الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه الدولة الأموية
وانساق فيها ذكر ابن الزبير، لأن أيامه تخللتها وشغلتها مدة ما أخلتها، وأتينا بهذه الدولة الأموية مؤخرة هنا، وهي مقدمة [ص 221] في الزمان على حسب النسب، والكل من جوهر منه ما طفا، ومنه ما رسب.
97- دولة معاوية بن أبي سفيان
صخر بن حرب بن أمية «1» ، الأمية الأصغر بن عبد شمس بن عبد مناف، وزعم قوم أن لهم ألقابا مثل ألقاب بني العباس، يجري إلقاؤها بينهم على القياس، وهذا لمن كان منهم بدمشق، ولا يدعي في هذا قول حق، فأما من كان منهم في الأندلس، فإنهم تعرفوا بعواري أعلامها، وتشرفوا بطوارق أحلامها، ونحن لا نذكر معهم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ لم يكن لذكره هنا معنى، ولا مع الخلفاء الراشدين مجنى، وإنما نذكر دولة بني حرب
ومروان من لدن معاوية إلى آخر أوان.
كان معاوية صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتب الوحي منذ أسلم، ثم كانت له منزلة قريبة وصلة بأم حبيبة، أسلم يوم فتح مكة، وفتّ في مهاب الكفر شركه، وكان يقول إنه أسلم من قبل، وإنما كان يكتم إسلامه ويظهر لأبيه مطاوعته واستسلامه، وإنما هي دعوى الله أعلم بغيبها، وأحكم بما فيها جلاء ريبها، وإنما إجماع المحدثين والقديمين والمحدّثين على أنه هو وأبوه وأخوه وذووه من مسلمة الفتح قولا ثبتا، وقطعا بتا، طلقاء الفتح، وعتقاء الصفح، أخذ العباس رضي الله عنه لأبي سفيان الأمان، وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل إسلامه على ما كان، وكرّمه بأمور منها أنه كل من دخل دار أبي سفيان على ما تقدم من السيرة، ثم كانت إلى الله السريرة، فأما الظاهر فإنهم من المؤلفة قلوبهم، والمؤلّبة على أول الإسلام وآخره حروبهم، وكان معاوية رضي الله عنه كثير السؤدد لا يخف كالجبل القردد «1» بحر لا يدرك قراره، وطود لا يدهك «2» وقاره، وفحل لا يرد نفاره [ص 222] ، ومنصل لا يحد غراره، طبع الحلم فيه غريزة، ووضع السداد فيه نحيزة «3» ، ولم يكن أوسع منه بطانا ولا أمنع منه سلطانا، لا يؤثر ذنب في غزير حلمه، ولا يؤاخذ مسيئا بكبير جرمه، لو أن أمله في النجم لبلغه، أو في اليم لسوغه، بحيل أصيد من الفخاخ، وأجول في الفضاء من الرخاخ «4» ، بتلطف لو أراد لتشرب في مسام الزجاج، وعذب به مذاق البحر الأجاج، أمّره أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
بعد أخيه يزيد، وقرره على الشام كما يريد، فقرت بها قرارته، وأقمرت فيها دارته، وتحبّب إلى أهلها حتى كأنه بينهم ربي، أو لهم خبي، لتألفه لأهوائهم، وتعرفه لأدوائهم، بما دخل به على قلوبهم، لسد خلل مطلوبهم، فاستحمل طوياتهم، واستعبد نياتهم، حتى اتخذهم شيعة، وأنفذهم سهاما في كل وقيعة، واستمر حتى قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فقام يطلب بدمه، ويبدي التغصص بندمه، وشهر بالبكاء دمعته، وشهر بالانتكاء سمعته، وقال:
أنا ولي عثمان، لا أرجع بأربع ولا بثمان، لا أبيع دمي بالأثمان، ولا أتبع قدمي إلا المضرج بدمه ذلك الجمان، وذلك دين لم يقره أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه على الشام واليا، ولم يقله للإسلام كاليا.
