الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى:
واذكر يا محمد وقت أن نادى ربك موسى، وهو بالوادي المقدس طوى والمراد ذكر ما حصل في الوقت من عجائب وأحوال، ولقد ناداه ربك بكلام هو أعلم بكيفيته، والمهم أن موسى عرف ما ناداه به ربه، وقام بما كلفه خير قيام، ناداه، وقال له: أئت القوم الظالمين، قوم فرعون فإنهم ظلموا أنفسهم بالشرك، وظلموا بنى إسرائيل حيث أذاقوهم العذاب الأليم، ألا يتقون هؤلاء الناس؟ ألا يخافون بطش العزيز الجبار؟!! يوم لا ينفع مال ولا بنون.
قال موسى: يا رب إنى أخاف أن يكذبوني ويضيق صدري بما يعملون، ولقد عشت بعيدا عن مصر مدة من الزمن فضعفت لهجتى المصرية، فلا ينطلق لساني بها، وأخى هارون هو أفصح منى لسانا، وأقوى بيانا، ولهم على ذنب، فإنى قد قتلت قبطيا قبل خروجي من مصر، لهذا وذاك فإنى أخاف أن يقتلوني، قال الله- سبحانه وتعالى كَلَّا لن يصيبك شيء أبدا، فالله معك، وناصرك أنت وأخيك، فاذهبا إلى فرعون وملئه بآياتنا ومعجزاتنا، إنا معكم، ولن نترككم لحظة، فالله سميع بصير، لا تخفى عليه خافية.
فأتيا فرعون. فقولا له: إنا رسولا رب العالمين لك ولقومك، فأرسل معنا بنى إسرائيل ليعبدوا ربهم في البرية، ولا تعذبهم يا فرعون
…
قد جئناك بآية من ربك، والسلام على من اتبع الهدى.
طلب موسى من فرعون، أن يرسل معه بنى إسرائيل ليذهب بهم إلى فلسطين قال له فرعون: يا موسى: كيف تجيء بدين يخالف ديننا، وتأتى بأمور على غير رغبتنا؟! ألم نربك فينا وليدا؟ وقد لبثت بين يدينا في بيت الملك مدة من الزمن نحتضنك ونربيك؟ فكيف يصدر هذا منك؟، ومتى كان هذا الذي تدعيه؟ والمراد قر واعترف بأنا ربيناك، ومكثت عندنا وفي بيتنا عددا من السنين، ثم ذكره بفعلة فعلها قبل خروجه من مصر فقال له: قر واعترف بأنك فعلت فعلتك التي فعلتها، وهي قتل القبطي، فعلتها وأنت من الكافرين بقتل نفس بغير حق.
ومن كان هذا وصفه بأن ربي في بيت فرعون، وكان الأليق به ألا يأتى بشيء على غير رغبته ردّا للجميل، ومن قتل قبطيّا، وارتكب مثل هذا الذنب لا يضيف
إلى ذنبه ذنبا آخر هو ترك عبادة الآلهة إلى ديانة غير معروفة وعبادة غير مألوفة، ولذا يرد موسى- عليه السلام بقوله: أما قتل القبطي فقد فعلت فعلتى هذه، وأنا من الضالين الجاهلين الذين لم يعرفوا الحق فيتبعوه، فليس على فيما فعلته توبيخ، وقد خرجت من دياركم، وفررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي من عنده حكما وعلما، وجعلني من الأنبياء، والمرسلين، فليس هذا موضع غرابة وتعجب وإنكار منكم على، وتلك نعمة تمنها على، وهي تربيتي في بيتك؟ وقد استعبدت بنى إسرائيل قومي، والمعنى ما كان لك أن تمن على بأن ربيتني في بيتك، في حال إنك عذبت بنى إسرائيل وأذقتهم سوء العذاب.
محاجة موسى لفرعون في شأن ربه: لما ألحّ موسى في طلب إخراج بنى إسرائيل من مصر إلى فلسطين، وطلب من فرعون وملئه أن يعبدوا ربهم الذي خلقهم، ولم يجد معه التلطف والتذكير بالنعم وخلق هذا العالم قال له فرعون: وما رب العالمين؟
قال موسى: هو رب السموات والأرض وما بينهما، خلق ذلك وابتدعه على أحسن صورة وأكمل نظام، إن كنتم موفقين فاعلموا ذلك، فالتفت فرعون إلى من حوله من ملئه مظهرا العجب قائلا. ألا تسمعون لهذا التخريف، واستمر موسى في كلامه قائلا: هو ربكم ورب آبائكم الأولين، لفت نظرهم إلى شيء هام، وهو أن الرب الحقيقي الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين، فأنتم محدثون. كنتم بعد العدم، وآباؤكم ذهبوا وماتوا بعد أن كانوا موجودين، وفرعون أمره كذلك كان بعد العدم، وسيفنى بعد الوجود، وأما الإله فهو الباقي بعد فناء خلقه، القديم الذي لا أول لوجوده
…
فما كان من فرعون إلا أن قال لقومه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون لأنه جاءنا بشيء لا نعرفه.
