الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمعاده، وضمّر بطنه لتحصيل زاده، حتى مضى وهو على جهاده.
وكانت وفاته بمرض سوداوي لحقه ليلة الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمانين ومائة، وكان ابن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، لبث بها خليفة سبع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام. وكان أبيض مشربة حمرة، بعينيه حول، وقال بكر الكتاني يرثيه:
[الطويل]
لقد فجع الإسلام موت هشام
…
نجيب قروم منجبين كرام
هشام لعمري كان للدين راعيا
…
بعين مراعاة وحدّ حسام [ص 312]
إذا صال كان الليث يحمي عرينه
…
وغيثا إذا ما كان يوم سلام
115- دولة ابنه الحكم بن هشام الرّبضيّ
«1»
وكان حميّ الأنف «2» ، عزما يتوقد صرامة ابى الآبقة عدا «3» لا يستسهل
مرامه، لا يستلان له جانب، ولا يستهان به إلا دهيا أو مقانب بصوارم فللت الصفوف «1» ، ومكارم قللت الألوف، فكلما أتاه جمع عدو ولا مال إلا فرّقه، ولا قاواه جلد وطيش، ولا لبس إلا مزّقه، وسعد جده المقبل، وصعد رفده على الغمام المسبل، ولم يبق له معاند إلا احترق بناره، أوصادف جدوله فغرق في تياره، في عدة نوب عدمت البصيرة فيها حذارها ثم قدمت السهام إليها ارتدادها، ثم أقدمت السيوف وأبلت فيها عذارها، وخفقت فيها أعلامها الأموية بريحها التأييد، ويصبحها النصر مستطيرا من برق الحديد، في حروب منها ما باشره، ومنها ما قعد عنه، وعقد له لواء لم يكن سواه ناشره، فما عادت عساكره إلا وقد شفّت مناه، وكفت همة ما عناه، حتى أودع بطون الثرى أعداه، وودع القيام، فما استسقى لمنابت الرماح أنداه، وصفا له الأندلس من شوائب الأعداء، ونوائب الإعداد للأعداء، واستقر سريره لا يقلقل له إلا في دور ملكه مضجع، ولا يقلّب له إلا بين جواريه ذهاب أو مرجع، واستوفد إكرامه طوائف العلماء، واستبيح كرمه قرائح الشعراء، فغصّت أبوابه بالوفود، وقصّت أجنحة زواره، وما قصها سوى الجود، وكان أول أموي باح في الأندلس بمكنون سره، ومضمون ما كان يلجلج في فكره، ولم يخش دولة بني العباس أن ترمي إليه مدنها، أو ترسي عليه سفنها، وما راعه سواد ذلك العلم، ولا أقلقه تبكي ذلك الألم، ولا خاف أن تصيبه من العراق سهم أصاب وراميه بذي سلم «2» كل هذا مع بصيرة بالعواقب، كأنما ناجته بما يكون وسريرة لا تراقب، إلا ما لم يألف من السكون، لكن الأقدار
ما أسعفته بتمام هذا الأمل، ولا [ص 313] كمّلت له، ومن ذا الذي تم أمره أو كمل. وكان ذا دولة خدمتها الأكابر، وما منهم إلا من أغدق كرمه وشرق وغرّب مدحه، فمنهم عبد العزيز بن أبي عبدة، وفيه يقول بكر بن قيس:
[الطويل]
ألكني إلى عبد العزيز أخي الندى
…
ثناء وقولا قلته متعرّقا
لعمري لنعم المستغاث وجدته
…
لدن جئته صفرا من المال مملقا
لأضحى وزيرا للخليفة حاجبا
…
ترى رأيه رأيا إذا قال صدّقا
فهذا يرى وجه النصيحة قوله
…
وهذا يرى قول النصيحة موثقا
لفازت بنو حسان منه بسابق
…
هنيئا مريئا أن يفوز ويسبقا
ومنهم عبد الكريم بن مغيث، وهو الذي أمن طليطلة «1» ، وبذل لأهلها مع القدرة من غير مسألة، إلا أنه اشترط عليهم شروطا خافوا منها العنت، لكتاب جاءه من الحكم، جاريه فيما احتكم، وفيه يقول غربيب بن عبد الله:
[البسيط]
يا فارس الناس في الهيجا ومعقلهم
…
هنّاك ربّك ما أعطى وأولاكا
حفظت في نسله قيسا وحطتهم
…
كأنّ قيسا بنا إذا مات أوصاكا
إن كان سرّك ما جاء البريد به
…
فلا لعمر أبي ما سرّنا ذاكا
بل سرّنا منك نعماء بدأت بها
…
ما كان ضرّك لو أتممت نعماكا
وفي أيامه في سنة سبع وتسعين ومائة كانت الشدة التي عمّت أرض
الأندلس أجمعها، ومات منها أكثر الخلق، واجتاز بعضهم البحر إلى العدوة لانتجاع خصبها، وارتجاع ما فاتها بأرض الأندلس من جدبها.
