الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث:
خروج الوقت
تكلمنا في شروط التيمم للصلاة اشتراط دخول وقت الصلاة عند الجمهور، وأنه لا يصح التيمم قبل دخول الوقت، والآن نتناول تأثير خروج وقت الصلاة على صحة التيمم، فإذا تيمم للصلاة، فهل يبطل التيمم بخروج الوقت، في هذا خلاف بين أهل العلم،
فقيل: لا يبطل التيمم خروج الوقت، فإذا تيمم له أن يصلي ما لم يحدث أو يجد الماء، وهذا مذهب الحنفية
(1)
.
وقيل: يبطل التيمم بخروج الوقت، وهو المشهور مذهب الحنابلة
(2)
.
وأما مذهب المالكية والشافعية وإن لم ينصوا على أن خروج الوقت مبطل للتيمم إلا أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، حيث منعوا صلاة فريضتين بتيمم واحد
(3)
، واشترط المالكية الموالاة بين التيمم والصلاة، فإن وجد فاصل
(1)
المبسوط (1/ 113)، الهداية (1/ 27)، بدائع الصنائع (1/ 55)، تحفة الفقهاء (1/ 46)، نور الإيضاح (ص: 27)، تبيين الحقائق (1/ 40).
(2)
قال ابن قدامة في عمدة الفقه (ص: 11): " وإن تيمم لفريضة، فله فعلها، وفعل ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقتها ".
(3)
انظر في مذهب المالكية: انظر التمهيد (19/ 294 - 295)، المقدمات (1/ 117)، التهذيب في مختصر المدونة (1/ 214)، المعونة (1/ 149).
وفي مذهب الشافعية: جاء في الأم (1/ 47): " وإن كان قد فاتته صلوات استأنف التيمم لكل صلاة منهما، كما وصفت، لا يجزيه غير ذلك، فإن صلى صلاتين بتيمم واحد، أعاد الآخرة منهما؛ لأن التيمم يجزيه للأولى، ولا يجزيه للآخرة ". =
طويل بين التيمم والصلاة بطل تيممه، وهذا القول أبلغ من اعتبار خروج الوقت مبطلاً للتيمم
(1)
.
وسبب الخلاف بين الجمهور وبين الحنفية في المسألة اختلافهم في التيمم، هل هو رافع للحدث، أو مبيح لفعل المأمور مع قيام الحدث؟.
يقول الكاساني الحنفي رحمه الله تعالى: "قال أصحابنا: إن التيمم بدل مطلق، وليس ببدل ضروري، وعنوا به أن الحدث يرتفع بالتيمم إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤادة، لا أنه يباح له الصلاة مع قيام الحدث، وقال الشافعي: التيمم بدل ضروري، وعنى به أن يباح له الصلاة مع قيام الحدث حقيقة للضرورة كطهارة المستحاضة «ثم قال:» وعلى هذا الأصل يبنى التيمم قبل دخول الوقت، أنه جائز عندنا، وعند الشافعي لا يجوز؛ لأنه بدل مطلق عند عدم الماء، فيجوز قبل دخول الوقت وبعده، وعنده بدل ضروري، فتتقدر بدليته بقدر الضرورة، ولا ضرورة قبل دخول الوقت، وعلى هذا يبنى أنه إذا تيمم في الوقت يجوز له أن يصلي ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يجد الماء أو يحدث عندنا، وعنده لا يجوز له أن يؤدي به فرضاً آخر غير ما تيمم لأجله"
(2)
.
= وقال في كتاب البيان في مذهب الشافعي (1/ 316): " وإن كان عليه صلوات فوائت، وأراد أن يقضيها في وقت واحد، وهو عادم للماء، قال الشيخ أبو حامد: فإنه يطلب الماء للأولى، ويتمم، ويصليها، فإذا أراد أن يصلي الثانية أعاد الطلب لها، ثم يتيمم، وكذلك الثالثة والرابعة وإن كان في موضع واحد؛ لأن ذلك شرط في التيمم ".
