء مشمسها، فقال: أنا الملك الفتى، أو قال: أنا الملك الشاب، لما داخله بالملك الإعجاب، ومرّ في خروجه إلى مصلاه بجارية له كان بها كلفا، وبحبها شغفا، فلما قال لها هذا القول قالت:
[الخفيف]
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
…
غير أن لا بقاء للإنسان [ص 274]
ليس فيما علمته فيك عيب
…
كان في الناس غير أنك فان
فتطير من قولها وتشاءم، وراجع الفكر في هذا وداوم، ثم أتى المنبر فخطب فأسمع، ثم تقدم إلى المحراب، وصوته لا يتعدى له خرق مسمع، فعاد إلى منزله ساكنا يتوجع، وطلب تلك الجارية كالمنكر عليها، فأقسمت أنها لم تره ذلك اليوم أجمع، فعلم أنه نعي، وأنه إنما خرج ليودع، وكان ملك حسن وإحسان، وخليفة يمن وأمان، ولي سنة ست وتسعين، فجاء جميل المذهب، كأنما أيامه الطراز المذهب، أبقى من حسن السيرة ذكرا لا يبلى، وأثرا لا يذهب، ملك أمره فما شعّث ولا تشعب، وأنصف من الظالم فأخمد سورة من تشغب، وأخرج من الحبوس، ونزع عن المستورين لباس البوس، وكساهم حلل الكرامة، وأنساهم بعدله ما مسّهم من السآمة، ورد عنه بردهم الملامة، وأخذ الظلامة، وراقب الله
كأنما يتمثل وقوفه بين يديه يوم القيامة.
وكان الوليد أخوه ولاه فلسطين فأحدث مدينة الرملة، وبنى مسجدها، وأتاه نعي الوليد، وكان ولي العهد بعده، فخرج من فلسطين إلى دمشق، فكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر، فأسف الرعايا على ملكه القصير، وزمانه الغض النضير، ولكن ليالي الوصل فيهن تقصير، ومات بدابق، ودفن بها وكفّن، ثم وسّد في مضاجع تربها، وذلك في سنة تسع وتسعين، وكان يوم مات ابن خمس وأربعين، وحسبه من حسن الخاتمة في الدنيا والإمارة الدالة على تنقله في الدرجات العليا، أن صلى عليه الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ورحل من حرم الخلافة المستباح، إلى حرز الله الحريز، وكان له أولاد، منهم أيوب المكنى به، وكان من قريش عفافا وأدبا، وكان أبوه قد بايع له بالعهد، وكان مؤدبه وحاضنه عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وقال فيه جرير:
[البسيط]
إن الإمام الذي ترجى فواضله
…
بعد الإمام ولي العهد أيوب [ص 275]
وهلك في حياة أبيه، ورثاه عبد الله بن عبد الأعلى، بقصيدة يقول فيها:
[الكامل]
قد بان أيوب الذي لفراقه
…
سرّ العدوّ غضاضتي وتخشّعي
أيوب كنت تجود عند سؤالهم
…
وتظل منخدعا وإن لم تخدع
قال البلاذري: خرج سليمان إلى دابق «1» ليغزي منها، فأغزاهم وعليهم ابنه أيوب، ومعه مسلمة بن عبد الملك، وكان أيوب ولي عهده، فلما احتضر
سليمان قال: إن ابني أيوب بإزاء عدو، ولا أدري ما يحدث به، فإن أهمل الأمر إلى قدومه ضاع وانتشر، ولم تؤمن الفتنة على الناس في جميع الأقطار، ولعل الحدثان أن يكون قد غاله، على أني قد وليته العهد وأنا أظن أن عمري يطول وهو حدث، فولى عمر بن عبد العزيز، ولقد وفق في نظره الوجيه ورأيه الوجيز، فارق الناس على وجه جميل، واختار لهم إماما لا يمين مع الهوى ولا يميل، عمر وما أدراك ما عمر، نزع من جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين، إلى أحسن السير، وعهد سليمان بعد عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك ثم أيوب إن كان بعد يزيد، وكره أن يخرجها من ولد عبد الملك فيختلفوا، وصوّب رجاء بن حيوة «1» رأيه في ذلك، وقوّى عزمه وهو هالك، وتوفي أيوب في غزاته، وقيل إن أباه علم بمماته قبل وفاته، ففعل ما فعل، وما عسى يغني قول ليت أو لعل.
وقال المدائني: دخل رجل على سليمان بن عبد الملك فتكلم، فإذا أن يسبر عقله، فإذا هو مضعوف، فقال سليمان: زيادة منطق على عقل خدعة، وزيادة عقل على منطق هجنة، وأحسن ذلك ما زان بعضه بعضا، ومن كلامه: الحسود لا يسود. وقال سليمان ليزيد بن أبي مسلم: ما تقول في الحجاج، قال: يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه حيث شئت. وقال المدائني: دخل أيوب بن سليمان على أبيه فقال: ما لك يا بني، قال: خدرت رجلي، فقال: يا بني اذكر أحب الناس إليك، فقال: صلى الله [ص 276] على محمد، فقال سليمان:
ابني سيد، وإني عنه لفي غفلة، فولاه عهده. وتذاكر هو ورجل كان يأنسه الملاذ، فقال سليمان: والله لقد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وامتطينا الصافن، وأتينا العذراء، فلم يبق من لذتي إلا صديق أطرح فيما بيني وبينه مؤونة التحفظ. وضم سليمان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود إلى ابنه أيوب، فأتاه فحجبه، فجلس في بيته، فعتب أيوب عليه، فعاتبه عون، فغضب وشكاه إلى أبيه ولامه، فقال: ضممتني إلى رجل إن أتيته حجب، وإن جلست عنه عتب، وإن عاتبته غضب.