وأما موسى فقال: هو الله رب المشرق والمغرب، ورب الكون كله وصاحب الأمر فيه جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وتنزه عن الشبيه والولد والوالد، فهو الإله الحق، لا ما أنتم فيه، إن كنتم تعقلون.
وفي سورة (طه) تتميم لهذا الموقف إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) إلى آخر الآيات.
يا فرعون: إنى رسول رب العالمين، ولما أنكر فرعون ذلك قال له موسى: أتنكر ولو جئتك بشيء مبين من المعجزات والآيات الدالة على صدقى؟!! فقال له فرعون. إن كنت من الصادقين فائت بآية تشهد لك، فألقى موسى عصاه من يده، فإذا هي ثعبان ظاهر، لا شك فيه، يتحرك ويسعى، ووضع يده في جيب قميصه ثم نزعها فإذا هي بيضاء للناظرين.
ولما رأى فرعون وقومه تلك الآيتين الحسيتين اللتين تشهدان لموسى بالصدق قالوا هذا سحر مبين، وهذا ساحر ماهر يموه علينا، ويقلب الحقائق، فهو كبقية السحرة، وليس رسولا لرب العالمين كما يدعى، هذا الذي يريد أن يخرجكم من أرضكم ويتغلب عليكم بسحره، ويأخذ بنى إسرائيل من تحت أيديكم
…
وتشاوروا فيما بينهم: ماذا يفعلون؟ قال بعضهم لفرعون: الرأى أننا نرجئ أمر موسى وأخيه إلى موعد نضربه معهما، ونجمع السحرة المهرة من كل مكان في الدولة، وهؤلاء السحرة ستأتى في مشهد من الناس بأفعال كفعله وأقوى، فتكون النتيجة أنه كباقي السحرة في المدينة، وليس له فضل، ولا حق فيما يدعيه، وكان هذا هو الرأى
…
أرسل فرعون في المدائن حاشرين يجمعون له السحرة من كل حدب وصوب، وكان السحرة في القديم هم الطبقة المثقفة، ولهم مكانتهم عند الملوك والجبابرة وجاءوا مدلين واثقين من أنفسهم وتغلبهم على موسى، وطالبوا بأجرهم فقال فرعون. نعم لكم ما تطلبون، وإنكم إذ تغلبون لمن المقربين.
فلما اجتمع القوم، التقى السحرة بموسى قال لهم: ألقوا ما أنتم ملقون به، من العصى والحبال، وذلك بعد ما عرضوا على موسى أن يلقى هو أولا
…
فألقوا حبالهم وعصيهم، فامتلأ المكان حيات وثعابين، وخيل إلى الكل حتى موسى أنها تسعى وقالوا إنا بعزة فرعون لغالبون.
في تلك اللحظة ابتهج فرعون وقومه، وأيقنوا أن السحرة غلبوا، وأن موسى لن يستطيع أن يغلبهم في شيء إذ معه عصاه، وستكون حية واحدة بين آلاف الحيات.
وعند ذلك أوجس موسى في نفسه خيفة، فأمره الله أن يلقى عصاه فإذا هي حية تسعى، وإذا هي تبلع حيات السحرة وتتلقفها بسرعة فائقة!! الآن ظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون، ودهش آل فرعون والملأ من قومه، وعلم السحرة أن السحر لا
يفعل مثل ذلك، إذ غايته أنه يخيل إلى الناس أشياء في الظاهر. أما الحقائق فتبقى كما هي من غير تغيير، وعصى موسى قد غيرت الحقائق، بل ابتلعت كل ما كانوا يفعلون من العصى والحبال.
علم السحرة أن السحر لا يفعل ذلك، إنما هي القوة الإلهية التي صنعت ذلك، القوة القادرة التي هي فوق قوى البشر جميعا، فخروا ساجدين لله بلا شعور ولا نظام ولا ترتيب وآمنوا برب موسى وهارون، مفضلين الحق على الباطل، رامين بقول فرعون وأجره وباطله وجبروته عرض الحائط، غير عابثين بما يترتب على ذلك من نتائج.
