الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعلى نفسك نح إن
…
كنت لابدّ تنوح
ثم:
58- دولة الهادي
أبي محمد «1» موسى بن محمد المهدي [ص 119] ، كان كريما غيورا حاد المزاج، شرس الخلق، له بادرة لا تؤمن، وإقدام لا يطمئن به، وقد أراد الرشيد على خلع نفسه من ولاية العهد، وراود في ذلك يحيى بن خالد غير مرة، وهو ممتنع عليه، ويقيم له الأدلة على زيف رأيه في ذلك، على ما سيأتي ذكره في مواضعه من هذا الكتاب، ولم يطل بالهادي فسيح أجل، ولا تراخى به عنان مهل، حتى ساورته المنون، وسارعته الشهور لا السنون، فمال عرشه في أقرب وقت، ومات وأبقى له المقت، واختلف في موته بأي سبب كان، فقيل: أكل رمانا فشرق منه بحبة فمات، وقيل: وقع على قصب فارسي فدخل في دبره فمات، وقيل:
مرض أياما ومات، وقيل: غمّته أمّه الخيزران «2» لإفراط تحجره عليها، وتبرمه من
شفاعاتها، ولما أراد عليه أخاه هارون الرشيد، وكان هارون أحبّ إليها وأكرم منه عليها، فطلبت في الحال يحيى بن خالد ونعته إليه، نعي غير ثكلى ولا فاقد، وكان يحيى عنده محبوسا، فبادر إلى هارون بخبر موسى، فصادف خادما يريد يبشره بولادة مولود ذكر، ولد له تلك الليلة، وهو المأمون، فسابقه في الدخول عليه وبادره بالسلام وقال: أهنيك بالخلافة وغلام.
وعن الحسن بن معاذ بن مسلم وكان رضيع الهادي، قال: رأيتني أخلو مع موسى الهادي ولا أجد له هيبة في قلبي، لما كان يبسطني، وربما صارعني فأصرعه غير هائب له، وأضرب به الأرض، فاذا ابليس لبسه الخلافة، ثم جلس مجلس الأمر والنهي، قمت على رأسه، فوالله ما أملك نفسي من الرعدة والهيبة.
وقال إبراهيم المؤذن إن الهادي كان يثب على الدابة وعليه درعان، لا يضع رجله في الركاب، وكان مقتفيا لآثار أبيه في تطلب الزنادقة والإيقاع بهم، لأن أباه أوصاه بذلك، وكان كريما خرقا، وذكر الطبري في حكاية طويلة أنه وهب عبد الله بن مالك، وكان على شرطته أربع مائة بغل دراهم، وعن أبي محمد اليزيدي، قال: دخلت على الهادي فإذا بين يديه سيف عريض كأنه بغلة «1» ، فقلت يا أمير المؤمنين، ما هذا؟ [ص 120] قال هذا سيف عمرو بن معديكرب «2»
الصمصامة، فاستحسنته، فقال لي: قد كنت سألت المهدي أن يهب لي هذا السيف، فضن به عني ومنعنيه، فآليت إن بلغني الله أملي أن أمتحنه، وقد عزمت على أن أدعو غلامي طرخان الخزري، وهو جيد الذراع أن يحضر لي صخرة سوداء طولانية من حجارة القصارين، فأتقدم إليه أن يجمع يديه في السيف ثم يضرب به الرأس الدقيق من الصخرة، فإن سلم سلم، وإن يقطع تقطع، قال: فلم أزل أسأله إعفاء السيف من الامتحان، وأقول شرف من شرف العرب، وسيف لا يوجد مثله، فأبى ودعا غلامه طرخان، فجاء بالصخرة، فقلت:
يا أمير المؤمنين، فإذا لم تطعني فاعمل له ما تبقي على الدهر، تدخل من بالباب من الشعراء حتى يحضروا امتحانه، فإن سلم وصفوه، وإن تقطع رثوه، فأمر بإحضارهم، ثم أمر طرخان بامتحانه، فحسر عن ذراعيه وهزه، وجمع يديه في قائمه، ثم ضرب به الصخرة فمضى فيها، حتى قطعها، ولم يصبه شىء، فلم يقل أحد أرضى من قول أبي الغول، قال:
[الخفيف]
حاز صمصامة الزبيدي عمرو
…
من جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو وكان فيما علمنا
…
خير ما أغمدت إليه الجفون
أخضر اللون بين حدّيه برد
…
من دباج تميس فيه المنون
أوقدت قومه الصواعق نارا
…
ثم شابته بالذعاف القيون
وكأنّ الفرند والرونق الجا
…
ري في صفحتيه ماء معين
ما يبالي إذا الضريبة خانت
…
أشمال سطت به أم يمين
فوصله بعشرة آلاف درهم، وخلع عليه وحمله، ثم أمر لكل واحد من الشعراء خمسة آلاف درهم.
وأدخل عليه رجل جعل يقرره بذنوبه ويتهدده، فقال الرجل اعتذاري مما تقول رد عليك وإقراري به يوجب عليه ذنبا، ولكني أقول: إن كنت ترجو في العقوبة رحمة فلا تزهدنّ عند [ص 121] المعافاة في الأجر، فأمر بإطلاقه.
وعن علي بن يقطين قال: إني لعند الهادي مع جماعة إذ أتاه خادم، فساره بشىء، فنهض سريعا وقال: لا تبرحوا، ومضى، ثم جاء وهو يتنفس، فاستلقى على فراشه، ثم قال لخادم معه، على يده طبق مغطى بمنديل: ضع ما معك، فوضع الطبق وكشف المنديل، فاذا رأسا جاريتين، لم أر والله أحسن من وجوههما، ولا من شعورهما، وإذا على رؤوسهما الجوهر المنظوم على الشعر، وإذا رائحة الطيب تفوح، فأعظمنا ذلك، فقال: تدرون ما شأنهما؟ قلنا: لا، قال: بلغنا أنهما يتحابان، فوكلت هذا الخادم بهما ينهي إليّ أخبارهما، فجاءني فأخبرني أنهما قد اجتمعا، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد، فقتلتهما، ثم قال: يا غلام، ارجع بالرأسين، قال: ثم رجع في حديثه كأن [لم] يصنع شيئا.
وعن عمر بن شبّة أن علي بن الحسين بن الحسن بن علي، تزوج رقيّة بنت عمرو العثمانية، وكانت تحت المهدي، فبلغ ذلك الهادي، فأرسل إليه فحمله، فقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين، فقال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي صلى الله عليه وسلم، فأما نساء غيره فلا ولا كرامة، فشجه بمخصرة كانت في يده، وأمر بضربه خمس مائة سوط، فضرب، وأراده أن يطلقها، فلم يفعل، فحمل في نطع وألقي ناحية، وكان في يده خاتم كسرى، فرآه بعض
الخدم، وقد غشي عليه من الضرب، فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقها، فصاح فأتى موسى فأراه، فاستشاط وقال: أتفعل هذا بخادمي مع استخفافك بأبي وقولك لي، فقال: سله ومره أن يضع يده على رأسك وليصدقك، ففعل فصدقه الخادم، فقال: أحسن والله، وأنا أشهد أنه ابن عمي، ولو لم يفعل لانتفيت منه، ثم أمر بإطلاقه ووصله.
وذكر سعيد بن سالم قال: كنت مع الهادي بجرجان، فأتاه نعي المهدي والخلافة، فركب البريد إلى بغداد في قوم معه، فسرنا بين بساتين جرجان، فسمع صوتا فيها من رجل يتغنى، فقال لصاحب شرطته: عليّ بالرجل [ص 122] الساعة، قال: فقلت ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بن عبد الملك، بينما هو في متنزه له ومعه حرمه، فسمع في بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته، فقال: عليّ بصاحب الصوت، فأتي به، فلما مثل بين يديه، قال: ما حملك على الغناء، وأنت إلى جنبي ومعي حرمي، أما سمعت أن الرماك «1» إذا سمعت صوت الفحل حنت إليه؟ يا غلام جبه، فجبّ الرجل، فلما كان في العام المقبل، رجع سليمان إلى ذلك الموضع فجلس مجلسه الذي جلس فيه، فذكر الرجل وما صنع به فقال: عليّ بالرجل الذي كنا جببناه، فأحضروه، فلما مثل بين يديه قال: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت فكافأناك، قال: فو الله ما دعاه بالخلافة، ولكنه قال: يا سليمان، إنك قطعت نسلي، وذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك أو بعت فوفيناك، لا والله حتى أقف بين يدي الله، فقال الهادي: يا غلام، ردّ صاحب الشرطة، فرده، فقال: لا تعرض للرجل.
وولد الهادي سنة ست وأربعين ومائة، وتوفي سنة سبعين ومائة، وعمره أربع