الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حياطة أهله وحرمه، فلما أتى السفاح رأس مروان، سجد شكرا، ثم أنشأ يقول:
[الطويل]
تناولت ثأري من أميّة عنوة
…
وحزت تراثي اليوم عن سلفي قسرا
وألقيت ذلّا عن مفارق هامهم
…
وألبستها عزّا ولم آلها فخرا
فهذه جملة جميلة من أخبار هذه الدولة حتى قامت، وهذا ذكر خلفاء هذه الدولة واحدا واحدا، إلا إبراهيم بن المهدي وعبد الله بن المعتز، فإني لا أذكرهما إلا في أخبار المأمون والمقتدر، إذ كان وثوبهما في ذينك الخليفتين، وأولها:
55- دولة السّفّاح
أبي العباس «1» عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو أول
خلفاء بني العباس، وهو أول من تلقى بصدره الباس، ولبس الشعار العباسي، فزرر ليله على قمره، وعقد ظفائر أعلامه السود على فرسان عسكره، وكشف كما ذكرنا قناعه لمجاهرته لبني أمية، وثار وقد توقدت به الحمية، وخرج فيمن قل من عمومته وأهله في شفق نهار، والشمس قد فتحت في ساعة الأصيل وردتها في خده الأسيل، وسار حتى أتى الكوفة وصعد منبرها، وأرتج عليه فخطب عمه داود- وهو واقف دونه بدرجة- خطبة بليغة، اقتضبها بديها، ثم وافت عساكر أبي مسلم [ص 100] الخراساني تنسف رمل الأرض جيادها، ويخطف بصر البرق ومض حدادها، وصرّح الشر فأمسى هو عريان «1» ، وأصبح ومقل أسنته ترمق وجه العدو وهو خزيان «2» ثم كانت وقعة الزاب «3» ، وغلب الشيطان وانهزمت تلك الأحزاب، وولى عسكر الشام، وقد تفلل مضاؤه، وتفلل جمعه وضو ضاؤه، وحاق بمروان بن محمد مكره، وحار فكره، ورأى الأرض أضيق عليه من مفحص القطاة، وأقصر عن مدى خطاه، وأدرك كما ذكرنا مروان ببوصير، واستقر به فيها
المصير، ثم لم تحوجه الأقدار بعدها إلى تجهيز جيش، ولا استعمال أناة ولا طيش، وكان السفاح يسفح نوالا، ويرى ألا يرد سؤالا، مع ما كان فيه من وفاء جرى إليه سيوقا، وشمخ غصنه الرطيب سموقا مع مكارم أخلاق فاقت أشباهها، وراقت أمواهها، فما شاءه طلب بلوغا، ولا لاواه نزوغا، ولا بدأ بأمر إلا وأتمه فروغا، ولا أهمه مهم إلا وعاجل نجمه بزوغا، وقد كانت ملوك بني أمية ترى أنه سيكون الأمر في رجل من بني العباس أمه من بنات الحارث بن عبد المدان، فكانت تمنعهم من الزواج إليهم، حتى كان عمر بن عبد العزيز، فاستأذنه علي بن عبد الله في التزوج بريطة، فقال له: تزوج بمن شئت، فأولدها أبا العباس السفاح.
