الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم
98- دولة ابنه يزيد بن معاوية
أبي خالد «1» فتى ألف صباه، وكلف بنجد وصباه، ونام على فراش الرفاهة، ونادم أهل الفكاهة، وهام بما يهيم به الكلف، ويدوم عليه الشعف «2» ، لا يرد عن جماع غوايته، ولا يرتد عن طماح غايته، وعمر أيام الشبيبة بالمام الحبيبة، وتيم قلبه بالنساء، تتيم ذي الرمة بالخنساء «3» ، ووجد بكل غانية سمع بها وجد الفرزدق بنوار، وعمرو بعرار، وكان من دمشق في عرايش الكروم، وعرائس الدوم، من جني أعناب كأنّ عصارتها جني عنّاب، فعكف عليها مثواه، وعطف إليها هواه، وثوى يهتصر قطوفها، ويعتصر صنوفها، وزفّها أوقات أنسه عروسا، وحفّها حول مجلسه شموسا، وأقام لا يريم بين كأس وريم، لا يرى إلا بنانا مخضوبا بالعنم، أو بحمراء صافية كالعلم، ويروى له شعر أكثره لا يصح له بكبره من جهله، وكان أبوه يؤثره، ويعظم قليله ويكثره، يتوسم مخايل نجابته،
ويتسم لدلائل أجابته، فمهد له في تقدمه، ووطد أكناف السرير لقدمه، ولما خاف ألا يتم له ما أراد، ولا يلم فيه رأيه بالمراد، بذل له جهد سيفه ودرهمه، فكفّ جهل عذاله ولوّمه، ولم يبق إلا ثلاثة قريش شرفا وسؤددا، وسلفا يخرس لددا، الحسين بن عليّ، وعبد الله بن عمر [ص 238] وعبد الله بن الزبير، فجدّ في مداراتهم فما قدر، وجهد على إرادتهم وما قسر، فنصب مصايد حيله، ومكايد طيله، وأمر بأن يجمع الناس بالمدينة وفيهم أولئك الأماجد، وأوقف على رؤوسهم رجالا بأيديهم السيوف جرايد ثم أمر بأخذ البيعة ليزيد، وأخذ من خالف الأخذ الشديد، وقال: من كلّم هؤلاء، وأشار إلى الثلاثة، واضرموا بحدوة السيف حنقه، فلما اجتمع الناس قام فيهم مروان وقال:«1» أيها [الناس] إن هؤلاء رؤوسكم وسادتكم، وقد أعطوا البيعة، فقوموا فبايعوا، فما منهم إلا من بايع ومن تابع، إلا أولئك النفر، إلا أنهم ما استطاعوا أن يتكلموا، ولا استطالوا إلى أكثر من أن يتألموا، ثم كان من خروج الحسين وابن الزبير ما كان، هذا إلى العراق وهذا إلى مكة، وما فينا فيما يزعزع ملكه، إلا أن الحمام عاجل سيد الشهداء الحسين، وأدلى له الحين، وفزع ابن الزبير لمنابذته، وقرع ظبة الحرب لمؤاخذته، ثم لم يتمكن من قتاله، ولم يتبين له وجه احتياله، فأخرها إلى أوانها، وادخرها إلى إبّانها، ثم وثب إليها وثوب الفهد، ودأب لها دؤوب الفرس النهد، وأما ابن عمر، فدخل فيما أجمع الناس عليه وبايع، وجمع أطراف قومه وما نازع، ثم كان من مصرع الحسين ما صرع الدموع، وصدع الضلوع، وكسر القلوب كسرا لا يجبر، وأمات للإسلام ميتا لا يقبر، فآها لها رزية فتّت العضد، وفلّت السيف والغمد، لقد أنضبت
الثّمد، وأنضت بطلاب مثلها المهرية الأجد «1» ، فيا لها فجيعة، ويالها من مصيبة وجيعة، لعمر أبيه لقد نبذ غير مليم، ولقد عكفت الطير منه على لحم كريم، وقد تقدم منه طرف في ذكره وهذا الآن موضع شرحه، وسنذكر منه ما يزيد القلب قرحا على قرحه، ويتبعه وما اندمل الأول جرحا على جرحه [ص 329] وصفا الأمر ليزيد، ليته ما صفا، واشتفى ليته لو كان أصبح على شفا، فكم أساء على قصر مدة أيامه مرة، وأذاب القلوب وأسال عن المدامع الحرة، فأما كربلاء، فتلك كرب وبلاء، وبالطف ما طف، وكم بوارق بات يوقدها، وبوائق مات وهو يحقدها، هذا كله من وراء تخلف لا كفاية، وتعسف لابد راية، كان يلعب بالنرد، وينادم القرد، ويشتري لهو الحديث بمال الله لا بماله، ويسخط الله بعمله هذا وسائر أعماله، ودام على قبيح فعلاته، وفضوح ضلالاته، حتى مات، وليته لا ولد ولا ولا عرف، فلا ذم ولا حمد، أتاه وهو بحوارين «2» [نعي] أبيه معاوية، فجاء وقد دفن، فقال:«3»