لما رأى فرعون ذلك تحير ماذا يفعل في هذا الحدث الخطير الذي شاع وانتشر بين الشعب جميعه، وكان في طلبه الناس ليشهدوا الحفل، وجمعه السحرة ليعجزوا موسى، كان في هذا كله كالساعي لحتفه بظلفه.
ثم التفت إلى السحرة الذين خذلوه في وقت هو في أشد الحاجة إلى أن ينصروه، وقال لهم متوعدا: آمنتم له، وصدقتم برسالته عن ربه قبل أن آذن لكم؟!! إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة، وهو تدبير اتفقتم عليه سابقا، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر قديما، قال هذا وهو يعلم أنه ربي في بيته ثم هاجر إلى مدين، وعاد منها رسولا، فلم يجتمع بالسحرة أبدا، ولم يدبر معهم أمرا، ولا علمهم علما، ولكنه المغلوب يتخبط تخبط الأعمى.
ثم هددهم بالعذاب المادي فقال لهم: لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم جميعا في جذوع النخل، ولتعلمن بعد هذا: أينا أشد عذابا وأقوى؟! قال السحرة مقالة المؤمن الواثق، المؤمن الفاهم، المؤمن العالم بحقائق الأشياء قالوا:
لا ضير علينا، ولا ضرر، فيما يلحقنا من عذاب الدنيا، فعذابك ساعة نصبر عليها، ونلقى الله مؤمنين، إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وماذا يفعل عذابك؟ إنه لن ينال إلا الجسد الفاني، والمادة الزائلة، أما نحن فيستحيل علينا أن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والهدى، والنور الذي قذفه في قلوبنا ربنا، فاقض ما أنت قاض، إنما تقضى هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا لأن كنا أول المؤمنين، إنا نطمع فيه أن يغفر لنا خطايانا، وما أكرهتنا عليه من السحر، واعلم أن الله خير وأبقى.
هكذا أيها الأخ المسلم قديما وحديثا كان العذاب والإيلام لأخيك المؤمن الذي قال
الحق، واتبع الحق، وآمن بالحق، وصدق برسول الحق، ولقد صدق الله حيث يقول وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [سورة الأعراف آية 126] .
فصبرا ثم صبرا لكل من عذب في سبيل الله والدعوة لدين الله، فعسى أن يكون هذا تطهيرا لنفوسنا وإصلاحا لقلوبنا أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [سورة العنكبوت آية 2] .
انطلاق بنى إسرائيل وخروجهم من مصر وغرق فرعون: أوحى الله إلى موسى بعد هذا كله: أن أسر بعبادي، واخرج بهم ليلا، ففعل موسى، وقد أخبره الله أن فرعون سيتبعه، وكان كذلك فلما علم فرعون بخروجهم أرسل في المدائن من يجمع له الجند الكثيف والجيش الكثير ليردهم إلى العبودية، وقال: إن هؤلاء، أى: بنى إسرائيل جماعة قليلة إذا قيست بالمصريين، وإنهم لنا لغائظون، حيث سفهوا أحلامنا، وجاءوا لنا بدين لم نألفه، وشرع لم نعرفه، إنا لجمع حاشد، ومعنا جيش منظم مستعد كامل العدد والعدد، قد اتخذ أهبته وحمل سلاحه.
فلحقوهم عند شروق الشمس صباحا على خليج السويس، فلما رأى بنو إسرائيل فرعون وجنده أيقنوا بالهلاك، ولكن موسى النبي الملهم سكن روعهم، وهدأ نفوسهم وبشرهم بالنصر العاجل، والهلاك الماحق لفرعون ومن حوله فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق، ولما انفلق البحر صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بنى إسرائيل، ووقف الماء بينهم كالطود العظيم، فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا.
وأما فرعون وقومه فتبعوا بنى إسرائيل، وصاروا خلفهم حتى إذا ما توسطوا الماء وقد نجا بنو إسرائيل، وجاوزوا البحر، انطبق البحر على فرعون وجنوده وعاد كما كان أولا، ولم يفلت منهم أحد، وهذا معنى قوله تعالى. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ [سورة الشعراء الآيتان 64 و 65] .
وهكذا نجى الله المؤمنين، وأهلك الظالمين الكافرين، وأخرجهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، هكذا أورثناها بنى إسرائيل حقبة من الزمن.