الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال «1» : وكان إذا انصرف من قتال العدو إلى سرادقه يأمر بنفض غبار ثيابه التى شهد فيها الحرب، ويجمع ويحتفظ به.
فلما حضرته الوفاة أمر أن ينشر على كفنه ما جمع من ذلك إذا وضع فى قبره.
قال: وبنى مدينة الزاهرة بقرب قرطبة، وانتقل إليها بأهله وولده وحواشيه. وكان قد يخوّف من بنى أمية أن يثوروا به، فأخذ فى تقتيلهم صغارا وكبارا، عملا فى الباطن لنفسه وفى الظاهر إشفاقا على المؤيد منهم، حتى أفنى من يصلح منهم/ للولاية، وفرّق الباقين فى البلاد. فكان ممن هرب الوليد بن هشام الخارج على الحاكم بمصر، الملقب بأبى زكوة.
وأخبار المنصور طويلة مشهورة لو استقصيناها لطال الكتاب، وفيما نبّهنا عليه من أخباره وذكرناه من آثاره كفاية. وأخبرنى بعض أهل الأندلس أن على قبره مكتوبا:
آثاره تنبيك عن أخباره
…
حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتى الزمان بمثله
…
أبدا ولا يحمى الثغور سواه
ولما مات رحمه الله قام بالأمر بعده ولده.
ذكر المظفر أبو مروان عبد الملك
قال «2» : وكان الناس قد تجمعوا وقصدوا الزهراء وقالوا:
لا بدّ من ظهور المؤيد وولايته الأمر بنفسه! فلما بلغه ذلك آثر
الراحة والدعة، وأحضر عبد الملك وخلع عليه وقلّده ما كان بيد أبيه من الولاية، ونعته بالحاجب المظفر سيف الدولة. وأمر فاتن «1» الصغير الخادم أن يخرج إلى المجتمعين فيصرفهم ويخبرهم برضائه بحجبة المظفر، فأخبرهم، فأبوا! وخرج المظفر فقابلته الفئة المجتمعة فهزمهم، وأقام فى الحجبة إلى أن توفى لاثنتى عشرة ليلة بقيت من صفر سنة/ تسع وتسعين وثلاثمائة بموضع يقال له القبران «2» فى غزوته، فحمل فى تابوت ودفن بالزاهرة وعمره ستّ وثلاثون سنة. ومدة ولايته ستة أعوام وأربعة أشهر وأيام وغزا الروم ثمانى غزوات وبأيامه تضرب المثل بالأندلس عدلا وأمنا.
ولما مات ولى الحجبة عبد الرحمن بن المنصور محمد بن أبى عامر وهو أخو المظفر ونعت بالحاجب المأمون ناصر الدولة، ويلقب بشنشول فافتتح أموره بالخلاعة والمجانة، وكان يخرج من منية إلى منية ومن متنزه إلى متنزه بالملاهى والمضحكين، ويجاهر بشرب الخمر والتهتّك. ثم طلب من المؤيد أن يدعو له ويوليه العهد بعده، وهدّده بالفتك به إن لم يفعل، وكثر الإرجاف بذلك.
ثم ركب شنشول من الزاهرة ومعه سائر أهل الخدمة بسلاحهم، والوزير وقاضى الجماعة، والفقهاء والعدول، وأصحاب الشّرط، ووجوه الناس على طبقاتهم. وسار إلى باب القصر بقرطبة، وحضر
المؤيد هشام، وأخرج كتابا قرىء بحضرته وهو بخط الوزير أبى عمر «1» ، وفيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما عهد به هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين/ إلى الناس عامة، وعاهد الله- عز وجل عليه من نفسه خاصة، وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامّة، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمه ما جعل الله إليه من الإمامة وعصب به من أمره، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشى إن هجم محتوم ونزل مقدور به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوى إليه وملجأ تنعطف عليه.. أن يكون بلقاء ربه- تبارك وتعالى مفرطا فيها ساهيا عن أداء الحقّ إليها ونقض عند ذلك من طبقات الناس من أحياء قريش غيرها ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وصيانته، بعد اطّراح الهوى والتحرّى للحق والتزلّف إلى الله- جل جلاله مما يرضيه. بعد أن قطع الأواصر وأسخط الأقارب فلم يجد أحدا هو أجدر أن يقلده عهده ويفوّض إليه الخلافة بعده، بفضل نفسه وكرم خيمه وشرف مركبه وعلو منصبه، مع تقواه وعفافه، ومعرفته وإشرافه، وحزمه وتقاته.. من المأمون الغيب الناصح الجيب، أبى المطرّف عبد الرحمن ابن محمد المنصور أبى عامر بن أبى عامر، وفقه الله إذ كان أمير المؤمنين- أيده الله- قد ابتلاه واختبره، ونظر فى شأنه واعتبره، فرآه مسارعا/ فى الخيرات سابقا فى الحلبات مستوليا على الغايات جامعا
للمأثرات! ومن كان المنصور أباه، والمظفر أخاه.. فلا غرو أن يبلغ من سبل البرّ مداه، ويحوى من سبيل الخير ما حواه. مع أن أمير المؤمنين- أكرمه الله- بما طالع من مكنون العلم، ودعاه من مخزون الأمر، أمّل أن يكون قد ولىّ عهده القحطانى الذى حدّث عنه عبد الله ابن عمرو بن العاص وأبو هريرة أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال:
لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه.
فلما استوى منه الاختيار، وتقابلت عنده فيه الآثار، ولم يجد عنه مهربا، ولا إلى غيره معدلا.. خرج إليه من تدبير الأمور فى حياته، وفوّض إليه الخلافة بعد وفاته، طائعا راضيا مستخيرا مجتهدا. وأمضى أمير المؤمنين عهده هذا وأجازه وأنفذه، ولم يشترط فيه مثنوية «1» ولا خيارا، وأعطى على الوافاء به فى سرّه وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه ودمه وذمّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وذمة الخلفاء الراشدين من آله وآبائه، وذمّة نفسه..
أن لا يبدّل، ولا يغيّر ولا يحوّل، ولا يزول، وأشهد الله تعالى وملائكته على ذلك، وكفى بالله شهيدا.. وأشهد من وقع اسمه فى هذا وهو جائز الأمر، ماضى القول والفعل/ بمحضر من ولى عهده المأمون أبى المطرف عبد الرحمن بن المنصور- وفّقه الله- وقبوله ما قلّده، وإلزامه نفسه ما ألزمه، وذلك فى شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة» .
ثم كتب الوزراء والقضاة والفقهاء شهاداتهم بذلك، فلما تمّ