الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر قيام هشام بن سليمان
على محمد وما كان من أمره إلى أن قتل قال «1» : ولما شرع محمد بن عبد الجبار فى اطّراح البربر ودبّر فى قتل عشرة منهم، سعى هشام بن سليمان بن عبد الرحمن فى خلع محمد ووافقه جماعة من الجند واحتفل أمره، وخرج إلى فحص السرادق وانضم إليه الذين أسقطهم محمد من جنده، فراسله محمد وقبّح عليه فعله فقال: سجن والدى على غير شىء ولا أدرى ما صنع به! فأطلقه محمد فلم يرجع هشام عن رأيه، وتحرّك بالجند وأحرق سوق السّرّاجين. ثم خذله جنده وأخذوه أسيرا هو وأخوه أبو بكر وأبوه سليمان، فسلموهم إلى محمد؛ فقتل هشاما وأبا بكر صبرا، وذلك لأربع بقين من شوال. ونهبت دور البربر، ونودى فى البلد «من أتى برأس بربرىّ فله كذا وكذا» فشرع أهل قرطبة فى قتل من قدروا عليه منهم، وسبيت نساؤهم، وهرب من سلم من البربر إلى أزملاط «2» ثم جلوا إلى/ الثّغر. وكان من فرّ بعد قتل هشام سليمان بن الحكم ابن سليمان بن الناصر، فنصبه البربر خليفة.
ذكر قيام سليمان بن الحكم المستعين بالله
قال «3» : لما نصبه البربر خليفة نعت نفسه المستعين بالله، واستوزر أحمد بن سعيد، ونهض بمن معه إلى وادى الحجارة
فدخلوه عنوة، وعرضوا أنفسهم على واضح العامرىّ غلام المنصور ابن أبى عامر صاحب مدينة سالم، فلم يقبلهم، وبعث إليه محمد ابن هشام المهدى قيصر الفتى فى جيش ليعينه على سليمان، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم واضح وقتل قيصر. ولحق واضح بمدينة سالم فتحصن بها، ومنع الميرة عن البربر، فأقاموا خمسة عشر يوما يأكلون الحشيش. فلما اشتد ذلك عليهم أرسلوا إلى ابن مادويه الرومى «1» واستنجد به، وسأله سليمان أن يدخل بينهم وبين ابن عبد الجبار وواضح فى الصلح وقال: يخرج معنا إلى واضح ويرغب إليه فى الإصلاح بيننا وبينه وبين صاحبه، فإن أبى ذلك سرنا إلى قرطبة وناجزنا ابن عبد الجبار! فسارت الرسل إليه فوجدوا رسل ابن عبد الجبار وواضح عنده يسألونه الصلح معهما على أن يعطياه ما اشترط من مدائن الثّغر،/ وأتوه بخيل وبغال ومال وكساء وجوهر وطيب وتحف كثيرة. فأجاب البربر إلى ما أرادوه من الصلح أو الاتفاق معهم على أن يعطوه ما بذل واضح والمهدىّ من مدائن الثغور إذا ظفروا.
فقبلوا ذلك منه، وردّ رسل واضح وابن عبد الجبار، ثم أرسل إلى البربر ألف عجلة تحمل الدقيق والشعير وأنواع المأكل وألف ثور وخمسة آلاف شاة وجميع ما يصلحهم من الملبس وغير ذلك.
فقويت البربر بذلك، وسار إليهم فى جموعه وساروا إلى مدينة سالم، وأرسلوا واضحا فى الصلح فأبى، فساروا إلى قرطبة فى المحرم
سنة أربعمائة. واتبعهم واضح بمن معه وقابلهم، فانهزم وقتل خلق كثير من أصحابه، ووصل المنهزمون من أصحابه إلى قرطبة، وملك البربر جميع ما كان فى عسكر واضح. هذا وابن عبد الجبار فى لهوه واستهتاره، ثم خرج إلى فحص السرادق وخندق عليه، وأتاه واضح فى أربعمائة فارس من أهل مدينة سالم، ووصل غلامه يلبق فى مائتى فارس.
وأقبل سليمان بالبربر فنادى ابن عبد الجبار أن يخرج كل من بلغ به الحلم «1» من سائر الناس، فلم يتخلف أحد فلا ترى إلا شيخا ضعيفا أو حدثا غرّا وبقّالا ونسّاجا. فلما كان فى يوم السبت منتصف شهر ربيع الأول التقى البربر وأهل قرطبة فحمل عليهم من البربر نحو/ ثلاثين فارسا فلم يقفوا لهم وانهزموا، وسقط بعضهم على بعض. ومضى واضح من فوره إلى الثّغر لم يعرج على شىء.. ووضع البربر السيف فى أهل قرطبة فقتلوا خلقا كثيرا «2» ، وغرق فى وادى قرطبة ما لا يحصى.