قال ابن عباس رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، ولّه شهرا واعزله دهرا، فقال:(وما كنت متخذ المضلين عضدا)«1» ، وكذلك قد كان، قال له المغيرة «2» ، وهو أحد العرب دهاء، وأحق بحد لا يطرف عنه عينه التهاء، فأجابه بنحو فحوى ذلك الجواب، وكان سوى ما قصد الصواب، فلما رأى المغيرة أنه لا يقبل رأيه، تركه وصوب له رأيه وهو مهلكه، فأتاه ابن عباس والمغيرة قد خرج
من عنده وما حرج نار رأيه من زنده، فلما دخل عليه قال له: ما قال لك المغيرة وما أجبته؟ فلما قص عليه القصص، قال: ولم خالفته وقد [ص 223] نصحك والله أولا، وغشك ثانيا، وقرب له الرأي فلم يكن له مدانيا، فلما أتى كتاب عليّ معاوية ألقاه، وقبله صدر الحيل ولقاه، وأيّد بعمرو بن العاص رضي الله عنه، وأدرج طلب الخلافة في أمر القصاص، فنشاب تلك الحروب السجال، والحرور المتلفة لمهج الرجال، حتى كادت تأتي على الإسلام، وتحوي في حضانه السيوف من لم يبلغ الاحتلام، وبإجماع العلماء أن حزب الشام هم البغاة الناطق كتاب الله بحربهم المصيب عليّ رضي الله عنه في قتال حزبهم، ولا يعدّ أهل الحق لمعاوية خلافة، إلا منذ سلم إليه الحسن، فسلم من الفتن.
وكانت أمه هند «1» بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان له بيت للأضياف يغشاه الناس فيه بغير إذنه، فقعد فيه يوما ومعه هند، ثم خرج عنها وتركها به نائمة، فجاء بعض من كان يغشى البيت فدخل عليها، وخرج فجاء الفاكه ونبهها وقال لها: من هذا الذي خرج من عندك؟
قالت له ما انتبهت حتى نبهتني، فقال لها: الحقي بأهلك، فخاض الناس في أمرهم، فقال لها أبوها: أتبيني شأنك؟ فقالت: والله يا أبة إنه لكاذب، فخرج
به وهند معه ليحاكمه إلى بعض كهان اليمن، فلما قاربوه تغير وجه هند، فقال أبوها: ألا ذلك قبل أن يشتهر خروجنا في الناس، قالت: والله ما ذلك لمكروه قبلي، ولكنا نأتي بشرا يخطئ ويصيب، ولعله يسمني بميسم يبقى عليّ، قال: صدقت، وسأختبره، فأصفر لفرسه فأدلى، فعمد إلى حبّة برّ فأدخلها في إحليل الفرس، ثم أوكأ «1» عليها، فلما نزلوا على الكاهن قال له: إنّا قد أتيناك في أمر وقد خبّأت لك شيئا أختبرك به، فما هو؟ قال: ثمرة في كمرة، قال:
أبن «2» ما هذا؟ قال: حبة بر في إحليل مهر، قال: صدقت، فانظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يمسح على رأس كل امرأة منهن ويقول: قومي لشأنك، حتى بلغ هندا [ص 223] مسح على رأسها وقال: قومي غير رشحاء ولا زانية، وستلدين ملكا اسمه معاوية، فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها، فأزالت يدها من يده وقالت: والله لأحرصن أن يكون من غيرك، فتزوجها أبو سفيان فولدت له معاوية.
وعن أبي السائب قال: كان رأس معاوية كبيرا، فقال أبو سفيان: والله ليسودنّ قريشا، فقالت هند: ثكلته إن لم يسد «3» العرب قاطبة، وحكي أن هندا لما فارقها الفاكه ورآها الكاهن اليمني، قالت لأبيها: إنك زوجتني ولم تؤامرني في نفسي، فعرض ما ترى، فلا تزوجني أبدا زوجا حتى تعرض عليّ خصاله، فخطبها بعد ذلك سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب، فدخل عليها أبوها فقال:
[الطويل]
أتاك سهيل وابن حرب وفيهما
…
رضى لك يا هند الهنود ومقنع
فما منهما إلا كريم مرزّأ
…
وما منهما إلا أغرّ سميدع
فدونك فاختاري، فأنت بصيرة
…
ولا تخدعي إن المخادع يخدع
قالت: فسّر لي خصالهما، فبدأها بذكر سهيل، فقال: أما إحداهما ففي ثروة وسيطة من العشيرة، إن تابعته يأتيك، وإن ملت عنه حط إليك تحكمين عليه في ماله وأهله، وأما الآخر فموسع عليه، منظور إليه في الحسب الحسيب، والرأى الأريب، مدره أرومته، وغرّة عشيرته شديد الغيرة كثير النظرة، لا ينام عن ضبعه، ولا يرفع عصاه عن أهله، قالت: أما الأول، فسيد مصناع للحرة، فما عست أن تلين بعد إبائها، تابعها بعلها فأشرت، وخافها أهلها فأمنت، فساءت عند ذلك وقبح هناك دلالها، فإن جاءت بولد من هذا أجمعت، وإن نجبت فعن خطأ ما أنجبت، فاطو ذكر هذا عنّي، وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة الحرة العفيفة، وإني التي لا تريب له عشيرة فتغيره، ولا يصيبه مذعر فيضيره، فزوجنيه، فزوجها من أبي سفيان، ويقال إنه أهديت [ص 225] للكعبة جزر من أحد ملوك الهند، وقال: لا ينحرها إلا أعز من بمكة، فقالت له هند وهو في سابعها، اخرج لئلا يسبقك أحد إلى هذه الكرامة، فقال لها: دعيني وشأني، والله لا ينحرها أحد إلا نحرته، فربطت الجزر بفناء الكعبة حتى خرج أبو سفيان من سابعه فنحرها.
