الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم كانت مقدمة لبلية صفين، وشفاء صدور قوم ما شفين، ودامت مدته ثم لم تزل إلا على يد الحجاج زمان عبد الملك بن مروان، ستذكر عند انتهائها في ذلك الأوان، ثم لما انقضت دولة بني حرب، وفرغت منها الأيام، ونزعت في صدور الزمان شياطين أنصارها اللئام، أعقبتها الدولة المروانية، تنزوا قردتهم على المنابر، ويعلوا صغارهم مكان الأكابر، إلا فرد رجل واحد غلب عليه شيمة خاله لا عمه، وما مال إلى جده لأبيه إلا لأمه.
وأولها:
101- دولة مروان بن الحكم
ابن أبي العاص «1» بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو عبد الملك،
كان أبوه الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن تلقى عثمان الأمر وتسلم، وهو أحد ما انتقد على عثمان، وحقد على أبي سفيان، كان معاوية [ص 246] يعاقب بينه وبين سعيد بن العاص، ويراقب منه سطوة الأسد على القناص، خوفا من توثبه، وخوضا في حديث كان يخشى تسببه، فكان يداريه ويدرأ حده بشبهة أنه يوليه، ولم يزل مذ كان عيبه عناد وغيبة، ما توارى في زناد يقدح كل شر، ويجدح حماه كل ضر، ويقسو في موضع اللين، ويعتو في متبع الدين، إلا أنه كان من رجال قريش حزما لا يغلط، وعزما لا يغمط، ملقح حرب حيال، وملحق ترح بحي حلال، يلف آخر الخيل بأولها، ويدير مدبرها على مقبلها، تعرض للحرب حتى صلي بها، وبلي لما بلي عجم عيدانها بصليبها، أخرجه عمال ابن الزبير على المدينة في بني أمية، وأحوجه الاستعجال إلى الخروج على عمّيه، فخرج أجرأ من ابن سميّة «1» ، وأجرأ من عمرو بن أمية، قال منتهكا وآب ملكا، ما برح يسول له القيام ويناجي ضمائره، وينادي سرائره، حتى أخرج هذا المخرج، خرج لضائقة المخرج، فسار يريد الشام، وهو لا يعرف كيف يسير، ولا على رشد يمشي أم تغرير، فلما كان بالطريق، وهن لقلة ناصره، وذلة أهل أواصره، فهمّ أن يعطي بالمبايعة يده، ويعرى من لبوس المقارعة حسده، فقال له رجال: أو مثلك وأنت شيخ بني عبد مناف ترضى أن تكون لفتى من بني أسد مربوبا، ومعه هذه الرماح ما قصف من صلبها أنبوبا، وهذه الأسنّة تتقد ولا تدع جمر الحرب مشبوبا، فحينئذ ألوى بأنفه الشمم، وبعطفه التيه على منابت اللمم، ودعا إلى نفسه، وسعى كالأرقم بكشر أنيابه لنهشه،
وكان الأمر قد كاد يتم لابن الزبير ويدوم من أجمع على خير، ومما دان له دمشق وسائر الشام، إلا حمص، ولم يكونوا على نزاعه أهل حرص، إلا أن عامل بني أمية كان بها متماسكا، وبزمام حزبها ماسكا، هذا مع ما كان قد اجتمع له من طاعة أهل الحجاز والعراق، وقلة [ص 247] طماعه من تظاهر له بالشقاق، وإنما مروان قام غير متكل، بسير ولا ضجر ولا وكل، وعضده من ذوي قرابته، رجال بل نصال، لا مجال معها لانفصال، وقامت اليمانية معه على القيسية، وصوب كل قبيل إلى الآخر سهامه وقسيه، وكانت اليمانية أموية، والقيسية زهرية بلا مثنوية، ودخل مروان دمشق، ثم أتى تل راهط، يحاشي حل كل رابط، هنالك كان موعد اللقاء، ومورد عدم البقاء، وشبت الحرب العوان، وشبّت بعد المشيب همّة مروان، حتى أحرز من الملك ما ورثه بنوه بعده، ومات وأورثه ولده، وأمه آمنة بنت علقمة الكناني، وأمها الزرقاء التي يعيرون بها، وهي مارية بنت موهب الكندي، وكان موهب قينا، وكان مروان يسمى خيط باطل لطوله ودفّته، شبّه بالخيط الأبيض الذي يرى في الشمس، وكان قارئا للقرآن حازما حزما.