وحكى ابن ظفر: أن أبا سلمة الخلال وسلمان بن كثير كانا يفدان في كل عام على إبراهيم الإمام، فيأتيانه بهدايا أهل الدعوة وبكتبهم ويستأمرانه، ولم يكن أحد من أهل بيته يعرفهما ولا يعرف الأمر الذي يأتيان فيه، فقدما سنة من السنين فرأيا أبا العباس وأبا جعفر أخوي إبراهيم الإمام، وهما إذ ذاك غلامان، فأعجباهما، فقال سليمان بن كثير لأبي سلمة: إني مسر إليك أمرا مهما، فاحلف لي على كتمانه، فحلف له أبو سلمة بأيمان رضيها، فقال له سليمان بن كثير: إني أرى عند هذين الصبيين من إمارات الاستقلال ما لا كفاء له، فقال له أبو سلمة: هما والله أولى من صاحبنا، يعني إبراهيم [ص 101] الإمام «1» ، فقال
له سليمان: ما منعني من ذكر هذا إلا التقية والتستر، وبينا هما يتفاوضان في هذا مرّ أبو العباس وأبو جعفر وهما يضربان كربا «1» ، فدعاهما أبو سلمة، فأتياه فقال لهما: إني أنشدت صاحبي شعرا أنا به معجب، فلم يرضه، وقد رضينا بحكمكما فيه، فقالا: انشده، فأنشدهما:
[الطويل]
أمسلم فاسمع يا ابن كل خليفة
…
ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض
شكرتك إن الشكر حبل من التقى
…
وما كل من أوليته نعمة يقضي
ونوهت من ذكري وما كان خاملا
…
ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
فقال له أبو جعفر: من يقول هذا؟ قال: يقوله أبو نخيلة «2» ، قال: فعض أبو جعفر على اصبعه وقال: أأمن هذا العبد أن تدول لبني هاشم دولة فيولغوا
الكلاب دمه، فقال له أبو العباس: مه يا أخي، فإنه كان يقال: من أظهر غضبه ضعف كيده، ثم أقبل أبو العباس على أبي سلمة، فقال له: هذا شعر أحمق في أحمق، كيف يقول لرجل هو في سلطان غيره وتابع له: يا جبل الأرض مرسيها وممسكها، فلا يصح أن يقال هذا لمن هو في سلطان غيره وتابعا له، وأين يقع تعظيمه وتفخيمه من نقص اسمه، وانطلق أبو العباس فقال له أبو جعفر: هلمّ يا أخي نلعب، فقال أبو العباس: هل أو لغت الكلاب دم أبي نخيلة؟ قال: لا، ولكنك آذيتني فتأذيت، وذهبا، فقال أبو سلمة لسليمان: بمثل هذا يطلب الملك ويدرك الثأر، وما زالا بإبراهيم الإمام حتى عهد إلى أبي العباس، ويقال إنه وعدهما أن يعهد إليه ولم يفعل حتى قبض عليه مروان فأمضى العهد لأبي العباس.
قال: ثم إن أبا نخيلة وفد على أبي العباس السفاح عندما أفضت الخلافة إليه، فلما مثل بين يديه استأذنه في الإنشاد، فقال له: من أنت؟ قال: عبدك وشاعرك أبو نخيلة، فقال أبو العباس: لا قرب الله من أبعد نوى ولعنه، ألست القائل: آمسلم فاسمع يا بن كل خليفة. وأنشده الأبيات، فقال أبو نخيلة:
[الرجز]
كنّا أناسا نرهب الأملاكا
…
ونركب الأعجاز والأوراكا
من كل شىء ما خلا الإشراكا
…
وكلما قد قلت في سواكا
زور فقد كفّر هذا ذاكا
…
إنّا انتظرنا زمنا إياكا
ثم انتظرنا بعده أخاكا
…
ثم انتظرنا لهما أباكا
فكنت أنت للرجاء ذاكا
فعفا عنه أبو العباس السفاح ووصله.
وعن سعيد بن سالم البابلي قال: حدثني من حضر مجلس السفاح، وهو أحفل ما يكون بوجوه قريش وبني هاشم والشيعة، وأعيان الناس، فدخل عبد الله بن حسن «1» وبين يديه مصحف، فقال: يا أمير المؤمنين، اعطنا حقّنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف، قال: فأشفق من أن يعجل السفاح بشىء إليه، فلا يريدون ذلك في شيخ من بني هاشم، أو يعيى بجوابه فيكون ذلك نقصا له وعارا عليه، فأقبل السفاح عليه غير مغضب ولا مزعج وقال له: إن جدك عليّا «2» عليه السلام، وكان خيرا مني وأعدل، ولي هذا الأمر فأعطى جديك الحسن والحسين وكانا خيرا منك شيئا؟ وكان الواجب أن أعطيك مثله، فإن كنت فعلت فقد أنصفتك، وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك، فما رد عليه عبد الله جوابا وانصرف، والناس يعجبون من حسن جوابه.