قال صاحب المقتبس: وكان المقلّون يطوفون الأيام دون تعلل بطعام، وفي سنة اثنتين ومائتين كانت الوقعة العظمى بقرطبة، وهي المعروفة بوقعة الربض، وهي نوبة كانت من أهل قرطبة، هاجوها يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان غب أحقاد حملوها على الحكم بن هشام، فحملوا السلاح بغتة، وزحفوا إلى قصره جملة، فلم يتزحزح عن سريره، وإنما بعث مواليه وأهل ولائه فقاتلوهم [ص 314] حتى هزموهم، واستمروا بالطلب لهم ولزموهم، وأمسك منهم خلقا كثيرا «1» ، وصلب منهم ثلاث مائة رجل صفوفا أمام قصره، وأعظم فيهم الحادثة، وأفشى المثلة، ثم أمر بالكف، ونادى فيهم بالجلاء فتفرقوا في بلاد الأندلس أيدي سبأ، وعبر إلى بر العدوة، منهم فل ممن لا قتل ولا سبي، وقال الحكم في ذلك:
[الطويل]
رأيت صدوع الأرض بالسيف راقعا
…
وقدما لأمت الشعب مذ كنت يافعا
فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة
…
أبادرها مستنضي السيف دارعا
وسائل على الأرض الفضاء جماجما
…
كأحقاف شريان الهبيد لوامعا
ينبيك أني لم أكن في قراعهم
…
بوان وقدما كنت بالسيف قارعا
وإني إذا حادوا جزاعا عن الردى
…
فما كنت ذا حيد عن الموت جازعا
حميت ذماري فاستبحت ذمارهم
…
ومن لا يحامي ظل خزيان ضارعا
ولما تساقينا سجال حروبنا
…
سقيتهم سجلا من الموت ناقعا
وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم
…
فلاقوا منايا قدّرت ومصارعا
فهاك سلاحي إنني قد جعلتها
…
مهادا ولم أترك عليها منازعا
وحكى عامر بن المنبّي النحوي المؤدب قال: قدم علينا بعد الوقعة عباس بن ناصح قرطبة أيام عبد الرحمن بن الحكم، فاستنشدني شعر الحكم بن هشام في الهيج، فأنشدته إياه، فلما بلغت قوله:
وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم البيت
قال عباس: لو أن الحكم حوبي للخصومة بينه وبين أهل الربض لقام بعذره فيهم هذا البيت.
وقال أبو بكر بن القوطية: لم يتملّ الحكم حلاوة العيش بعد وقعة الربض، وامتحن بعلة صعبة طاولته أربعة أعوام في آخر عمره فلّت غربه، وأطالت ضناه، واحتجب فيها آخر مدته، واستناب ولده عبد الرحمن في تدبير ملكه، فمات أسيفا على توبة من ذنوبه، وندم على ما اقترف، وعرضت له رقّة شديدة ألانت صلابته، وطفق يكثر الذكر ويفزع إلى استقراء القرآن، ويأنس بالتلاوة إلى أن مات على حاله [ص 315] تلك، فكانوا يرجون «1» له خيرا.
ولما أحسّ بدنو المنية، عهد إلى ولديه: عبد الرحمن والمغيرة عهدا أشهد عليه الأشهاد، ثم نزل المغيرة لأخيه عبد الرحمن عن طيب نفس وإذعان، ونقل الحكم ابنه عبد الرحمن إلى القصر، وقام بالأحكام معه ودونه.
وأول ما أحدثه وأبوه حي أن صلب ربيع بن ندار رأس النصاري بقرطبة، وكان جديرا بالصلب والمثلة، لسوء أثره في المسلمين، فقال في ذلك عبد الله بن