الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى:
ولقد أرينا فرعون المعجزات الدالة على صدق موسى في رسالته، وأريناه حجج الله الدالة على توحيده ونفى الشركاء له فكذب وعصى، وأبى ذلك وأعرض قائلا: أجئتنا يا موسى مدعيا الرسالة لربك لتخرجنا من أرضنا بسحرك وحيلتك، جئت يا موسى بآية توهم الناس أنك صادق لتتغلب علينا وتخرجنا من أرضنا وتزيل ملكنا، وتجعله لنفسك، وانظر إلى فرعون وهو يحرض الناس على عصيان موسى ومخالفته، ومن خلال كلامه نفهم أنه كان واثقا أن موسى على الحق، وأن النصر في النهاية له، وقوله بسحرك تعليل مزيف لتغطية الموقف.
وإذا كان الأمر للسحر فلنأتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعدا تحدده زمانا ومكانا، لا نخلفه نحن ولا أنت، اجعل مكانا مستويا وسطا بيننا وبينك حتى لا يكون عذر في التخلف. قال موسى: موعدكم يوم الزينة يوم الاحتفال بوفاء النيل وكان عيدا من أعيادهم القومية، يجتمع الناس فيه من كل حدب وصوب مع السحرة المهرة في المملكة كلها ولعل اختيار هذا الموعد الذي يجتمع فيه الناس اجتماعا كاملا والوقت ضحى، وفيه اتساع للمساجلة والمناقشة والحكم ليكون علو كلمة الله وإظهار دينه على ملأ من الناس كثير، ويكون الحكم على رؤوس الأشهاد في وسط النهار فلا سبيل للإنكار، وليحدث به كل الناس صغيرهم، وكبيرهم. وقد كان ذلك.
فتولى فرعون، وانصرف من ذلك المقام ليهيّئ ما يحتاج إليه، وليشرف بنفسه على الاستعداد لذلك اليوم الخطير، فتولى فرعون فجمع كيده وحيله، وجمع المهرة من السحرة وأتوا مدلين بأنفسهم واثقين من سحرهم طالبين الأجر على ذلك أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ «1» وعدهم فرعون بالجزاء المادي والأدبى ليفرغوا طاقتهم وليعملوا جهدهم في التغلب على موسى.
فلما حضروا قال لهم موسى: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً الهلاك لكم إن اختلقتم على الله كذبا وزورا، إنكم إن فعلتم ذلك فسيسحتكم بعذاب من عنده وسيستأصلكم ويقطع دابركم، وقد خاب وهلك من افترى على الله أو على رسوله كذبا.
(1) سورة الشعراء الآيتان 41 و 42.
فلما سمعوا هذا من موسى أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث، ويتشاورون فيما بينهم، وأسروا نجواهم قائلين: إن غلبنا فسنتبعه، وقيل إنهم لما سمعوا من موسى قوله:
وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً وأسروا فيما بينهم بأن هذا ليس بساحر أبدا.
وقيل كانت نجواهم هي قولهم إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبا بطريقتكم ومذهبكم الأمثل الحسن، وقيل يذهب بأشراف قومكم ويهلكهم.
فأجمعوا كيدكم غدا، وأحكموا أمركم واعزموا عليه ثم ائتوا مصطفين فذلك أدعى إلى تربية المهابة في نفوس النظارة، وقد أفلح اليوم من استعلى وغلب خصمه، وكانت له المكانة إلى الأبد.
فلما التقى الصفان، واجتمع الطرفان قالوا. يا موسى إما أن تلقى أوّلا، وإما أن نكون نحن الملقين أوّلا.
قال موسى. بل ألقوا أنتم أولا، أشار بهذا ليفرغوا جهدهم أولا، ويلقوا بكل أسلحتهم، فلما ألقوا إذا حبالهم وعصيهم يخيل إلى موسى من سحرهم أنها تسعى، وذلك أنهم وضعوا فيها مادة الزئبق التي إذا أحست بالحرارة تحركت واضطربت.
