الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم:
72- دولة المقتدر بالله
أبو الفضل جعفر «1» بن أحمد المعتضد، بويع صغيرا، وتوبع أمره وهو غرير «2» ، وكانت أمه هي التي تصدر الأمور، والقهرمانة أم موسى تدبر المعمور، وجلست في دار العدل، وقرئت عليها القصص، وأوقرت الصدور بالغصص، وكان الوزير إذا قيل له في شىء، قال: حتى أراجع السيدات، والتواقيع تخرج إليه عنهن، وأكثرها بالسيئات، فكانت أيامه دولة النساء، ودولة السفلة لا الرؤساء، فكان الناس كأنهم فوضى لا يعرف خليفة، تتبرض له ثمدا ولا حوضا، لا تجد إلا ضياعا، ولا تردّ يد تملكت أرضا ولا ضياعا، أعراض موهوبة، وأعراض منهوبة «3» ، وشكايا «4» مرقوعة، وبلايا موضوعة، وخلائق تتظلم،
وخلائف سلف كريم تتألم، وكان المقتدر عقله عقل أمثاله من الصغار لا ينتخي لملكه ولا يغار، مشغولا وراء حجبه، مشغوفا بلعبه، يتشبه في ملكه العقيم بالسوقة، ويتخذ له من جوارية معشوقة، ويقف تحت طاقتها يغمزها، ويترقب لها غفلات رقباء ينتهزها، وربما وقف اليوم الكامل وهي لا تجيبه، ورأى جارية فاختفى كأنه وافى إليه رقيبه، فمرة تصله، ومرة تهجره، وآونة تتعرف به، وآونة تنكره، وتارة تتعذر بزوجها، وتارة يتستر بأوجها، كل هذا شىء افتعله، وظنه لذة له ففعله، وكان ربما ركب حمارا وأردفها وراءه، ومر بسوق عمله في قصره، وأسكنه الجواري وأوطنه كواعب كالدراري، وجعل عندهن أنواع الطعام، ومنهن الخباز والطباخ واللحام [ص 161] والخمار، وعنده الخمارة والمدام، فيقف على الحانوت ويشتري قدر ما يحتاجه من القوت، وكذلك ما يريد من الخمر، فإذا اكتفى حمل الكل في الخرج ومر، ثم ينطلق إلى مكان اتخذه في القصر شبيها بالقرية، ونزل به، وقضى معها يومه كله في أكله وشربه، ثم إما تجئ جارية على أنها عاشق لتلك الجارية الأخرى التي يتعشقها، يريد ما أراده منها، فيقوم يدرأ عنها، فتارة غلب، وتارة يغلب، وتارة تجىء جارية على أنها صاحب الشرطة، فيأخذهما ويذهب، ثم يأمر بالمقتدر بأن يطاف به في شوارع بغداد، فيطاف به في رحاب القصر، وينادى عليه: هذا جزاء من يتظاهر بالمحرمات، في مثل هذا العصر. وكان المقتدر منقطعا إلى أمثال هذا اللعب، ما اجتهد في سواه ولا رغب، ولهذا اختلت حاله مرات، وخلع ثم عاد كرات، لكنه مع هذا اللهو المفرط، واللعب وهو ما بلغه منبسط، ولا لحقه بعده منتهك، ولا سبقه إليه قبله سوقة ولا ملك، كان سعيدا محظوظا، شديدا أدرك من المرام حظوظا، وكان واسع النفقات، شائع الصدقات، ودانت له الآفاق شرقها وغربها، وبعدها وقربها، ولم يبق شىء مما كان في ملك الخلفاء الأول إلا مذعنا لأمره، ممعنا للتأهب لنصره، لا تحمي أطرافها إلا بعسكره، ولا تشمخ أسرّة ملوكها إلا بالخضوع
لمنبره.
واتفق في أيامه عجائب وغرائب، منها أنه بعث له من مصر طرائف، منها تيس يحلب منه اللبن، وبعث إليه من عمان طائر صيني أسود يتكلم بالهندية والفارسية أفصح من الببغاء، وورد عليه البريد الدينور يذكر أن بغلة له وضعت فلوة، ونسخة الكتاب:«الحمد لله الموقظ بعبره قلوب الغافلين، والمرشد بآياته بصائر العارفين، الخالق ما يشاء بغير مثال، ذلك الباري المصور، له الأسماء الحسنى، ومما قضاه الله المصور في الأرحام ما يشاء، أن الموكل بخبر التطواف ذكر أن بغلة لرجل يعرف بأبي [ص 162] بردة، وضعت فلوة، ووصف اجتماع الناس لذلك وتعجبهم مما عاينوه، فوجهت من أحضرني الفلوة والبغلة، فوجدتها كميتا، ورأيت الفلوة سرية الخلق، تامة الأعضاء، منسدلة الذنب، يشبه ذنبها أذناب الذئاب، فسبحان الذي لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب» «1» قال شارح القصيدة العبدونية «2» : وقد حكي أنه اتفق مثل هذا سنة خمسين وخمس وأربع مائة بطليطلة «3» ، وكانت البغلة شهباء، كانت لإنسان سقّاء، وفلوها إلى الصفرة. قلت: وحكى لي صهرنا الصاحب شمس الدين محمد بن الشيرازي، أن مثل هذا اتفق في بعض بلاد حلب، وسمى لي المكان وأنسيته، قال: ورأيت ذلك بعيني، وأثبت به محضر على الحاكم، ومما اتفق في زمان المقتدر أنه وجد بمصر كنز قديم ومعه ضلع إنسان طوله أربعة عشر شبرا، وعرضه شبر.