وكان سليمان يؤتى في كل يوم صلاة الغداة بعشر رقاقات وخروفين عظيمين ودجاجتين سمينتين، فيأكل ذلك كله [لم] يخل فيه مرى. وحجّ سليمان، فقال لقيّمه على طعامه: اطعمني من خرفان المدينة، أو قال من جدائها، ودخل الحمام ثم خرج، وقد شوي له أربعة وثمانون خروفا، أو جديا، فجعل القيّم يأتيه بواحد واحد فيتناول جرما جزّه، ويضرب بيده إلى شحم كليته، فأكل أربعة وثمانين جرما زجه بشحم أربعة وثمانين كلية، ثم قال: ادع يا غلام عمر بن عبد العزيز، وأذن للناس، ووضع الطعام فأكل معهم كما أكلوا. وأتى الطائف، فلقيه ابن أبي زهير الثقفي، رجل من أهلها، فسأل أن ينزل عليه، قال:
إني أخاف أن أنهمك، قال: قد رزق الله خيرا كثيرا، فنزل عليه، فجعل يأتيه من حائطه وهو فيه بخمس رمانات خمس رمانات، حتى أكل مائة وسبعين رمانة، ثم أتي بخروف وست دجاجات، فأكل، ثم أتي بمكوك «1» زبيب فأكله ثم وضع الطعام فأكل وأكل الناس، وفتح ابن أبي زهير أبواب الحيطان، فأكل الناس من الفاكهة، فقال سليمان: قد أضررنا بالرجل، وأقام بالطائف سبعا ثم صار إلى مكة، فقال: الحقني، فلم يفعل، فقيل له لو لحقته، قال: أقول ماذا،
أعطني ثمن طعامي.
وأتاه وهو بدابق رجل نصراني كان منقطعا [ص 277] إليه من قبل الولاية، فقال له: هل أهديت لي شيئا، قال: نعم، وأتاه بزنبيل مملوءا بيضا مطبوخا، وزنبيل ملؤه تينا، فجعل يقشر له البيض، فيأكل بيضة بتينة، حتى أتى على الزنبيلين، ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا مخلوطا بسكر، فأكل ذلك ومرض فمات.
وقال سليمان وقد ذكر عنده تشقيق الخطب والإسهاب: من أكثر القول وأحسن، قدر على أن يقل فيحسن، وليس من قصر فأحسن بقادر على أن يطيل فيحسن.
وقام إليه رجل وهو يأكل فقال: إني زوجت ابني، وليس عندي ما أجمع به أهله إليه، فاسلفني من بيت المال، فقال: ما يزال ماص لبظر أمه يقوم إلينا فيفسد علينا طعامنا، فتنحى الرجل وجلس، فلما فرغ من طعامه قال: قلت ماذا لله أبوك، فرد عليه مسألته، فقال: فكم عطاؤك؟ قال: مائتا دينار، فقال: يا قسامة، أعطه مائتي دينار، ومائتي دينار، ومائتي دينار، وطوّل نفسه وطوّل نفسه حتى انقطع، فنظر فاذا جميع ذلك قيمة اثنين وسبعين ألف درهم، ثم قال: أيا رجل رضيت؟ قال: نعم، فرضي الله عنك يا أمير المؤمنين، فقال: يا قسامة، اضعفها له، فأخذ مائة ألف وأربعين ألف درهم.
وحدّث محمد بن سعد عن الواقدي قال: انصرف سليمان من صلاة الجمعة، فأكل شحم كلي أربعين جديا، وصحيفة مملوءة مخا، وغير ذلك ثم جامع، فقام «1» عن الجارية موعوكا، فمات بدابق. وقال جرير: فياقوم، ما بالي
وبال ابن نوفل وبال بكائي نوفل بن مساحق «1» ، ولكنها كانت سوابق عبرة على نوفل من كاذب غير صادق:
[الطويل]
فهلا على قبر الوليد سفحتها
…
وقبر سليمان الذي عند دابق
قال المدائني: الثبت أن أيوب بن سليمان توفي بالشام، ولم يكن غازيا، إنما كان الغازي مسلمة بن عبد الملك، وكان سليمان أراد أن يغزيه [ص 278] على الجيش فمرض، فلما احتضر أيوب، دخل عليه وهو يجود بنفسه، ومعه عمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة، فجعل ينظر في وجهه فتخنقه العبرة فيردها، فلما قضى نحبه ودفن، وقف على قبره وقال:
[الطويل]
وقفت على قبر مقيم بقفرة
…
متاع قليل من حبيب مفارق
ثم قال: السلام عليك يا أيوب:
[السريع]
كنت لنا أنسا ففارقتنا
…
فالعيش من بعدك مرّ المذاق
ثم ركب دابته وقال: