الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم أمر محمد بعد أربعة أيام بكفّ أيدى العامة عن النّهب فمنعوا،/ وتفرّد بنقل ما يريد، فيقال إن الذى وصل إليه من الزاهرة فى ثلاثة أيام ألف ألف وخمسمائة ألف دينار، ومن الدراهم الأندلسية ألفا ألف ومائة ألف، ووجد بعد ذلك خوابىّ فيها نحو من مائتى ألف دينار، وأطلقت النار فى الزاهرة لعشر بقين من جمادى الآخرة.
وخطب لمحمد بالخلافة وقطعت خطبة هشام وشنشول، وقرئ بعد صلاة الجمعه كتاب بلعن شنشول وذكر مساوئة، وقرئ كتاب آخر من محمد بإسقاط رسوم جارية وقبالات محدثة.
وصلّى محمد بالناس الجمعة لأربع من جمادى الآخرة ودعا لنفسه وتلقّب بالمهدىّ، وقرئ بعد نزوله كتاب على المنبر بالنفير لقتال شنشول. ووصل أهل الأقاليم من أقصى الأندلس، مظهرين عدّة الحرب، وولّى محمد جنده قوادا من طبيب وحائك وجزار وسرّاج، وخرج بهم ونزل يفحص السّرادق، وأمر أهل النواحى بالنزول حول سرادقه.
ذكر أخبار شنشول ومقتله
قال «1» : وأما شنشول فإنه لما بلغه الخبر- وكان قد انتهى إلى طليطلة- عاد إلى قلعة رباح «2» وقد تخاذل عنه الناس؛ فعزم
على/ استجلاب الناس لنفسه فامتنعوا وقالوا: قد خلفنا مرة ولا يخلف أخرى! فعلم أنهم خاذلوه، فدعا محمد بن يعلى الزناتى وكان عزم على خذلانه فقال له: ما ترى فيما نحن فيه؟ فقال له: أصدقك عن نفسى وعن الجند ليس والله يقاتل معك أحد منهم! قال ما الدليل على ذلك؟ قال: تأمر بتقديم مطبخك إلى طريق طليطلة وتظهر الرحيل إليها فتعلم من يتبعك ومن يتخلّف عنك! قال: صدقت.
وكان ابن عومس القومس «1» مع شنشول يريد قرطبة معاقدا له يستنصر به على من بناوئه من القمامسة. فلما رأى اضطراب حال شنشول أشار عليه أن يرحل معه إلى بلده، ويكونوا يدا واحدة، ويلجأوا إلى مكان، فأبى ذلك وقال: لابدّ من الإشراف على قرطبة فإنى أرجو أننى إذا اطلعت عليها اختلفت كلمة محمد، ولى أنصار يميلون إلى سلطانى ويحبون ظهورى! فقال له القومس:
خذ باليقين ودع الظن، أمرك والله مختل وجندك عليك لا لك! فقال:
لا بدّ من المسير إلى قرطبة! فقال: أنا معك على كراهية لرأيك وعلم بخطاياك.
وسار شنشول من قلعة رباح والأخبار تتواتر بتظاهر أهل قرطبة مع ابن عبد الجيار، فلما بلغ منزل هانىء فارقه عامّة البربر ليلا، وذلك فى سلخ جمادى الآخرة، ثم فارقه الناس بعد ذلك وبقى فى نفر يسير من خدمه، وابن عومس فى نفر من النصارى،
فقال له: سر بنا من هنا قبل أن يدهمنا ما يمنعنا من ذلك! فأبى شنشول وقال: قد بعثت القاضى فى طلب الأمان لى. ثم تجبر فى أمره وسار إلى دير يعرف بدير شوش «1» ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رجب.
وبلغ خبره محمد، فأرسل إليه حاجبه فى مائتى فارس، فأرسل الحاجب ابن ذرى مولى الحكم فسبقه إلى الدير فصبحه فى يوم الجمعة، فقال شنشول لما عاينه ومن معه: ما لكم علىّ سبيل، أنا فى طاعة المهدى! فاستنزلوه من الدير ومعه ابن عومس ومن تبعهما، وأخذ نساء شنشول- وهن سبعون جارية- فبعث بهن إلى قرطبة، ولحق الحاجب بابن ذرى قبل العصر من يوم الجمعة. فلما أقبل عليهم نزل شنشول فقبّل الأرض بين يدى الحاجب مرارا، فقيل له:
قبّل حافر فرسه! ففعل وقبّل رجله ويده، ثم حمل على غير فرسه وابن عومس ساكت لم ينطق، وأشار الحاجب بانتزاع قلنسوة شنشول عن رأسه فانتزعت.