وأما ما كان بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، فلا حاجة لنا إلى ذكره لشهرته، إلا أن الإجماع على أن عليا رضي الله عنه، قاتل الفئة الباغية حزب معاوية، ولما استثبت له الأمر، دخل عليه سعد بن أبي وقاص «1» رضي الله عنه،
فقال: السلام عليك أيها الملك، فضحك معاوية وقال: ما كان عليك يا أبا إسحاق رحمك الله، لو قلت يا أمير المؤمنين، فقال: أتقولها جذلان ضاحكا، والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به.
وقال معاوية: لو وزنت بالدنيا لرجحت بها، ولكني وزنت بالآخرة فرجحت بي، ويقال إنه [أول] من حول الخلافة ملكا، وأول من ترك حدا من حدود الله، ترك رجلا وجب عليه القطع، وأما بعد غوره، فقد حكي أنه قال لعمرو بن العاص «1» : أينا أدهى، قال: أما في البديهة فأنا، وأما في الأناة فأنت، قال معاوية: اصغ لي أسارك بشىء، فأدنى رأسه، وكانا خلوين يتساران، فقال له معاوية غلبتك. أيها الداهية، هل هاهنا أحد أسارّك دونه، وقال له يوما: ما بلغ
من دهائك؟ فقال: لم أدخل في أمر إلا خرجت منه، قال معاوية: لكني لم أدخل في أمر فاحتجت إلى طلب الخروج منه، وحكي أنه أسر رجل من قريش فحمل إلى صاحب القسطنطينية، فكلمه ملك الروم، فأجابه بجواب لم يوافقه، فقام إليه رجل من بطارقته فوكزه، فقال القرشي: وا معاويتاه فقد أعقلت أمورنا وأضعتنا، فأتاه الخبر، فطوى عليه، حتى احتال في فدائه، فلما وصل سأله عن اسم البطريق، فلما عرفه أرسله إلى رجل من قواد صور، وكان من قواد البحر المشاهير بالنجدة والبأس، وقال له: أنشئ مركبا يكون له مجاذيف [ص 226] في جوفه وسافر إلى بلاد الروم، على أنك سافرت مستترا منا، وتوصل بملك الروم ومكّنه، واحمل الهدايا إلى جميع أصحابه، ولا تعرض لفلان، يعني الذي لطم القرشي، واعمل كأنك لا تعرفه، فإذا كلمك وقال لك: لأي معنى تهادي أصحابي وتتركني، اعتذر إليه وقل له، أنا رجل أدخل إلى هذه المواضع متسترا ولا أعرف إلا من عرفت به، فلو عرفت بك لهاديتك كما هاديت أصحابك، ولكني إذا انصرفت إليكم مرة أخرى سأعرف حقك، فلما انصرف إليهم ثانية هاداه وألطفه، وأربى في هديته على أصحابه، حتى اطمأن إليه البطريق، ثم قال له: كنت أحب أن تجلب إليّ من بلاد المسلمين بساط ديباج يكون على ألوان الزهر، فقال له: نعم، ثم رجع إلى معاوية فأخبره بما طلب، فأمر أن يشترى له بساط على ما وصف له، وقال له: إذا دخلت وادي القسطنطينية أخرج البساط وابسطه على ظهر المركب، وتربص حتى يصل إليه الخبر، لعله يحمله الشره على الدخول إليك، فاذا حصل عندك، عرّفت رجالك بالإمارة ليخرجوا المجاذيف المخبأة وتكر به راجعا إلى بلاد الإسلام، ففعل ما أمره به، فلما بسط ذلك البساط على مركبه، وأتى البطريق الخبر، فحمله الحرص والنشاط إلى أن دخل إليه، فلما حصل في المركب أظهر الإمارة التي كانت بينه وبين رجاله، وكرّ به راجعا إلى بلاد الإسلام، حتى وصل به إلى معاوية، فأحضر معاوية القرشي، وقال له: هذا
صاحبك؟ قال: نعم، قال: فقم فاصنع به مثل ما صنع بك ولا تزد، فقام القرشي فوكزه كما كان فعل به العلج، ثم قال معاوية للعلج: ارجع إلى ملكك وقل له: تركت ملك الإسلام يقتص ممن حولك، ثم قال للذي أتى به انصرف به إلى أول أرض الروم واتركه واترك له البساط، وكل ما سألك أن تحمله إليه من هدية، فانصرف به إلى فم وادي القسطنطينية فوجد ملك الروم قد صنع [ص 227] سلسلة على فم الوادي، ووكل بها الرجال، فلا يدخل أحد الوادي إلا بإذنه، فأخرج به العلج وكل من كان معه ومن معه، فلما وصل إلى ملكه وصف له ما صنع به معاوية، قال: هذا ملك كثير الحيلة، فعظم معاوية في أعينهم، وفي نفوسهم، فوق ما كان.
ومن حيله التي انعكست عليه أمر زينب بنت إسحاق زوج عبد الله بن سلام القرشي، وكان واليا على العراق لمعاوية، وكانت زينب مثلا في نساء زمانها، جمالا ومالا وشرفا وأدبا، وكان يزيد بن معاوية قد سمع بما هي عليه، ففتن بها، فلما عيل صبره فاستراح بالحديث إلى بعض خصيان أبيه، وكان ذلك الخصي خاصا بمعاوية، فذكر له ذلك، فبعث معاوية إلى يزيد، فسأله، فبث له حاله، فقال: مهلا يا يزيد، فقال: أتأمرني بالمهل وقد عيل الصبر، فقال: اكتم يا بني أمرك، فإن البوح به غير نافعك، والله بالغ أمره فيك، ثم أخذ معاوية في الحيلة ليزيد، فكتب إلى عبد الله بن سلام أن أقبل حين تنظر كتابي هذا لأمر فيه حظك، فلما قدم عليه ابن سلام، أمر معاوية أن ينزل منزلا قد هيأه له، وأعد فيه نزله، ثم قال لأبي هريرة وأبي الدرداء، وكانا يومئذ عنده: إن الله قد قسم بين عباده نعما أوجب عليهم فيها شكرها، وحتم عليهم حفظها، فحباني منها بأتم الشرف ليبلوني، أشكر أم أكفر، وأول ما ينبغي للمرء أن ينفّذه أمر من لا غناء به عنه، وقد بلغت لي ابنة أريد إنكاحها، وقد رضيت لها عبد الله بن سلام القرشي، لشرفه ودينه وفضله، ثم قال لهما، ألا فاذكرا ذلك له، وكنت قد
جعلت لها في نفسها شورى، غير أني أرجو أن لا تخرج من رأيي، فأتيا ابن سلام، فذكرا ذلك له، ثم دخل على ابنته فقال لها: إذا دخل إليك أبو هريرة وأبو الدرداء، فعرضا عليك أمر ابن سلام، قولي لهما: عبد الله كفء كريم، وقريب حميم، غير أن تحته زينب [ص 227] بنت إسحاق، وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء، فأتناول منه ما يسخط الله فيه، ولست بفاعلة حتى يفارقها، فلما ذكرا ذلك لابن سلام قال لهما: حبذا ذلك، ومن لي به، فجاءا معاوية فذكرا له ما قال، [قال] : فدخلا إليها فاستأمراها، فلما دخلا إليها، قالت لهما ذلك القول، فقال: اذهبا فأعلماه، فلما أتياه فأعلماه، ظن أنه لا يمنعها منه إلا فراق زينب، أشهدهما بطلاقها وبعث بهما إليه خاطبين، فلما أتياه أظهر الكرامة لفعله، وقال: ما كنت لأستحسن له طلاق امرأته، فانصرفا إلى غد ثم استأذناها، ثم كتب إلى ابنه يزيد بالخبر، ثم شرع في مطل ابن سلام والأخذ به من يوم إلى يوم، ثم أبت بنت معاوية إلا المنع، فعلم أنه إنما خدع، فقال: ليس لأمر الله راد، ولا لما لابد منه صاد، فإن المرء وإن كمل له حلمه، واجتمع له عقله، واستد «1» رأيه ليس بدافع عن نفسه قدرا برأي ولا كيد، ولعل ما سولوا به، واستجدلوا به «2» ، لا تدوم لهم سروره، ولا يصرف عنهم محذوره، فلما انقضت أقراؤها، وجه معاوية أبا الدرداء «3» إلى العراق خاطبا
لزينب على ابنه يزيد، خرج حتى قدمها، وبها يومئذ الحسن بن علي رضي الله عنهما، فبدأ أبو الدرداء بزيارته، فلما رآه قام إليه وصافحه إجلالا لصحبته، ثم قال له: ما أتى بك يا أبا الدرداء؟ قال: وجهني معاوية خاطبا على ابنه يزيد، زينب بنت إسحاق، فقال له الحسن، لقد كنت أريد نكاحها، وما أخرته إلا لينقضي إقراؤها، فاخطب رحمك الله عليّ وعليه، وابذل لها من المهر مثل ما بذل لها معاوية عن ابنه، فقال: أفعل، فلما دخل عليها أعلمها بما كان، فقالت: يا أبا الدرداء، لو أن هذا الأمر جاءني وأنت غائب، لأشخصت فيه الرسل إليك واتبعت فيه رأيك ولم أقطعه دونك، فأما إذا كنت أنت المرسل، فقد فوضت أمري بعد الله إليك، وجعلته في يديك، فاختر لي أرضاهما لديك، والله شاهد عليك، فاقض في قصدي بالتحري ولا يصدّنّك اتباع هوى، فليس أمرهما عليك خفيا، ولا أنت عما طوقتك [ص 229] غنيّا، فقال أبو الدرداء:
أيتها المرأة، إنما عليّ إعلامك، وعليك الاختيار لنفسك، قالت: عفا الله عنك، إنما أنا ابنة أخيك، ولا غنى لي عنك فلا يمنعك رهبة أحد من قول الحق فيما طوقتك، فقد وجب عليك أداء الأمانة فيما حملتك، والله خير من روعي وخيف، إنه بنا خبير لطيف، فلما لم يجد بدّا من القول قال: أي بنية، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ، والله أعلم بخيرهما لك، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا شفتيه على شفتي حسن، فضعي شفتيك حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم شفتيه، قالت: قد اخترته، فتزوجها الحسن عليه السلام، وساق لها مهرا عظيما، وبلغ معاوية ما فعل أبو الدرداء فتعاظمه جدا، ولامه شديدا، وقال: من يرسل ذا بله وعمى ركب خلاف ما يهوى، وكان عبد الله بن سلام قد استودعها مالا قبل شخوصه إلى الشام، مالا عظيما، فلما طال مكث ابن سلام بدمشق، جفاه معاوية لقوله فيه إنه خدعه، فشخص إلى العراق، وهو لا يظن إلا جحودها الوديعة لطلاقه لها من
غير ما سبب، وبقي لا يعرف ما يصنع، فأتى الحسن رضي الله عنه، فأخبره بخبر الوديعة ليقول لها، فلما أتاها قال لها إن ابن سلام أتاني فذكر لي أنه كان استودعك مالا فأد إليه أمانته، فإنه لم يقل إلا صدقا، ولم يطلب إلا حقا، قالت: لعمري لقد صدق، ولقد أودعني مالا لا أدري ما هو، فادفعه إليه بطابعه، فأثنى عليها الحسن خيرا، ثم قال لها: ألا أدخله عليك حتى تبرئي إليه منه كما دفعه إليك، ثم لقي عبد الله وقال له ما قالت، فادخل عليها وتوفّ مالك منها، ثم أخذه ودخل به عليها، فأخرجت إليه المال، فشكر وأثنى، ثم أعطاها بعضه وقال: خذي فهذا مني، فبكيا حتى علت أصواتهما بالبكاء أسفا على ما ابتليا به من الفراق، فرقّ الحسن لهما ثم قال: اللهم [ص 230] أنت تعلم أني لم استنكحها رغبة في مالها، ولا جمالها، ولكن أردت إحلالها لبعلها، وأنا أشهدك أنها طالق ثلاثا، فشكراه، فسألته زينب أن تعيد إليه ما كان ساق إليها، فأبى، فلما انقضى إقراؤها تزوجها ابن سلام، ثم بقيا زوجين متصافيين إلى أن فرّق الموت بينهما، وحرمها الله يزيد بن معاوية.
وكان معاوية يقول: لا أضع سيفي حين يكفيني سوطي، فإذا لم أجد بدا من السيف ركبته، ومما روي من حلمه أنه كلّم الأحنف «1» يوما كلاما عاتبه
فيه، فقال له الأحنف: مهلا يا أمير المؤمنين، فإن القلوب التي أبغضناك بها بين جنوبنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي عواتقنا، وإن الخيل التي طاردناك بها لعلى مرابطنا، وإن الرجال الذين دهمناك بهم لحول بيوتنا، فإياك وما يردها فتية، فقال: عذرا يا أبا بحر.
وبعث معاوية إلى رجل من الأنصار بخمس مائة دينار فاستقلها، فأقسم على ابنه أن يأتي معاوية فيضرب بها وجهه، فانطلق حتى أتاه، فقال: ما جاء بك يا ابن أخي، قال: يا أمير المؤمنين، إن لأبي طرّة، وقد قال لي كيت وكيت وعزمة الشيخ على ما قد علمت، فوضع معاوية يده على وجهه، وقال: افعل ما أمرك به أبوك، وارفق بعمك، فرمى بالدنانير، وأمر معاوية للأنصاري بألف دينار، وبلغ الخبر يزيد، فدخل على معاوية مغضبا، فقال: لقد أفرطت في الحلم حتى خفت أن يعدّ ذلك منك ضعفا، فقال: أي بني، إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمة.
