الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى هذه السنة أمر القاهر بتحريم الخمرة والغناء «1» وسائر الأنبذة، ونفى بعض من كان يعرف بذلك إلى البصرة والكوفة وأمر ببيع الجوارى والمغنيات على أنّهنّ سواذج لا يعرفن/ الغناء، ثم وضع من يشترى له كلّ حاذقة فى صنعة الغناء، فاشترى له منهن ما أراد بأبخس الأثمان. وكان القاهر مشتمهرا بالغناء والسّماع، فجعل ذلك طريقا إلى تحصيل غرضه، وهذه نهاية فى الخسّة والشّحّ، نعوذ بالله من ذلك! وفيها كان ابتداء الدولة الدّيلمية البويهية، وسيأتى ذكرها إن شاء الله تعالى «2» . وفيها أمر علىّ بن يلبق- قبل القبض عليه- بلعن معاوية بن أبى سفيان وابنه يزيد على المنابر «3» .
ودخت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة:
ذكر خلع القاهر وسمله وشىء من أخباره
كان خلع القاهر وسمله فى يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى من هذه السنة، وسبب ذلك أنّ أبا علىّ بن مقلة والحسن بن
هارون كانا قد استترا من القاهر، وجدّ فى طلبهما فلم يظفر بهما فكانا يراسلان قوّاد السّاجية والحجرية ويخوّفانهم من شرّه ويذكران غدره، وأنه لا يتمسّك بأيمانه، وأنه قبض على طريف بعد نصحه له، إلى غير ذلك. وكان ابن مقلة يجتمع بالقوّاد ليلا- تارة فى زىّ أعمى وتارة فى زىّ مكد وتارة فى زىّ امرأة- ويغربهم بالقاهر. ثم إنه أعطى منجما كان لسيما رئيس الساجية ومقدّمهم مائتى دينار،/ وأعطاه الحسن مائة دينار فكان يذكر لسيما أن طالعه يقتضى أنّ القاهر ينكبه ويقتله. وأعطى ابن مقلة.
أيضا شيئا لمعبّر «1» كان لسيما، فكان يحذّره من القاهر [بالله]«2» فازداد نفورا ونقل إلى سيما أنّ القاهر يريد القبض عليه، فجمع الساجية وأعطاهم السّلاح، وأنفذ إلى الحجرية فاجتمعوا وتحالفوا على اجتماع الكلمة وقتل من خالف منهم. فاتصل ذلك بالقاهر وبوزيره الخصيبى فأرسل إليهم «ما الذى حملكم على هذا؟» فقالوا: قد صحّ عندنا أنّ القاهر يريد القبض على سيما وقد عمل مطامير ليحبس قوادنا فيها!.
فلما كان فى يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى اجتمع الساجية والحجرية عند سيما وتحالفوا على القبض على القاهر، فقال سيما: قوموا بنا الساعة حتى نمضى العزم، فإنه إن تأخر علم به واحترز وأهلكنا! وبلغ ذلك الوزير فأرسل سلّاما الحاجب
وعيسى الحاجب وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك، فوجداه نائما قد شرب أكثر ليلته، فلم يقدر على إعلامه بذلك،. وزحف الحجرية والساجية إلى دار الخلافة، ووكل سيما بأبوابها من يحفظها، وبقى هو على باب العامّة وهاجموا الدّار من سائر الأبواب. فلما سمع القاهر الأصوات والجلبة استيقظ وهو مخمور، وطلب بابا يهرب منه، فقيل له إن الأبواب جميعها مشحونة بالرجال/ فهرب إلى سطح حمام ودخل القوم فلم يجدوه، فدلّهم خادم صغير على موضعه فقصدوه.
فإذا بيده سيف فألانوا له واجتهدوا به، فلم ينزل وقال: من صعد إلىّ قتلته! فأخذ بعضهم سهما وقال:: إن نزلت وإلا وضعته فى نحرك! فنزل حينئذ إليهم وساروا إلى الموضع الذى فيه طريف السبكرى فأخرجوه وحبسوا القاهر مكانه «1» واستدعوا فى تلك الليلة أحمد بن أبى الحسين الصابىّ فكحل «2» القاهر بعد أن أقيم بين يدى الراضى بالله، وسلّم عليه بالإمارة.