(1)
قال في الشرح الصغير (1/ 199 - 200): " ومما يبطله - يعني التيمم - طول الفصل بينه وبين الصلاة، كما علم من الموالاة ". وانظر الخلاصة الفقهية (ص: 40).
(2)
بدائع الصنائع (1/ 55).
وقد بنى الحنابلة دليلهم على أمرين:
الأول: أن التيمم طهارته طهارة ضرورة، فتقدر بقدرها. وأنه يبيح فعل الصلاة، ولا يرفع الحدث.
وقد ناقشت في مسألة مستقلة: هل التيمم يرفع الحدث، أو يبيح فعل المأمور مع قيام الحدث في مسألة مستقلة، وذكرنا أدلة الخلاف، والراجح فيها، فأغنى عن إعادته هنا، كما ناقشت في مسألة مستقلة: فيما إذا تيمم للصلاة فرضاً كانت أو نفلاً، هل له أن يصلي به فريضة أو نافلة أخرى، أو يجب أن يتيمم لكل صلاة؟ وذكرت أدلة الأقوال مع مناقشتها وبيان الراجح فأغنى عن إعادته هنا أيضاً.
وقد تبين لنا من كل هذه المسائل أن التيمم بدل عن طهارة الماء، وأنه يرفع الحدث، وأن له أن يصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل، سواء تيمم قبل الوقت، أو تيمم في الوقت وخرج عليه الوقت، وأن خروج الوقت ليس بناقض له.
الأمر الثاني:
القياس على طهارة المستحاضة، فكما أن المستحاضة طهارتها طهارة ضرورة، وقد أمرت أن تتوضأ لكل صلاة، فكذلك المتيمم يجب عليه أن يتطهر لوقت كل صلاة عند الحنابلة، أو لكل صلاة كما عند الشافعية والمالكية.
ودليل المستحاضة عندهم:
(1473 - 105) ما رواه البخاري من طريق أبي معاوية، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:
جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا؛ إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي.
قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت
(1)
.
[زيادة قال هشام: قال أبي، الراجح أنها موقوفة على عروة، ورفعها غير محفوظ]
(2)
.
ويجاب بأمور:
الأول: أن أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة موقوف على عروة.
ثانياً: أن المرفوع من الأحاديث بأمر المستحاضة لكل صلاة، لا يثبت منها شيء.
(1)
صحيح البخاري (228).
(2)
وقد حكم بضعف هذه الزيادة الإمام مسلم والنسائي والبيهقي، وأبو داود، وضعفه ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري قال (2/ 72): والصواب أن لفظة الوضوء مدرجة في الحديث من قول عروة: فقد روى مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال: ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة " اهـ كلام ابن رجب.
وقال ابن رجب أيضاً (2/ 73): " أحاديث الوضوء لكل صلاة قد رويت من وجوه متعددة، وهي مضطربة ومعلله ".
وقد خرجت طرق هذا الحديث، وبينت أن قول عروة:" توضئي لكل صلاة " من كلام عروة، وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل من كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية رقم 473، وكتابي آداب الخلاء، في الاستنجاء من الحدث الدائم، رقم: 414، وكتاب الوضوء: فرائض وسننه ونواقضه: في فصل: مسببات الحدث، المبحث الخامس: في خروج دم الاستحاضة، فأغنى عن إعادته هنا.
قال ابن رجب: " أحاديث الوضوء لكل صلاة قد رويت من وجوه متعددة، وهي مضطربة ومعللة "
(1)
.
ولهذا لم يذهب مالك بوجوب الوضوء على المستحاضة،
قال ابن عبد البر: " والوضوء عليها - أي على المستحاضة - عند مالك على الاستحباب دون الوجوب، وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي " ولم يذكر وضوءاً، قال: " وممن قال بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب ربيعة وعكرمة ومالك وأيوب وطائفة "
(2)
.