وذكر الغرناطي قال: كان السفاح أبيض «3» طويلا جميلا معبل الجسم»
أقنى الأنف أكحل العينين، كث اللحية مستديرها، سريع الغضب، قريب الرضى، كثير الجود، سديد الرأي، وصولا للرحم شجاعا، تقصّى في قتل بني أمية، قتل منهم ومن أتباعهم أربعين ألفا، وأما جملة من قتل أبو مسلم فألف
ألف وست مائة ألف، وأخذ السفاح نفسه بمحو «1» آثار بني أمية وهدم ديارهم، ونبش عبد الله بن علي قبورهم، إلا قبر عمر بن عبد العزيز، وكان السفاح يقول:[ص 103] ما أبالي بالموت متى طرقني، وقد نلت أملي في بني أمية، أحرقت هشاما بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي الإمام إبراهيم، ثم ينشد:«2»
[البسيط]
لو يشربون دمي لم يرو شاربهم
…
ولا دماؤهم للغيظ ترويني
ثم كان إذا ذكرهم أنشد قول جده العباس بن عبد المطلب: [الطويل]
أبى قومنا أن ينصفونا [فأنصفت]
…
قواطع في أيماننا تقطر الدما «3»
إذا خالطت هام الرجل تركتها
…
كبيض نعام في الوغى قد تحطّما
وأمر يوما بجمع من بقي من بني أمية فجمعوا، وفيهم عمر بن عبد الملك بن مروان، فأكرمه وأجلسه معه على سريره، فغاظ ذلك أبا مسلم، فأمر سديفا «4» فأنشده شعرا منه:
[الخفيف]
لا يغرّنك ما ترى من رجال
…
إنّ تحت الضلوع داء دويّا
فضع السيف وارفع الصوط حتى
…
لا ترى فوق ظهرها أمويّا «1»
فتنفس السفاح الصعداء ثم التفت إلى عمر بن عبد الملك وقال له: كيف رأيت هذا الشاعر، فأنطقه الحين فقال: شاعرنا أشعر منه حيث قال فينا:
[البسيط]
شمس العداوة حتى يستقاد لهم
…
وأرجح الناس أحلاما إذا قدروا
فغضب السفاح وكل من حضره من أهل بيته، وقالوا: تحدثهم أنفسهم بالأمر، فألقى السفاح قلنسوة الأموي، وأمر العبيد فوضعوا فيهم السيوف وقتلوهم عن آخرهم، ثم التفت إلى عمر وقال له: ما أظن الأمير يحب البقاء بعدهم، فقال: لا، فأمر بإقامته، فأقيم، وضربت عنقه، وجروا بأرجلهم حتى ألقوا في رحبة القصر، وعليهم سراويلات الوشي، ثم إن سليمان بن هشام قدم على السفاح، وكان قد فرّ منه إلى السند، فأكرمه وأعظمه وقربه وصيّره في جلسائه، لظرفه [ص 103] وعقله وآدابه وفصاحته ودماثة خلقه، فحسده أبو مسلم، فأمر سديفا فأنشده:
[الخفيف]
أظمأتنا بنو أمية حتى
…
ما غبطنا مسوغا للحياة
كيف بالعفو عنهم وقديما
…
قتلونا بالضرب والمثلات
أين زيد وأين يحيى بن زيد
…
يا لها من مصيبة وترات
والإمام الذي أصيب بحرّان
…
إمام التقى ورأس الهداة
لا تزال الصدور آلمة ما
…
لم تنل من أميّة الثارات
فتنفس السفاح الصعداء، ثم أمر بسليمان وابنيه فقتلوا، ثم إن شاعرا من