وقيل فى سبب خلعه إنه لما تمكّن من الخلافة تنّقص الساجية والحجرية على مرّ الأيام حتى كان لا يقضى لأكابرهم حاجة، ويلزمهم النّوبة فى داره، ويؤخر أعطياتهم ويغلظ لمن يخاطبه منهم فى أمر، فأقبل بعضهم ينذر بعضا ويتشاكون. ثم كان يقول
لسلامة حاجبه: أنت بين يدىّ كنز مال يمشى فأى شىء يتبيّن فى مالك لو أعطيتنى ألف ألف دينار! فيحمل ذلك على الهزل، وكان وزيره الخصيبى خائفا لما يرى منه ثم إنّه حفر فى الدار نحو خمسين مطمورة وأحكم أبوابها، فقيل إنها لمقدّمى الساجية والحجرية، فازدادوا نفورا، ثم إنّ جماعة من القرامطة أخذوا من فارس وأرسلوا إلى بغداد فحبسوا فى تلك المطامير، فتقدم القاهر سرّا بفتح الأبواب/ عليهم والإحسان إليهم، وعزم على أن يتقوّى بهم بالقبض على مقدّمى الساجية والحجرية. فأنكروا حال القرامطة وكونهم معه فى داره وهو يحسن إليهم، وذكروا ذلك لوزيره وحاجبه فقالا له، فأخرجهم من دار الخلافة وسلّمهم إلى محمد بن ياقوت وهو على شرطة بغداد فأنزلهم فى دار وأحسن إليهم. ثم صار القاهر يذمّ الساجية والحجرية فى مجلسه ويظهر كراهتهم، فلما تبينوا ذلك من وجهه وحركاته أظهروا أنّ لبعض قوادهم عرسا، فاجتمعوا بحجبته «1» وقرروا بينهم ما أرادوا وافترقوا. وأرسلوا إلى سابور خادم والدة المقتدر «2» وكان قد اختصّ به فقالوا له: قد علمت ما فعل القاهر بمولاتك وقد ركبت فى موافقته كلّ عظيم فإن وافقتنا على ما نحن عليه وتقدمت إلى الخدم بحفظه فعفا الله عما سلف منك وإلا فنحن نبدأ بك!
فأعلمهم ما عنده من الخوف والكراهة للقاهر، وأنه موافقهم، هذا وابن مقلة يسعى كما ذكرنا قال «1» : ولما قبض على القاهر هرب وزيره الخصيبى وحاجبه سلامة، فكانت خلافة القاهر بالله سنة واحدة وستة أشهر وثمانية أيام وهو أول خليفة سمل، ولم يزل فى دار السلطان إلى أن أخرج المستكفى بالله فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وردّه إلى داره فأقام/ مدة ثم خرج إلى جامع المنصور فى يوم الجمعة، وقام فعرّف النّاس نفسه وتصدّق منهم وقال: أنا خليفتكم بالأمس وسائلكم اليوم! فأعطاه ابن أبى موسى ألف درهم»
وردّه إلى داره وتوفى فى خلافة المطيع فى يوم الجمعة ثالث جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين، ودفن فى دار طاهر وله اثنتان وخمسون سنة. وكان أبيض يعلوه حمرة مربوعا أعين وافر اللحية ألثغ شديد الإقدام على سفك الدّماء، أهوج محبّا لجمع المال قبيح السياسة.
وقد تقدم من أفعاله وضربه لوالدة أخيه المقتدر ومصادرتها ومصادرة أولاد أخيه وأمهات أولاده ما يستدل به على قبح أفعاله وسوء طويّته وعدم تمسكه بما يبذله من الأيمان المغلّظة والعهود المؤكّده ثم لا يقف عند ذلك. وكان نقش خاتمه «محمد رسول الله» وكان له من الأولاد أبو الفضل عبد الصمد وأبو القاسم عبد العزيز وهو ولى عهده.