[البسيط]
جاء البريد بقرطاس يحثّ به
…
فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم
…
قال الخليفة أمسى مثبتا وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا
…
كأن أغبر من أركانها انقلعا
ثم ابتعثنا على خوص مزممة
…
نرمي العجاج بها لا نأتلي سرعا
وما نبالي إذا بلّغن أرحلنا
…
ما مات منهن بالبيداء أو ظلعا
لما انتهينا وباب الدار منصفق
…
لصوت رملة ريع القلب فانصدعا
ثم ارعوى القلب منّي بعد طيرته
…
والنفس تعلم أن قد أثبتت جزعا
أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه
…
كانا جميعا خليطا قاطنين معا
أغرّ أبلج يستسقى الغمام به
…
لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا
ثم صعد الضحاك بن قيس الفهري «1» المنبر، وفي يده أكفان معاوية، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن معاوية أمير المؤمنين، كان عود العرب، وحدها ونابها، قطع الله به الفتنة، وجمع به الكلمة، وملّكه حرايم العباد، وفتح له البلاد، إلا أنه قد مات، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها، ثم مدلجوه قبره، ومخلون بينه وبين ربه، ثم هو الهرج «2» إلى يوم [ص 240] القيامة، فمن كان يريد أن يشهده فليحضر عند الظهر، ثم أتى يزيد بن معاوية قبر معاوية وترحم عليه، ثم أتى المنبر فخطب، ثم قال: إن معاوية كان عبدا من عبيد الله، أنعم عليه، ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده، ودون من قبله، ولا أزكيه على الله، فهو أعلم به، فإن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وإني لن آبى عن طلب، ولا أعتذر
من تفريط، وعلى رسلكم، إذا أراد الله شيئا كان. فقام إليه عطاء بن أبي صيفي الثقفي فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رزيت الخليفة، وأعطيت الخلافة، قضى معاوية نحبه، فغفر الله ذنبه، ووليت الرياسة، وأنت أحق بالسياسة، فاحتسب عند الله عظيم الرزية، واشكره على حسن العطية، أعظم الله على أمير المؤمنين أجرك، وأحسن على الخلافة عونك. ثم أتاه عبد الله بن همام السلولي فقال: يا أمير المؤمنين، أعظم الله أجرك في الخليفة، وبارك لك في الخلافة، ثم أنشد:
[البسيط]
اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة
…
واشكر عطاء الذي بالملك أصفاكا
أصبحت لا رزء في الأقوام تعلمه
…
كما رزيت ولا عقبى كعقباكا
أعطيت طاعة أهل الأرض كلهم
…
فأنت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية [الآتي] لنا خلف
…
إذا قعدت ولا نسمع بمنعاكا «1»
وأرسل يزيد إلى الوليد بن عقبة «2» بأخذ البيعة على الحسين وابن عمر وابن الزبير، ثم سائر الناس، فقال لمروان: ما عندك في هذا؟ قال: اطلبهم ليلا
وخذهم بالبيعة، فإن بايعوا وإلا فاضرب أعناقهم، فطلبهم ليلا فأتوه، فطلبهم بالبيعة، فخاف ابن الزبير أن يهنأ، فبدر فقال: ما عندنا خلاف، ولكن يقال إنما بايعوا خوفا، وإنما ادعوا الناس إلى المسجد لنبايع، تشهد الناس وبايع الناس، فقال: أفعل، فأوتي إليه مروان أن اضرب أعناقهم، فأبى، وخرجوا من عنده، فقال له مروان: والله لا أصبح منهم بالمدينة أحد [ص 241] ، فكان هكذا، خرجوا ليلتهم تلك من المدينة، فأما ابن عمر فذهب إلى مال له، وبعث يقول:
إذا اجتمع الناس بايعت، فتركوه لعلمهم بزهده، وأما ابن الزبير فانطلق إلى مكة، وأما الحسين فألهاهم عنه طلبهم لابن الزبير، ثم سار الحسين يريد مكة، فقال: ما كنت لأنطلق على مكان به ابن عمر ولا أراه، فأتاه فأعلمه أن أهل العراق بعثوا له كتبا وقر جمل، فقال: إياك وهم، فهم أهل غدر، ولقد كان أبوك أكرم عليهم منك وما وفوا له، فلما أتى عانقه وقال: استودعك الله من قبيل، ثم أتى الحسين عبد الله بن مطيع العدوي، فقال له نحو قول ابن عمر، فأبى وأتى مكة، فرأى ابن الزبير انه لا يتم له مع وجود الحسين، فحسّن له قصد العراق، حتى ذهب فقتل كما تقدم في ذكره «1» ، ثم قام ابن الزبير يذكر مقتله، ويلعن قتلته، ويدعو إلى الشورى، ويستر أمره ويقول: أنا عائذ بهذا البيت، ثم باح ومد يديه للمبايعة فبويع. واعر له يريد الحيس «2» ، ثم لم تحن منيته إلا في زمن عبد الملك، على ما يأتي ذكره.
وحكى البلاذري عن يزيد أنه أول من أظهر شرب الشراب، والاشتهار بالغناء والصيد، واتخاذ القيان والغلمان، والتفكه بما يضحك منه المترفون من القرود والمعاقرة بالكلاب والديكة، ثم جرى في زمنه قتل الحسين ابن علي
عليهما السلام، وقتل أهل الحرة، ورمي البيت وإحراقه، وكان مع هذا صحيح العقيدة، ماضي العزيمة، لا يهمّ بشىء إلا ركبه، ووقع بين غلمانه وغلمان عمرو بن سعيد الأشدق فأغضبه ذلك وأمر بإحضار أولئك الغلمان، فلما أتي بهم قال: خلوا سبيلهم، ثم قال: إن القدرة تذهب الحفيظة.
وأخطأ يزيد في شىء وهو صغير، فقال له مؤدبه: أخطأت يا غلام، قال يزيد: الجواد يعثر، قال المؤدب: اي والله ويضرب، قال يزيد: اي والله ويرمح سائسه فيحطمه. وكان يزيد على علاته جوادا كريما، فيما روي أنه أجار عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أربعة آلاف ألف درهم، وكان لا يعد وعدا بكرم إلا أنجزه، وفيه يقول [ص 242] عبيد بن حصين الراعي:«1»
[البسيط]
راحت كما راح أو تغدو بغدوته
…
عنس وخود عليها راكب يفد
تنتاب آل أبي سفيان واثقة
…
بسيب أبلج منجاز لما يعد
وكان أيام أبيه معاوية خير من يحضره من جلسائه.
حكي أن عقيل بن أبي طالب «2» دخل يوما على معاوية وقد كفّ بصره،
فأجلسه إلى جانبه على سريره، ثم جاء بعده عتبة «1» أخو معاوية، فأجلسه بينه وبين عقيل، فلم يره، فقال له معاوية: أنتم يا معشر بني هاشم لم تصابون في أبصاركم، فقال عقيل: كما تصابون يا معشر بني أمية في بصائركم، فتنحنح عتبة ليتكلم بشر، فأومأ إليه معاوية أن اسكت، فقال عقيل: من هذا الذي أجلسته يا معاوية إلى جانبي، فقال معاوية: هو أخوك وابن عمك عتبة، فقال عقيل: لئن كان أقرب مني إليك، فإني أقرب منه ومنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سماء، وكان يزيد غلاما واقفا في الشبيبة، فابتدر فقال: يا عم، أنت كما وصفت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فوق ما ذكرت، وأمر أمير المؤمنين عالم بحقك، ولك عندنا مما تحب أكثر مما لنا عندك مما تكره، فأسكت عقيلا، وكان لسان قريش.
وولد يزيد [سنة خمس أو ست وعشرين]«2» ، وركب «3» فرسا فرداه، فمات يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، ومدة عمره تسع وثلاثون سنة، وقيل ست وثلاثون، ومدة ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر تقريبا، وقبره بحوارين، وقيل إنه نقل إلى مقبرة دار الصغير بدمشق.