وذكر [أبو] عمرو بن العلاء أن جابر بن عبد الله الأنصاري، وفد على معاوية فاستأذن، فأبطأ عليه الأذن، ثم أذن له، قال له: ويلك يا معاوية، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من حجب ذا حاجة وفاقة حجبه يوم حاجته وفاقته)، فقال له معاوية: وأنت [أما] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستلقون بعدي يا معاشر الأنصار أثرة) ، فلم لا صبرت يا جابر [ص 231] ، فخرج جابر مغضبا، فركب ناقته يريد المدينة، فأقبل يزيد على أبيه وقلّ ما تكلم بخير، قال: بعيد الشقة أتى للزيارة أتاك فحجبته
وتجهمته، قال: لم أصبر عندما سمعت كلامه، قال: الحقه، فأعطه خمس مائة دينار، فلحقه يزيد، فقال له: إن أبي يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بهذه على بعض سفرك، فقال له جابر، ارددها عليه وقل له:
[الطويل]
وإني لأختار الحياء على الغنى
…
إذا اجتمعا والصبر بالبارد المحض
وأنزع أثواب الغنى ولقد أرى
…
مكان الغنى ألا أهين لها عرضي
فجاء يزيد فأخبر أباه بشعره فقال: ارجع إليه فارددها عليه، وقل له:
سأمنحكم عرضي ولو شئت مسكم
…
قوارع تبري العظم من كلم مضّ
ولا أحرم المعترّ إن جاء طالبا
…
ولا البخل فعل من سمائي ولا أرضي
فعاد يزيد فأخبر جابرا بشعر أبيه، فقال: ارددها عليه وقل له: ما كنت أرى يا بن آكلة الأكباد في صحيفتك حسنة أنا سببها.
وبلغ معاوية أن يزيد ضرب غلاما له، فقال: يا بني كيف طوعت لك نفسك قتل من لا يستطيع امتناعا منك. ولما قدم عبد الرحمن بن حسان على معاوية، طال مقامه، فقال شعرا شبّب فيه بأخت معاوية، فغضب يزيد بن معاوية، فقال لمعاوية: يا أمير المؤمنين، اقتل عبد الرحمن بن حسان، قال: ولم يا بني؟ قال: لأنه شبّب بأختك، قال: وما قال، قال قال:
[الخفيف]
طال ليلي وبتّ كالمحزون
…
ومللت الثواء في جيرون
قال: وما علينا من طول ليله وحزنه أبعده الله، قال: إنه يقول:
ولذاك اغتربت بالشام حتى
…
ظنّ أهلي مرجمات الظنون
قال: وما علينا من ظن أهله، قال: إنه يقول [ص 232]
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوّا
…
ص ميزت من جوهر مكنون
قال: صدق يا بني، وإنها لمن جوهر مكنون، قال: وإنه يقول:
وإذا ما نسبتها لم تجدها
…
في سناء من المكارم دون
قال: بحمد الله هي كذلك، قال: إنه يقول:
ثم خاصرتها إلى القبّة الخضرا
…
ء تمشي في مرمر مسنون
قال: ولا كل هذا، وضحك، وقال: ما قال أيضا، قال قال:
فيه من مراجل ضربوها
…
عند برد الشتاء في قيطون «1»
عن يساري إذا دخلت من البا
…
ب وإذا كنت خارجا عن يميني
تجعل النّد والألوة والمس
…
ك صلاء لها على الكانون
وقباب قد أسرجت وبيوت
…
يطيفوها [كذا] بالآس والزرجون
قال: يا بني، لا يجب القتل في هذا، والعقوبة دون القتل تغريه فيزيد في قوله، ولكن نلقه بالتجاوز والصلة، فوصله وصرفه.
وعن زيد بن عياض قال قال معاوية: الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي، وما تركته للناس فالفضل منّي، قال صعصعة بن صوحان:«2» بل أنت وأقصى الأمة سواء، ولكن من ملك استأثر، فغضب معاوية وقال:
لهممت بك، فقال صعصعة: ما كل من همّ فعل، قال: ومن يحول بيني وبينك، قال: الذي يحول بين المرء وقلبه، قال له: صدقت. ولم يعرض له.
ودخل عليه أبو الأسود الدؤلي «1» ، فإنه ليحدثه إذ حبق، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا عائذ بالله وبسترك، ثم خرج، ودخل عمرو بن العاص فحدثه، فبلغ أبا الأسود، فأتاه فقال: يا معاوية، إن الذي قد كان مني قد كان مثله منك ومن أبيك، ومن لم يؤمن على ضرطة لجدير أن لا يؤمن على أمر الأمة.
وأتى معاوية رجل، فسأله بالرحم، فقال معاوية: ذكرتني رحما بعيدة [ص 233]، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الرحم شنّة إن بللتها ابتلّت، وإن تركتها تقصفت، ثم أخذ يغلظ القول، فقال له معاوية: دع عنك هذا وسل حاجتك، قال: مائة ناقة متبع، وألف شاة ربيّ، فأمر له بذلك.
