الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس:
مشروعية التيمم على وفق القياس
اختلف العلماء في كون التيمم مطهراً، هل هذا على وفق القياس، أو مخالف للقياس، مع أني أتحفظ على هذا الطرح، لولا أن هذا موجود في كتب الفقه؛ لأننا نرى أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس، إن كان المقصود بالقياس: هو النظر والحكمة؛ لأن أحكام الشرع لا تخالف المعقول، وإن كان شيء متهماً فهو في عجز العقول عن إدراك أسرار الأحكام، فأحكام الله من لدن حكيم خبير، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ والبحث في العلة إنما هو في حدود الحاجة إلى تعدية النص من أصل منصوص عليه إلى فرع لعلة جامعة، فيلحق النظير بنظيره؛ لأن النصوص محدودة، والوقائع غير متناهية، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها، ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، وكأن السائلة رأت أن هذا مخالف للقياس، فإما أن يسقط القضاء عنهما، أو تكلف بقضاء كليهما، فقالت: كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة "
(1)
، فأرجعت الشأن إلى النص.
فإذا علم هذا، فقد اختلف العلماء في التيمم،
فذهب بعض أهل العلم إلى أن رفع الحدث بالتيمم على خلاف القياس
(2)
.
(1)
صحيح مسلم (335)، البخاري (321).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 300)، مجموع الفتاوى (20/ 504)، المستصفى (ص: 325)، البحر المحيط (7/ 119)، التقرير والتحبير (3/ 126)، شرح الكوكب المنير (ص: 483).
وذهب ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى إلى أن التيمم على وفق القياس، وأنه لا يوجد شيء في الشرع يخالف القياس الصحيح
(1)
.
حجة من قال: إن التيمم ليس جارياً على وفق القياس.
استدلوا بدليلين:
أحدهما: أن التراب ملوث، لا يزيل درناً ولا وسخاً، ولا يطهر البدن، كما لا يطهر الثوب.
الثاني: أنه شرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها، وهذا خروج عن القياس الصحيح، ولذلك حين استعمل عمار القياس تمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة؛ ليعم بدنه كله بالتراب، كما يعم بدنه كله بالماء في غسل الجنابة.
وأجاب ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله على ذلك، وذكرا كلاماً طويلاً في رد هذا القول، أورد إن شاء الله تعالى ما أحتاج إليه مختصراً ومقتصراً.
لفظ القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح، والقياس الفاسد:
فالقياس الصحيح: هو الذي وردت به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين:
الأول: قياس الطرد.
والثاني: قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق الحكم بها في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها، ومثل هذا القياس
(1)
إعلام الموقعين (1/ 300)، مجموع الفتاوى (20/ 504).
لا تأتي الشريعة بخلافه قط، وكذلك القياس بإلغاء الفارق، وهو أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع، فمثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفارق به نظائره، فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواته لغيره، لكن الوصف الذي اختص به قد يظهر لبعض الناس، وقد لا يظهر، وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل أن يعلم صحته كل أحد، فمن رأى شيئاً من الشريعة مخالفاً للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، وليس مخالفاً للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر
(1)
.
" فليس في الشريعة ما يخالف قياساً صحيحاً، لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده "
(2)
.
والحديث إذا خالف أصلاً عند المخالفين، فإن هذا الحديث هو أصل بنفسه، كما أن غيره أصل، فلا تضرب الأصول بعضها ببعض، بل يجب اتباعها كلها، فإنها كلها من عند الله
(3)
.
وقال ابن تيمية: " وبالجملة فما عرفت حديثاً صحيحاً إلا ويمكن تخرجه على الأصول الثابتة، وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع، فما رأيت قياساً صحيحاً يخالف حديثاً صحيحاً، كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياساً يخالف أثراً فلا بد من ضعف أحدهما، لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثير منه على أفاضل العلماء فضلاً
(1)
مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 504).
(2)
المرجع السابق.
(3)
انظر مجموع الفتاوى (20/ 557).
عمن هو دونهم؛ فإن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها، ومعرفة الحكم والمعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف العلوم، فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس، ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم، فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرد مخالفاً للنصوص؛ لخفاء القياس الصحيح عليهم، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام"
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: التيمم على وفق القياس الصحيح؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل من الماء كل شيء حي، وخلقنا من التراب، فلنا مادتان: الماء والتراب، فجعل منهما نشأتنا وأقواتنا، وبهما تطهرنا وتعبدنا، فالتراب أصل ما خلق منه الناس، والماء حياة كل شيء، وهما الأصل في الطبائع التي ركب الله عليهما هذا العالم، وجعل قوامه بهما، وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار: هو الماء في الأمر المعتاد، فلم يجز العدول عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه، وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره، وإن لوث ظاهراً فإنه يطهر باطناً، ثم يُقَوِّى طهارة الباطن فيزيل دنس الظاهر أو يخففه، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقائق الأعمال، وارتباط الظاهر بالباطن، وتأثر كل منهما بالآخر، وانفعاله عنه ".
قلت: من يسلم أن التراب ملوث غير مطهر، فهذا الكلام يصادم النص المنقول، ويصادم الأمر المعقول.
أما النص، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن
(1)
المرجع السابق (20/ 567).
لم يجد الماء عشر سنين "
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "
(2)
.
والطهور: ما يطهر غيره.
وأما موافقته للمعقول، فإن طهارة الخبث إذا أمكن إزالتها بالتراب، وهي عين خبيثة، وطهارتها معقولة المعنى، كما في الاستجمار، وكما في طهارة النعل بدلكها بالتراب، وكما في تطهير الإناء من ولوغ الكلب ونحوها من النجاسات، فلأن يطهر التراب طهارة الحدث، والتي هي ليست عن نجاسة أصلاً من باب أولى، فما كان له قوة في إزالة النجاسة، كان له قوة في رفع الحدث بشرطه كالماء والتراب.
وأما كونه في عضوين، يقول ابن القيم:" فهذا في غاية الموافقة للقياس، فإن وضع التراب على الرؤوس مكروه في العادات، وإنما يفعل عند المصائب والنوائب، والرجلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال، وفي تتريب الوجه من الخضوع، والتعظيم لله، والذل له، والإنكسار لله ما هو من أحب العبادات إليه وأنفعها للعبد، ولذلك يستحب للساجد أن يترب وجهه لله، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد، وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال: " ترب وجهك " وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين.
وأيضاً فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر: وهو أن التيمم جعل في
(1)
سبق تخريجه في كتابي أحكام الطهارة، المياه والآنية، رقم (39)، وهو جزء من هذه السلسلة.
(2)
سبق تخريجه في المبحث السابق.
العضوين المغسولين، وسقط عن العضوين الممسوحين، فإن الرجلين تمسحان في الخف، والرأس في العمامة، فلما خفف عن المغسولين بالمسح، خفف عن الممسوحين بالعفو؛ إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما، بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب، فظهر أن الذي جاءت به الشرعية هو أعدل الأمور، وأكملها، وهو الميزان الصحيح "
(1)
.
وهذا هو القول الراجح إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
(1)
إعلام الموقعين (1/ 300).