في تلك اللحظة ابتهج فرعون وجنوده وعلية القوم، وأيقنوا أنهم نجحوا، وأن السحرة قد فازوا على خصمهم موسى وهارون، وأنه لا يمكنه أن يأتى بشيء أعظم من سحرهم إذ كل ما في يده عصاه فإذا قلبت حية فهي حية واحدة بين آلاف الحيات.
وفي تلك اللحظة الفاصلة هال موسى ما رأى، وأوجس في نفسه خيفة مما حصل، ودار بذهنه فيما عسى أن يكون لو لم يبعث الله له نصر السماء.
ولكن الله- سبحانه وتعالى العليم الخبير القوى القادر الذي لا يترك عباده المخلصين وحدهم بل هو معهم وقد قال لهما: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى.
وفي هذه اللحظة أمره ربه أن يلقى عصاه التي هي بيمينه فإذا هي حية تسعى ولكنها ليست كحيات السحرة بل أخذت تبتلع حياتهم كلها وتلتهمها بسرعة وخفة.
والله أكبر ظهر الحق وبطل السحر، وجاء الحق وزهق الباطل ودهش آل فرعون والملأ من قومه بل وكل الناس وعلم السحرة- وهم أدرى الناس بالسحر وطاقته
- أن السحر لا يفعل هذا أبدا وإنما هي القوة الإلهية صنعت هذه المعجزة، فخروا لله ساجدين، وآمنوا برب العالمين، رب موسى وهارون مفضلين ذلك على الأجر الدنيوي مؤثرين الحق على الباطل، والباقية على الفانية!! ماذا يفعل فرعون؟ إنه لموقف جد خطير قد جمع الناس جميعا وجمع السحرة من كل مكان، وقد أفهم الشعب الذي يقدسه أن نهاية موسى وهارون في ضحى الغد، يوم يجتمع الناس في وفاء النيل.
ولم يعد موسى وهارون وحدهما بل صار معهما السحرة والعلماء في قومه!! فلا بد أن يختصم الجميع، ويتهم الكل، وإن كان مخالفا للعقل والمنطق.
فقال للسحرة سترا لموقفه: إنه لكبيركم وأستاذكم الذي علمكم السحر ولهو أقوى منكم، وغلب سحره سحركم، وهو يريد بهذا أن يخرج المسألة عن نطاق المعجزة الإلهية إلى دائرة سحر السحرة.
قال هذا مع علمه أن موسى رحل إلى مدين صغيرا، وعاد منها قريبا، ولم يتصل بالسحرة مطلقا فضلا عن كونه أستاذهم، ولكنه المقهور المغلوب يلتمس لنفسه العذر وإن كان لا يغنى شيئا.
ثم أخذ يتجنى عليهم ويؤنبهم بقوله: آمنتم به قبل أن آذن لكم، فهم أذنبوا حيث لم يستأذنوا، وهو لهذا أقسم ليقطعن أيديهم وأرجلهم من خلاف، وليصلبنهم على جذوع النخل، ولتعلمن أيها السحرة أينا أشد عذابا وأقوى؟ وهو إذ يضع نفسه في كفة وموسى في كفة أخرى إنما يستهزئ ويفتخر.
هذا هو فرعون مصر، وذلك بطشه الشديد، وتهديده الكثير، أما الإيمان العميق المبنى على الفهم الدقيق فقد جعل السحرة يقولون: لن نؤثرك يا فرعون ونختارك على ما جاءنا من البينات والهدى لن نفضل نعمتك على ما هدانا الله إليه والذي فطرنا وخلقنا فاقض بما تشاء واحكم بما تريد، إنما تقضى وتحكم في هذه الحياة الدنيا، ولن تنال إلا من جسمنا الفاني تقطع منه أو تقتله أما الإيمان واليقين فذلك شيء لن تنال منه.
وذلك إنا آمنا بربنا وصدقنا برسالة نبينا رجاء أن يغفر لنا خطايانا، وما أكرهتنا عليه من السحر، والله- سبحانه- خير وأبقى، والدار الآخرة للذين يتقون، وكيف