وسار ابن عبد الجبار إلى القصر وأظهر هشاما المؤيد وأقعده حيث يراه الناس فى مكان يشرف على باب الشكال والقنطرة، وأرسل القاضى ابن ذكوان إلى البربر يقول: إنما أنا قائم دون هشام ونائب عنه كما يحجبه الحاجب والأمر له، وهو أمير المؤمنين! فلما أبلغهم
القاضى الرسالة قالوا: بالأمس يموت هشام وتصلّى عليه أنت وأميرك، واليوم يعيش وترجع الخلافة إليه! فاعتذر القاضى من ذلك.
ثم خرج أهل قرطبة بأجمعهم إلى سليمان فأكرمهم، وأحسن لقاءهم. ودخل سليمان القصر، وهرب ابن عبد الجبار فكانت مدة ولايته تسعة أشهر. واستنجز ابن مادوية البربر أن يعطوه الحصون التى شرطوها له فقالوا: ليست الآن بأيدينا فإذا عهد سلطاننا أنجزنا لك ما وافقناك عليه! ورحل يوم الإثنين لسبع بقين من شهر ربيع الأول.
قال: ثم فرّق سليمان العمال فى الولايات، وأنزل البربر بالزهراء، وأعاد المؤيد إلى السجن، وأنزل شنشول عن خشبته وأمر بغسله والصلاة عليه/ ودفنه، فدفن فى دار أبيه.
وأما المهدى محمد بن هشام فإنه هرب إلى طليطلة بعد اختفائه بقرطبة، فوصل فى أول جمادى الأولى فقبله أهلها أحسن قبول، وخالفوا هشام بن سليمان. فتأهب لقصد طليطلة. ورحل يوم الإثنين لإحدى عشرة خلت من جمادى الآخرة. فلما قرب منها أرسل الفقهاء إلى أهلها ليعذر إليهم فرجعوا بخلافهم، فسار إليهم.
وكان رجل يعرف بالقرشى الحرّانى قد جمع جموعا عظيمة ودعا لنفسه، فسرح إليه سليمان علىّ بن وداعة فى جيش كثيف فهزم جموع القرشى وأسره وأحضره إلى سليمان، فاعتقله ثم قتله.
قال: وتجاوز سليمان طليطلة رجاء أن برجعوا إلى الطاعة، ورحل إلى الثغر ونزل على مدينة سالم. ثم التحق بمحمد بن عبد الجبار
فى جماعة من العبيد، وانضم إليه ابن مسلمة صاحب الشرطة. وخرج واضح من مدينة سالم إلى طرطوشة وكتب إلى سليمان يرغب فى المعافاة من الخدمة ويكون فى ميورقة «1» مرابطا وينقطع عن الناس، وإنما يفعل ذلك تطمينا لسليمان حتى يحكم أمره. فأرسل سليمان إليه بالنظر فى سائر الثغر وجهاد العدوّ، فأخذ واضح فى الاتفاق مع الفرنج وشرط لهم ما أرادوه، واجتمعوا كلهم مع المهدى بطليطلة.
/ وبلغ سليمان ذلك فاستنفر الناس فاستعفاه أهل قرطبة، وذكروا عجزهم عن القتال فأعفاهم بشفاعة البربر. وخرج لقتال القوم، فالتقوا عند عقبة الثغر فى العشر الأخير من شوّال، فجعل البربر سليمان فى ساقتهم وجعلوا معه خيلا من المغاربة وقالوا له:
لا تبرح موضعك ولو وطئتك الخيل! ثم تقدموا فحملت! لفرنج عليهم حملة منكرة فأخرجوا لهم ليتمكنوا منهم، فرأى سليمان خيل الفرنج وقد خرقت صفوف البربر فلم يشك أن البربر قد اصطلمو «2» ، فانهزم فيمن معه. ثم عطف البربر على الفرنج فقتلوا ملكهم أرمغند، وستين من وجوههم. ورأى البربر هزيمة سليمان فانحازوا إلى الزّهراء، ثر خرجوا منها ليلا. ومضى سليمان إلى مدينة شاطبة «3» ، فكانت مدة ولاية سليمان سبعة أشهر.