الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الطويل]
سقاك ابن مروان من الغيث مسبل
…
أجشّ سماحيّ يجود ويهطل
فما في حياة بعد موتك رغبة
…
لحر وإن كان الوليد يؤمّل
ثم:
104- دوّلة ابنه الوليد بن عبد الملك
أبي العباس «1» ، عمّر بيوت الله التي أذن أن ترفع، وسطر في صحفه من أجرها [ص 268] ما ينفع، عمّ المساجد الثلاثة التي تشدّ لها الرحال، ولمّ شعثها في أيسر حال، وعني بمسجد دمشق، حتى انتاش من أيدي النصارى شطره، وكمل بالمساجد قطره، فقوّم شقه المائل، واستسلم كافره المتحايل، فقام المؤذن لا يشوش عليه صوت ناقوس، والإمام لا يخلط عليه ترنم قسوس، وحسم في الشق المائل منه العلة، ونصب وجه المذبح إلى القبلة، وأصبح الدين كله لله من بعد ما أعرض ونأى بجانبه، وساء كفره جهد مناصبه، وعوض النصارى بما كان للمسلمين من نصف كنيسة مريم، وعوّل على ما رآه، وصمم ثم أغرب بناءه، وأغرب سماءه، حتى رفع على السماك سمكه، ووضع بإزاء السماء حبكه، ولو
كان هذا موضع القول لأطلت وأطنبت وأمللت، إلا أن الوليد كان يعاب لبه بالفراغ، ورأسه بخفة الدماغ، كان أخف من خطرة نسيم، وأطيش من نار في هشيم، وكان يتلجلج لحنا، ويتحرج ولا يقول كلاما لا معنى لغالبه، مثل كلام النائم أو السكران، هي ألفاظ إلا أنه لا يفهمها الإنسان، فكان خفيفا لحّانا، لا يقيم لسانه خطاء، ولا عقله امتحانا، وكان على هوجه الشديد، وعوجه عن النهج السديد، شديد المهابة مجيد الإصابة، سعادة أخدمته بها الأقدار، وقدمته إليها أضعاف المقدار، وكان معظما لجانب الحجّاج، حتى إنه كان أمكن عنده بما كان عند أبيه عقدة، وأقرب مكانا ومودة، وإمكانا في رخاء وشدة، وكان الوليد إذا ذكره قال: هو الذي مهّد لمنابرنا، وسهّد جفونه لنوم أكابرنا، يعدد صنعه السالف، وردعه المخالف، ويرى أنه من أكرم زلفه، وأعظم ما جاءه الدهر به من تحفه، وكذلك كان الحجاج له صدق ولاء لا يكذب، وإجماع لا يشذب، حتى إنه لما احتضر كتب إليه كتابا أودعه، ما فارقه به وودعه، زعم فيه أن رضى الوليد سبب مفازه، وموجب دخوله إلى الجنة وجوازه، وقال فيه:[ص 269]
[الطويل]
إذا لقيت الله عني راضيا
…
فإنّ سرور النفس فيما هنالك
ولما رجع الوليد من جنازة أبيه، صعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال:«لم أر مثلها مصيبة، ولم أر مثله ثوابا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، لعظم المصيبة، والحمد لله على حسن العطية، إني قد كفيت ما كانت الخلفاء قبل تتكلم به، فمن كان في قلبه خبّ «1» فليمت بدائه، ومن مال أدبه أملنا رأسه» .