وعن عنبر القسيم قال معاوية: ما شىء أعجب إليّ من غيظ أتجرعه، أرجو بذلك ثواب الله عز وجل.
وزوّج معاوية ابنته رملة من عمرو بن عثمان بن عفان، فسمعت مروان بن الحكم يقول له وقد عاده: إنما ولي معاوية الخلافة بذكر أبيك، فما يمنعك من النهوض لطلب حقك، فنحن أكثر من آل حرب عددا، فما أظهرت «2» أنها
تسمع، ومكثت إلى أن خرج عمرو بن عثمان حاجا، فاستأذنته في زيارة أبيها، فأذن لها، فأتته فقال لها: ما لك، أطلقك زوجك؟ قالت: الكلب أضنّ بشحمته، وحدثته حديث مروان واستكباره إلى آل أبي العاص، واستقلاله آل حرب، فكتب معاوية إلى مروان:
[الطويل]
أواضع رجل فوق رجل تعدّنا
…
كعدّ الحصا ما إن نراك تكاثر
وأمكم تزجي تؤاما لبعلها
…
وأمّ أخيكم نزرة الولد عاقر
ثم لم يحقدها عليه.
ودخل أعرابي المسجد ومعاوية يخطب، فقال: أيها المتكلم اسكت أنشد جملي، فسكت معاوية، فقال الأعرابي: أيها الناس، أيها الناس، من دعا إلي جمل عليه قتب، فردد القول مرارا، فقال معاوية: أيها الأعرابي، حله حلية سوى القتب، فلعل القتب قد ضاع، ثم مضى في خطبته.
ودخل على معاوية عدي بن حاتم «1» ، وعنده ابن الزبير، فقال ابن الزبير: إن عند هذا الأعور جوابا فأحركه؟ قال: نعم، فقال له: يا عدي، أين ذهبت عينك؟ قال: يوم ذهب أبوك هاربا، وضربت أنت على قفاك موليا، وأنا يومئذ مع الحق [ص 234] ، وأنت على الباطل.
وعن حبيب بن مسلمة الفهري قال: ركب معاوية وأنا معه، فبينا نحن نسير إذ طلع علينا رجل جميل الهيئة، فلم أره أكبر معاوية ولا اكترث له، وأكبره معاوية وأعظمه إعظاما شديدا، ثم قال: أجئت زائرا أم طالب حاجة، قال: لم آت لشىء من ذلك، ولكني جئت مجاهدا، وأرجع زاهدا، فمضى معاوية عنه، فقلت: من هذا يا أمير المؤمنين، قال: هذا عقبة بن عامر الجهمي، قلت: ما أدري ما أراد بقوله، خيرا أم شرا، قال: دعه، فلعمري إن كان أراد الشر إن الشر لعائد بالسوء على أهله، قلت: سبحان الله، ما ولدت قرشية أذل منك، فقال:
يا حبيب أأحلم عنهم ويجتمعون خير، أم أجهل ويتفرقون، قلت: بل تحلم ويجتمعون، ثم قال: امض، قلما ولدت قرشية قرشيا له مثل قلبي، قلت: إني أخاف أن يكون ما تصنع ذلا، قال: وكيف وقد قاتلت عليا فصبرت على مناوأتهم وبغضهم.
وعن سحيم بن حفص قال: كانت لعبد الله بن الزبير أرض إلى جانب أرض معاوية، فاقتتل غلمان معاوية وغلمان ابن الزبير، فكتب ابن الزبير إلى معاوية:
أما بعد، فقد غلبتنا بحمرانك وسودانك، ولو قد التقت حلقتا البطان «1» ، فاستوت بنا وبك الأقدام، علمت أن حمرانك وسودانك لا يغنون عنك شيئا، فقرأ معاوية الكتاب ثم رمى به إلى ابنه يزيد فقال: ما عندك؟ قال: تبعث إليه من يقتله فتستريح من حمقه وعجبه، قال: يا بني، له بنون وعشيرة تمنعه إن بعثت بمائة رجل، أعطيت كل رجل ألفا، فبلغ ذلك مائة ألف، ولا أدري على من تكون الدائرة، فإن غلبوا بعثت ألفا وأعطيتهم ألف ألف، ولكنني أكتب إليه: من معاوية أمير المؤمنين إلى عبد الله بن الزبير، أما بعد، فقد جاءني
كتابك، تذكر أنّا غلبناك بحمراننا وسوداننا [ص 235] ، وأنه إن التقت حلقتا البطان واستوت بنا وبك الأقدام، علمت أن حمراننا وسوداننا لا يغنون عنا شيئا، وإني قد وهبتك ذلك المال بحمرانه وسودانه، فخذه خضرا نضرا، والسلام.