ورجع يريد قرطبة، فسار إلى أن غربت الشمس، فنزل وأمر أن يكتف شنشول فعطفت يده عطفا شديدا فقال: نفّسوا عنى وأطلقوا يدى لأستريح ساعة! فنفسوا عن يده، فأخرج من خفّه سكينا كالبرق فعوجل قبل/ أن يصنع شيئا، ثم أضجعه الحاجب وذبحه. وقتل ابن عومس وأخذ رأسيهم، وحمل جثة
شنشول، وسار بها إلى القصر بقرطبة. فأمر محمد بشقّ بطنه ونزع ما فيه وحشى بعقاقير تحفظه، ثم نصب رأسه على قناة ووقف به على باب السدة ثم ركّب على جسده، وكسى قميصا وسراويل، وأخرج فسمّر على خشبة على باب السدة. وأمر الرّسّان صاحب شرطه شنشول أن ينادى: هذا شنشول المأمون! ثم يلعنه ويلعن نفسه، وذلك فى يوم السبت لأربع خلون من شهر رجب.
وكانت مدة ولاية شنشول أربعة أشهر وأياما، وكان قبيح الفعال كثير التخليط متجاهرا بالفسق، شهد عليه بأشياء لا تصدر عن مسلم، منها أنه سمع المؤذن يقول «حىّ على الصلاة» فقال:
لو قال حىّ على الكبير لكان خيرا له! وكثير من هذا القول وما يناسبه، وانقرضت الدولة العامرية بمقتل شنشول.
قال إبراهيم بن الرقيق «1» : ومن أعجب ما رأيناه أنه كان من نصف نهار يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من جمادى الآخرة إلى نصف نهار الأربعاء الذى يليه، فتحت مدينة قرطبة وهدمت مدينة الزاهرة، وخلع خليفة وهو هشام بن الحكم، وولى خليفة وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وزالت دولة/ بنى عامر، وحدثت دولة بنى أمية، وقتل وزير وهو ابن عسفلاجة، وأقيمت جيوش من العامة، ونكب خلق من الوزراء، وولى الوزارة آخرون، وكان ذلك على أيدى عشرة رجال حجّامين وجزارين وحاكة وزبالين، وهم جند ابن عبد الجبار!
قال «1» : وفى يوم الخميس لسبع خلون من شهر رجب وصل كتاب واضح من مدينة سالم إلى محمد بسمعه وطاعته وإظهار الاستبشار بمقتل شنشول، فسرّ به محمد وشكر ذلك لواضح، وحمل إليه مالا كثيرا وكساء وفرشا وطرائف، وولّاه سائر الثغر.
قال: ولما استوثق الأمر لمحمد أسقط من جنده نحوا من سبعة آلاف وعادوا إلى بنيهم فانتفع بهم الناس، ثم نفى جماعة من من الصقالبة العامرية، ثم أخرج بعد ذلك صقالبة القصر وسدّ أبوابه. وأظهر محمد من الخلاعة واللهو والشّرب ما كان يفعله شنشول، واستعمل مائة عود ومائة بوق. وفى شعبان توفى رجل يهودىّ فأخذه محمد وأوقف عليه رجالا من أصحابه، وكان يشبه بهشام فشهدوا عند العامة أنهم وقفوا على هشام ميّتا لا جرح به ولا أثر وأنه مات حتف أنفه. وحضر الفقهاء والعدول وخلق من العامة إلى القصر وصلّوا عليه يوم الإثنين لأربع بقين/ من شعبان وأخفاه عند وزيره الحسن بن حىّ.
وفى شهر رمضان سجن محمد سليمان بن عبد الرحمن- وكان قد جعله ولىّ عهده- وسجن جماعة من قريش، وأظهر بغض البربر فكان يسبّهم فى مجلسه.