الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى:
ولقد آتينا إبراهيم رشده، ووفقناه لوجوه الصلاح والخير، وآتيناه الحكمة من قبل ذلك، وكنا به عالمين، وهذا يفيد أن إبراهيم- عليه السلام خلق ونفسه مطبوعة على التوحيد، وحب الخير والنظر السليم للأمور، لهذا لم يعجبه ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تحس ولا تشعر!! واذكر إذا قال إبراهيم لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، وعلى عبادتها مقيمون؟!! وهذا استفهام المراد منه التجاهل والتحقير لشأنها مع علمه بأنهم يعظمونها ويجلونها، وهو يفيد إنكار عبادتهم لها.
وانظر إلى الجهل المطبق، والعمى عن طرق الخير والسداد، وانظر إليهم وهم يجيبونه على سؤاله حيث قالوا: إنا وجدنا آباءنا لها عابدين!!.
ما أقبح الجهل! وما أتعس الجهلاء!! ليس في أصنامهم وأوثانهم من خير أبدا، وليس فيها فضل أبدا، وليس معها مقتض للعبادة والتقديس إلا أن آباءهم لها عابدون؟
وأنهم على آثارهم مقتدون: يا للعار! ويا للشنار!! وما أعظم كيد الشيطان حين استدرجهم إلى تقليد آبائهم في عبادة التماثيل، وهم معتقدون أنهم على شيء، ويجادلون بالباطل أهل الحق! ألا لعنة الله على الضالين المقلدين.
وأما إبراهيم فقال لهم: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين، وفي العبارة من التأكيد ما لا يخفى حيث قال:«أنتم» وقال «في ضلال»
…
نعم أنتم وآباؤكم منخرطون في سلك، ومجتمعون في شمل واحد حيث عبدتم حجرا أو خشبة، وسندكم في عبادته هوى متبع وشيطان مطاع.
أما هم فحينما صدموا بهذا الرد الشديد، والحجة التي قرعت أسماعهم، وملأت نفوسهم ألما وحزنا قالوا متعجبين: أجئتنا بالخير والحق الصريح أم أنت من اللاعبين الهازلين؟! وهكذا المغرور المخدوع حينما يجابه بالحقائق الناصعة يستبعد أن ما عليه هو وأبوه ضلال وخطأ، فيتعجب لذلك.
قال إبراهيم: ربكم الذي يستحق العبادة والتقديس وتعفير الوجه له بالتراب، رب السموات والأرض الذي فطرهن، وخلقهن على مثال عجيب ووضع دقيق وأنا على
ذلكم من الشاهدين الذين يدلون بالحجة على كلامهم، ويصححون دعواهم بالبرهان كما تصحح الدعوة بالشهادة، فأنا لست مثلكم إذ سندكم الوحيد، وحجتكم في عبادة الأصنام أنكم تقلدون آباءكم، ألا بئس ما تفعلون!! ولقد أضمر إبراهيم الشر في نفسه لهذه الآلهة، وأقسم بالله لا بد أن يلحق بها الأذى، وهذه طريقة أراد بها أن يفهم القوم مركز آلهتهم حيث لم تدفع عن نفسها ضررا وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ «1» ، وأن يقيم الحجة عملا على أنها لا يمكن أن تلحق بهم أذى إذا تركوا عبادتها، أو تكسبهم خيرا إذا عبدوها، والبرهان العملي أوقع في النفس وأبعد عن التأويل والشك حيث لم يجد المنطق.
وذلك أنه كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فقال إبراهيم في نفسه: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وقد تخلف عنهم بحجة أنه مريض فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [سورة الصافات آية 89] .
فلما ذهبوا دخل على الأصنام، وأمامهم الأكل فجعلهم جذاذا وقطعا أى: كسرهم جميعا إلا كبيرهم فقد وضع الفأس على كتفه. وهذا هو الكيد الذي أقسم ليفعلنه بها وإنما فعل ذلك لعلهم إلى إبراهيم ودينه يرجعون، حيث يرون أن الأصنام لم تقدر على دفع الأذى عن نفسها، أو المعنى لعلهم إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها، ويحملونه تبعة ذلك، ويسألونه أين كنت؟ ولماذا كسرت تلك الأصنام؟ وأنت صحيح. والفأس على كتفك، ولعل المعنى: لعلهم إلى هذا الصنم يرجعون استهزاء بهم وبآلهتهم.
ولما رأوا ذلك، وقد غاظهم ما حل بآلهتهم قالوا، من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين المتجاوزين الحد في عملهم.
قال بعضهم: سمعنا فتى يذكر الآلهة بسوء يقال له: إبراهيم فهو الذي فعل بهم ما فعل.
قال نمروذ وأشراف قومه. ائتوا به على أعين الناس ليكون ظاهرا بمرأى منهم حتى يروه ويشهدوا. فيكون ذلك حجة دامغة عليه.
(1) سورة الحج الآية 73.
فلما حضر قالوا له: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ فقال لهم إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، وفي تلك الإجابة تبكيت لهم، ولفت لنظرهم، وإثبات أنه الفاعل دون سواه حيث لم يكن إلا هو الصنم، والصنم لا يمكنه أن يصدر منه ذلك فثبت أنه هو الفاعل بالدليل ولم يكن قصده نسبة الفعل للصنم مع أنه الفاعل حقيقة.
ولعل نسبة الفعل إلى الصنم من جهة أنه هو الذي غاظه كثيرا فحمله على التكسير فكأنه هو الفاعل للفعل.
فلما حاروا وبهتوا من إجابة إبراهيم ومناقشته لهم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، ولكن أترى إبليس يتركهم يتوصلون إلى الحق؟! لا بل وسوس لهم وزين حتى أنهم بعد هذا نكسوا على رؤوسهم ورجعوا إلى الباطل يدافعون عنه وينغمسون في حمأته قائلين:
كيف تطلب منا سؤالهم؟ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون!! قال إبراهيم مقاطعا ومفحما لهم فيما يتقولون: أتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا من النفع ولا يضركم شيئا من الضرر، إذ أنه لا يقدر على الكلام أصلا، ولم يمكنه أن يدفع عن نفسه شيئا؟!! أف لكم!! ولما تعبدون من دون الله، أعميتم فلا تعقلون شيئا أبدا؟!! فلما أعيتهم الحيل كلها في إبراهيم وإسكاته، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت:
قالوا: لا ينفعه أبدا إلا الموت، ولا يريحنا منه إلا إهلاكه، وليكن هلاكه على أفظع صورة، وبأقبح شكل، وهو إحراقه بالنار فإذا تم ذلك كان لكم النصر ولآلهتكم الفوز، إن كنتم فاعلين شيئا حقا فافعلوا هذا.
ولكن الله- سبحانه- الذي تكفل لعباده وخاصة الأنبياء بالحفظ والرعاية والكلاءة والمعونة أبى إلا نصر إبراهيم وحفظه من النار التي تذيب الحديد، وتصهر المعدن والفولاذ.
قال الله: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فلم يشعر إبراهيم بشيء أبدا يؤلمه