فكتب إليه: لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من عبد الله ابن الزبير، أما بعد، فقد غلبتنا بحلمك، وجدت لنا بمالك، فجزاك الله يا أمير المؤمنين خيرا، فلما أتى الكتاب معاوية قال ليزيد: يا بني، أهذا خير، أم ما أردت.
وأنشد معاوية رجل شعرا قاله عبد الله بن همام السلولي: «1»
[الوافر]
حشينا الغيظ حتى لو سقينا
…
دماء بني أمية ما روينا
لقد ضاعت رعيتكم وأنتم
…
تصيدون الأرانب غافلينا
فقال: ما ترك ابن همام شيئا، وذكر أنه لو شرب دماءنا ما اشتفى، اللهم اكفناه.
وعن المدائني قال، قال معاوية: إني لأرفع نفسي عن أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكبر من حلمي، وعورة لا أواريها بستري، وإساءة لا تمحوها حسناتي.
وكان يقول: لو أن بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت، قيل له كيف؟ قال:
إن جبذوها أرسلتها، وإن خلوها جذبتها.
ومما يؤثر عنه أنه قال لابنه يزيد: اتخذ المعروف عند ذوي الأحساب، لتستميل به مودتهم، وتعظم به في أعينهم، ويكف به عنك عاديتهم، وإياك والمنع فإنه مفسدة للمروءة، وإزراء بالشرف.
ونظر معاوية إلى الهجار العدوي في عباءة فازدراه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها.
وقال يوما: أعنت على عليّ بكتمان سري، وفشي أسراره، وبطاعة أهل الشام لي، ومعصية أصحابه له، وبذلي المال، وإمساكه إياه.
وكان معاوية أكولا نهما، وهو أول من نوّع في [ص 236] هذه الأمة المطاعم.
وحج معاوية، فلما كان بالأبواء «1» ، خرج يستقري مياه كنانة، حتى إذا صار إلى عجوز، فقال لها: من أنت، فقالت: من الذين يقول فيهم الشاعر:
[الطويل]
هم منعوا جيش الأحابيش عنوة
…
وهم نهنهوا عنهم غزاة بني بكر
فقال لها معاوية: فإذن أنت دؤلية، قالت: فإني دؤلية، قال: أعندك قرى؟ قالت: عندي خبز خمير، وحيس «2» كثير، ولبن حزير «3» ، وماء نمير، فأناخ وجعل يأخذ الفلذة من الخبز فيملؤها من الحيس فيغمسه في اللبن ثم يأكل، حتى إذا فرغ قال: حاجتك؟ قالت: حوائج الحي، فنودي فيهم فأتاه الأعراب فرفعوا حوائجهم فقضاها، وامتنعت العجوز أن تأخذ شيئا لنفسها،
وقالت: لا آخذ لقراي ثمنا.
وكان معاوية يجوع في رمضان جوعا شديدا، فشكا ذلك إلى ابن أثال الطبيب، فاتخذ له الكنافة، فكان يأكلها في السحور، فهو أول من اتخذها.
وحكي أن أبا هريرة رضي الله عنه حضر صفين، فكان يصلي خلف عليّ، ويأكل على سماط معاوية، فاذا قامت الحرب اعتزل الفئتين، وقعد على تل هناك ينظر إليهما، فقيل له: ما رأينا رجلا يصنع مثل صنيعك، فقال: الصلاة خلف عليّ أفضل، وطعام معاوية أدسم، والقعود فوق التل أسلم وكان يقال: إنه على سعة كرمه ربما بخل على الطعام. حكي أن رجلا أكل معه فنظر معاوية إلى الرجل فرأى شعرة في لقمة تناولها من الطعام، فال له: أزل الشعرة، فألقاها من يده، ثم أبى أن يأكل، وقام وهو ينشد:
[الطويل]
وللموت خير من زيارة باخل
…
يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وأكل معه صعصعة بن صوحان، فتناول شيئا بين يديه، فقال له معاوية:
لقد أبعدت النجعة، فقال: من أجدب انتجع. وتغدى [ص 237] معه يوما عبيد الله بن أبي بكر، ومعه ابنه بشير، فأكثر ابنه من الأكل، ومعاوية يلحظه، فلما خرج ابن عبيد الله لامه أبوه على ما صنع، ثم عاد عبيد الله وليس معه ابنه، فقال له معاوية: ما فعل ابنك التلقامة، قال: قد علمت أن أكله سيورثه داء.
ولد قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، وتوفي في رجب سنة ستين، ومدة عمره ثمان وسبعون سنة تقريبا، ومدة خلافته تسع عشرة سنة وأشهر، وقبره خارج باب الصغير بدمشق.