وولى عمر بن عبد العزيز المدينة، وأمره أن يبني مسجدها ويجعله مائتي
ذراع، وبعث بالفعلة من الشام، وكتب إلى ملك الروم بأن يعينه في بنائه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب، ومائة فاعل، وأربعين حملا فسيفساء «1» مذهبة، وبعث إلى عامله بمكة في عمل الفسيفساء، وترخيم الجدر بالمسجد، وبعث في عمارة المسجد الأقصى، وشرع هو في عمارة مسجد دمشق، وقال لأصحابه: أقسمت عليكم لما أتاني كل واحد منكم بلبنة، فجعل رجل من أهل العراق يأتيه بلبنتين، فقال له: ممن أنت؟ قال من أهل العراق، فقال: يا أهل العراق، تفرطون في كل شىء حتى في الطاعة.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أصبغ بن محمد بن محمد بن لهيعة السكسكي، أن الوليد حين بنى مسجد دمشق، مر برجل ممن يعمل فيه وهو يبكي، فقال: ما قصتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كنت رجلا جمّالا فلقيني يوما رجل فقال لي: أتحملني إلى مكان كذا، وذكر لي موضعا في البرية، فقلت: نعم، فلما سرنا بعض الطريق التفت إليّ فقال: إن بلغنا الموضع الذي ذكرته لك وأنا حي أغنيتك، وإن متّ فاحمل جثتي إلى حيث أصف لك، فإن ثمّ قصرا خرابا، فإذا بلغته فامكث إلى ضحوة نهار، ثم عد سبع شرفات من القصر، واحفر تحت ظل السابع قدر قامة، تجد بلاطة، فاقلعها تجد مغارة، ترى فيها سريرين على أحدهما رجل ميت، فاجعلني على السرير الآخر، واحمل ما معك مالا من المغارة وارجع إلى بلدك، فمات الرجل في الطريق، ففعلت ما أمرني به، وكان معي أربعة جمال وحمارة، فأوسقتها كلها مالا [ص 270] من المغارة، وسرت بعض الطريق، وكانت معي مخلاة، نسيت أملأها، وداخلني الشره، فرجعت بها، وتركت الجمال والحمارة، فلم أجد المكان، ورجعت فلم أجد الدواب، فبقيت أدور أياما، فلما يئست رجعت إلى دمشق، ولم أحصل على
شىء، واضطرني الأمر إلى ما ترى أعمل في التراب كل يوم بدرهم، وكلما ذكرت حالي لم أملك نفسي أن أبكي، فقال الوليد: لم يقسم الله لك من تلك الأموال شيئا، وإليّ صارت وبنيت بها هذا المسجد.
وعزل المجذمين في مكان، وأعطاهم، وقال: لا يسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائدا، وكان صاحب بناء واتخاذ مصانع، وكان عند أهل الشام من أفضل خلفائهم. قال ابن الأثير: وفتح في ولايته فتوحات عظام، منها الأندلس وكاشغر والهند، ثم قال: يمر بالبقال فيقف عليه يأخذ حزمة بقل فيقول: بكم هذه، فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها. قلت: وقد قيل إنه أول من تجبّر من الخلفاء، وقال الوليد: أنا أنفق على الكعبة وأكسوها وأطيبها، فعلام يأخذ بنو شيبة هداياها، لأمنعنّهم إياها العام فأرمضهم، وخرج الوليد حاجا، فخرجوا يتلقونه، فوجدوا الحجاج معه، فقالوا له: أنت وإن كنت معزولا عنا، فإنك محمود عندنا، وحرمتنا ما لا تنكر، وقد بلغنا كذا، ففزعنا إليك، فقال: إذا دخلتم على أمير المؤمنين فتجنبوني عنده، ثم سلموا عليه خالي الوجه، ودعوني أكفيكموه، ففعلوا، فلما خرجوا قال الحجاج: على ما يدع هؤلاء وهدايا الكعبة، قال: قد أجمعت على أخذها، قال: فافعل، فاني أشرت بهذا على أمير المؤمنين عبد الملك فقال: أنا أبرأ إلى الله من هذا، فقال الوليد:
أنا أبرأ مما برأ منه أمير المؤمنين عبد الملك، وتركها لهم.
واستعمل عاملا له فأتاه رجل بنصيحة، قال: إن كانت لك رددناها عليك، وإن كانت لنا، فلا حاجة لنا فيها، قال: جار لي أخلّ بمركزه، فقال: بئس الجار أنت، نحن ناظرون فيما ذكرت، فإن كنت صادقا [ص 271] مقتناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن أحببت أن نعفيك عفيناك، قال: اعفني، قال: قد فعلت.