كان كما قلنا رأس كل هوى، وأسّ كل بلوى، ولما نهضت سمعة ابن الزبير، كتب إلى عبد الله بن مطيع «1» ، وكان عامله على المدينة، في نعي بني أمية، ومروان يومئذ شيخهم، وابنه عبد الملك ناسكهم وموضع رأيهم، وكان بعبد
الملك جدري، قد ظهر به، فوجدوا مشقة عظيمة لمخرجهم، فحمل عبد الملك على جمل شدّ عليه شدا، وأكبر قريش هذا على ابن الزبير، وقالوا له: إنما بعثت عليك أراقم لا يرقى سليمها، فكتب إلى ابن مطيع بإقرارهم بالمدينة، فبعث يردهم، فأبوا أن يردوا، وقد سول لمروان الأمر، فأتوا الشام وقد بايع الناس لمعاوية، وهو كاره لذلك، ثم لم يلبثوا أن مات معاوية، وظن ابن الزبير أن قد صفا له الأمر، وبث ولاته، وأطاعه أكثر أهل الشام، إلا حسان بن مالك بن بحدل «1» وقوما معه، فإنهم دعوا لخالد بن يزيد، فقال له ابن غضاة الأشعري:
أراك تريد هذا الأمر لخالد بن يزيد [ص 248] وهو حديث السن، فقال: إنه معدن الملك، ومقر السياسة والرياسة، فأتى ابن غضاة خالدا فوجده نائما ضحى نهار، فقال: يا قوم، أنجعل نحورنا أغراض للأسنة والسهام لهذا الغلام وهو نائم في هذه الساعة، وإنما صاحب هذا الأمر المجد المشمر الحازم المتيقظ، فأتى مروان بن الحكم، فألفاه في فسطاط، وإذا درعه إلى جنبه، وعليه سيفه والرمح مركوز بفنائه، وفرسه مربوط إلى جانب الفسطاط، والمصحف بين يديه، وهو يقرأ القرآن، فقال ابن غضاة: يا قوم هذا صاحبنا الذي يصلح له الأمر، فرجعوا إلى حسان بن مالك، فأخبروه بخبر خالد ومروان، وأعلموه أنهم مجمعون على مروان، فقال ابن بحدل: رأيي لرأيكم تبع، إنما كرهت أن تخرج الخلافة من أهل هذا البيت، ثم قام حسان خطيبا، فحمد الله، ثم ذكر مروان وأثنى عليه، وقال: قوموا فبايعوا، فقاموا فبايعوه، وأقبل الضحاك حتى نزل مرج راهط «2»
داعيا إلى ابن الزبير، وقد اجتمعت بنو أمية بالجابية «1» ، فقال مالك بن هبيرة «2» للحصين: هلم نبايع لخالد بن يزيد، فقد عرفت مرتبتنا كانت من أبيه، فقال الحصين: لا والله، لا يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي، فقال مالك: ويحك، إن مروان وآل مروان يحسدونك على سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تظل بها، وهو أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم، فقال:
مروان شيخ قريش ومن يديرنا ويسوسنا، خير ممن نديره ونسوسه، فأجمعوا على مروان على أن يكون بعده خالد بن يزيد، ثم عمرو بن سعيد، فبويع مروان ولم يقع لهما اسم معه، فلما دان لمروان أصحابه، سار بهم يريد تل راهط، وعلى ميمنته عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، وجعل الضحاك على ميمنته زياد بن عمرو العقيلي، وعلى ميسرته زحر بن أبي شمر الهلالي، وثار يزيد بن أبي اليمن على دمشق، فغلب عليها [ص 249] ، ودام القتال بين مروان والضحاك «3» عشرين ليلة، وكان مروان يرتجز فيها ويقول:
[الرجز]
لما رأيت الأمر أمرا صعبا
…
سيرت للقوم سراة غلبا
لا يأخذون الملك إلا غصبا
…
فإن دنت قيس فقل لا قربى
ثم كانت آخر تلك الأيام ونهاية ذلك القتال اللزام، أن انجلت سحابة الحرب العوان عن تبلج النصر على قسمات مروان، ودخل دمشق فبايع له أهلها، واستوسق له الشام والجزيرة، وأنشده بعض الأنصار:
[السريع]
الله أعطاك التي لا فوقها
…
وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلا سوقها
…
إليك حتى قلدوك طوقها
وأنشده زياد الأعجم: «1»
[الوافر]
رأيتك أمس خير بني لؤي
…
وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الضعف خيرا
…
كذاك تكون سادة عبد شمس
فأجازه ألف دينار، وقيل بل كان إنشاده إياهما بالمدينة، ولما انجلت نوبة تل راهط عن نصرة مروان، فرّ زفر بن الحارث «2» إلى قرقيسياء «3» ، فدخلها وجعل
يرثي قتلى راهط، فمن ذلك قوله:
[الطويل]
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط
…
لمروان صدعا بيننا متساويا
أتذهب كلب لم تنلها رماحنا
…
وتترك قتلى راهط هي ما هيا
وقد ينبت المرعى على دمن الربى
…
وتبقى حزازات النفوس كما هيا
أبعد ابن صقر وابن عمرو تتابعا
…
ومصرع همّام أمنّا الأمانيا
فأجابه ابن مخلاة الكلبي:
[الطويل]
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط
…
على زفر فردا من الداء باقيا
تبكّي على قتلى سليم وعامر
…
وذبيان معروفا تبكّي البواكيا [ص 250]
ومما قال زفر أيضا:
[الطويل]
ويوم ترى الرايات بيضا كأنها
…
حوائم طير مستدير وواقع
مضى أربع بعد اللقاء ورابع
…
وثول أطلته السيوف القواطع «1»
طعنا زيادا باسته وهو مدبر
…
وقد جدّ من يمنى يديه الأصابع
ونجّى حبيبا ملهب ذو غلالة
…
وقد جدّ من يمنى يديه الأصابع
وقد شهد الصفّين عمرو بن مخدم
…
فضاق عليه المرج والمرج واسع
ثم استخلف مروان ابنه عبد الملك بدمشق، فسار إلى مصر، وكان عليها عامل ابن الزبير، فافتتحها، ثم تزوج أم خالد ليغضّ من ابنها خالد بن يزيد، وكان هو وعمرو بن سعيد يدعيان أن الأمر لهما بعد مروان، فكلم حسان بن
مالك في ذلك وقال: إني أريد أن أعهد إلى ابني عبد الملك ثم عبد العزيز، فقال: أنا أكفيك هذا الأمر، فلما اجتمع الناس عند مروان، قام ابن بحدل فقال: إنه يبلغنا أن رجالا يتمنون أماني، ويدعون أباطيل، فقوموا فبايعوا لعبد الملك ابن أمير المؤمنين بالعهد، ولعبد العزيز من بعده، فقام الناس مسارعين من عند آخرهم، وكان مروان قال لحسان: بلغني أنك تقول أنك اشترطت على مروان أن يولي خالد بن يزيد الخلافة بعده، فحداه ذلك على الجد، وتبعه عبد الملك ما أبلغ مروان عنه، ثم عقد مروان لعبيد الله بن زياد على العراق والجزيرة، ووجهه فقتل بالموصل قتله إبراهيم بن الأشتر، وبعث إلى ابن الزبير جيشا عليه يوسف بن الحكم الثقفي، ومعه يومئذ ابنه الحجاج، فأتوا وادي القرى «1» ، فهرب عامل ابن الزبير عليها، ووضعوا عليها ضريبة أدوها إليهم، ثم نزلوا بذي المروة «2» فلقي أهلها منهم عنتا، وبلغ أهل المدينة ما نابهم، فبعث بشر من الصالحين، وقيل لسعيد بن المسيب «3» : لو تغيبت أو أتيت البادية، فقال: فأين فضل الجماعة، والله لا رآني الله والناس أخوف عندي منه، ثم ساروا [ص 251] حتى أتوا المدينة، ثم صعد يوسف بن الحكم الثقفي المنبر، فقال: يا أهل المدينة، يقول الله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
والمرجفون في المدينة لنغرينّك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا) «1» ، فكيف رأيتم ما صنع الله بكم، والله لا يتكلم أحد منكم بكلمة إلا ضربته بسيفي هذا، ثم لاقوا بالربذة «2» جيشا كان قد أقدمه ابن الزبير من البصرة، وكانت الدائرة على جيش مروان، وفر يوسف الثقفي ورديفه ابنه الحجاج على فرس، وكان الحجاج يقول: ما أقبح الهزيمة، لقد كنت ورجل آخر- يعني أباه- فانهزمنا على فرس، فركضنا ثلاثين ميلا، حتى قام بنا الفرس، وإنه ليخيل إلينا أن رماح القوم في أكتافنا، وجعل ابن الزبير لمن يأتيه بيوسف الثقفي وابنه جعلا، فلم يقدر عليهما.
ثم كان بين مروان وبين خالد بن يزيد «3» كلام، فقال له يا ابن الرطبة، فقال خالد: والله لقد أضعت الأمانة، وفضحت الستر، ثم دخل عليها فقال: يا أماه، ماذا ألحقت بي من العار، قالت: وما ذاك يا بني، فقال لها ما كان من قول مروان، فقالت: أما والله لا تسمع منه شيئا تكرهه بعدها أبدا، فلما دخل عليها «4» مروان، قال لها: قد كان مني إلى خالد كلام، فهل قاله لك، فقالت:
أنت يا أمير المؤمنين أجل في صدر خالد وأكبر في عينه من ذلك، ثم تركته