ثالثاً: لو أخذتم بالقياس على وجوب الوضوء على المستحاضة، للزم الحنابلة القول بوجوب الوضوء لكل صلاة، كما هو مذهب الشافعية والمالكية، وذلك لأن الآثار الواردة في ذلك توجب على المستحاضة الوضوء لكل صلاة، وليس الوضوء لوقت كل صلاة، وبينهما فرق
(3)
.
(1)
شرح ابن رجب للبخاري (2/ 73).
(2)
المرجع السابق، والصفحة نفسها.
(3)
حمل الحنابلة على أن قوله: " توضئي لكل صلاة " بأن المراد بكل صلاة بوقت كل صلاة، قالوا: وإطلاق الصلاة على الوقت جاء الدليل على صحته من القرآن والسنة:
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} الإسراء:78.
فقوله: {لدلوك الشمس} أي: لوقت دلوكها.
الدليل الثاني:
ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن سنان ـ هو العوقي ـ قال: حدثنا: هشيم (ح)
قال: وحدثني سعيد بن النضر، قال: أخبرنا هشيم، قال أخبرنا سيار، قال حدثنا يزيد ـ هو ابن صهيب الفقير ـ قال: أخبرنا جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ". ورواه مسلم (521)، واللفظ للبخاري (335).
وجه الاستدلال:
قوله: " أدركته الصلاة " أي أدركه وقت الصلاة.
الدليل الثالث:
ما رواه أحمد (6/ 332)، قال: ثنا محمد بن فضيل، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن للصلاة أولاً وآخراً، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت العصر حين يدخل وقتها، وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق، وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس ".
وجه الاستدلال:
قوله: " إن للصلاة أولاً وآخراً ". أي إن لوقت الصلاة، فأطلقت الصلاة وأريد بها الوقت.
والحديث ضعيف والمحفوظ أنه مرسل ووصله شاذ، وسبق بحثه في كتابي الحيض والنفاس رواية ودراية، انظر رقم:479.
وأما حمل الأمر بالوضوء لكل صلاة: أي لوقت كل صلاة، فيحتاج الأمر إلى دليل على أن المراد الوقت، وليس خروج الوقت حدثاً، ويكفي أن حملهم خلاف ظاهر اللفظ بلا مسوغ.
والجواب عما قالوه رحمهم الله: إن إطلاق الصلاة قد يطلق ويراد بذلك الوقت إذا صح إنما يصح لقرينة تمنع من إرادة الصلاة نفسها، وإلا فالأصل في الكلام عدم الحذف وعدم التقدير، ولا قرينة هنا تمنع من إرادة الصلاة، أي فعلها، فوجب حمل اللفظ على ظاهره وهذا لو قلنا بصحة أحاديث وضوء المستحاضة لكل صلاة، ولكنها لم تصح كما قدمنا.
وإذا لم يجب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة، كان القول ببطلان التيمم بخروج الوقت قياساً على المستحاضة قياس غير صحيح، وبهذا يتبين أن القول ببطلان التيمم بخروج الوقت قول ضعيف، والله أعلم.
وبهذه المسألة نكون قد أنيهنا مبطلات التيمم، وبه نكون قد أنهينا الكلام على التيمم، بل وعلى طهارة الحدث من وضوء وغسل وبدلهما، وهو التيمم، فلله الحمد أولاً وآخراً، اللهم كما يسرت هذا البحث بفضلك ومَنِّك وكرمك، من غير حول مني ولا قوة إلا بك سبحانك، فتقبله مني، واجعله خالصاً لوجهك، لا أبتغي به إلا رضاك، ودفع سخطك، اللهم كفر به زلاتي، وارفع به درجاتي، وصحح به نياتي، واستر به عيوبي، اللهم إني أعوذ بك أن أقصد به أو بغيره من أعمال الآخرة شيئاً من حظ الدنيا مما يحبط به عملي، ويوجب غضبك عليَّ، اللهم ارزقني شكر نعمتك التي أنعمت علي، وأن أعمل صالحاً ترضاه، اللهم علمني ما ينفعني، وانفعني بما علمتني، واجعله حجة لي، ولا تجعله حجة علي، آمين آمين، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وسلم.