وعن عامر بن عبد الأعلى، قال: حدّث الوليد أن جمع بين هند بنت الحسن
العميلقي، وبين جمعة بنت عابس الإيادي، فقيل لجمعة: أي الرجال أحبّ إليك، [قالت] : الغليظ الكتد «1» ، الظاهر الجلد، الشديد الحدب المسد، ثم قيل لهند: أي الرجال أحب إليك، قالت: القريب الأمد، الواسع البلد، الذي يوفد إليه ولا يفد، فقال الوليد: من هذا الرجل، فقال له هشام بن عبد الأعلى الفزاري: أنت يا أمير المؤمنين.
وحكى المدائني قال: مرض الوليد بن عبد الملك فرهقته غشية، فمكث عامة يومه عندهم ميتا، فبكي عليه، وخرجت البرد بموته، فقدم رسول على الحجاج بذلك، فاسترجع ثم أمر بحبل فشد في يده، ثم أوثق إلى اسطوانة، ثم قال: اللهم لا تسلط عليّ من لا رحمة له، فطالما سألتك أن تميتني قبل أمير المؤمنين، فبينا هو كذلك، إذ قدم عليه بريد بإفاقته، فخرّ ساجدا، وأعتق كل مملوك له، وتصدق بصدقة كبيرة، ولم يكن أحد أسرّ بعافيته من الحجاج، وبعث إليه كتابا بالتهنئة، ومعه من تحف الهند وخراسان، ثم لم يمت الحجاج، حتى ثقل على الوليد، فقال خادم للوليد: إني لأوضّيه يوما لصلاة الغداة، إذ مد يده، فجعلت أصب عليها الماء وهو ساه، والماء يسيل، ولا أقدر أن أتكلم، ثم نضح الماء في وجهي وقال: أناعس أنت، ثم رفع رأسه إليّ فقال: ويلك، أتدري ما جاء الليلة؟ قال: ويلك مات الحجاج، فاسترجعت، فقال: اسكت، فما يسر مولاك أن في يده تفاحة يشمها، وأنه لم يمت، ثم قال: رحم الله الحجاج، لقد كان منا أهل البيت.
وحج الوليد فوافاه محمد بن يوسف أخو الحجاج من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين بنت عبد العزيز امرأة الوليد: اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر [ص 272] بصرفها إليها، فجاءت رسل أم البنين إلى محمد بن
يوسف بقبض الهدايا، فأبى وقال: لا أسلمها حتى يراها أمير المؤمنين، فغضبت ودخلت على الوليد فقالت:[لا حاجة]«1» لي في هدايا محمد، فإنه بلغني أنه أخذها من الناس ظلما وغصبا، وإنه يسخرهم لعملها، فلما حملها إلى الوليد قال له: بلغني أنك اغتصبتها الناس وكلفتهم عملها وظلمتهم، فقال:
معاذ الله، فأحلفه خمسين يمينا بين الركن والمقام أنه ما ظلم أحدا، ولا أصابها إلا من طيب، فحلف فقبلها الوليد، وبعث بها إلى أم البنين. ومات محمد بن يوسف باليمن، أصابه داء انقطع منه.
واستند [الوليد] إلى حائط يلي زمزم، والفضل بن عباس بن أبي لهب يستسقي من زمزم ويقول:
[الرجز]
يا أيها السائل عن عليّ
…
تسأل عن بدر لنا بدريّ
مردد في المجد أبطحيّ
…
زمزم يا بوركت من طويّ
بوركت للساقيّ والمسقيّ
…
أسقي على مأثرة النبيّ
ثم أتى الوليد منها بماء فشربه ومسح منه على وجهه، ولم ينكر عليه قوله، إلا أنه لم يصله حتى كلّم فيه.
وعن مدرك بن حجوة، أن قوما دخلوا على الوليد وعنده أخوه مسلمة، فشكوا أمرا من أمرهم، فلم يبينوا ولا أحسنوا العبارة، فتكلم رجل منهم فأفصح وأوضح، وعبر عن نفسه وعن القوم، فقال مسلمة: ما شبهت كلام هذا الرجل إلا بسحابة لبدت عجاجا. ولما مرض الوليد بن عبد الملك ذكر له موسى بن نصير طبيبا قدم معه من المغرب روميا، فأدخله عليه، وعنده ابن رأس البغل، ويقال: