الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر انقراض الدولة العبادية
وشىء من أخبار المعتمد وشعره فى سنة أربع وثمانين وأربعمائة أتى يوسف بن تاشفين إلى سبتة ودخل العساكر إلى الأندلس مع سيرين [بن]«1» أبى بكر، فقصدوا مدينة إشبيلية، فحصروا المعتمد وضيقوا عليه. فقاتل قتالا شديدا، وظهر من شجاعته وشدّة بأسه وحسن دفاعه عن بلده ما لم يشاهد من غيره فسمع الفرنج بقصد عساكر المرابطين بلاد الأندلس، فخافوا أن يملكوها ثم يقصدوا بلادهم، فجمعوا وأكثروا وساروا لمساعدة المعتمد وإغاثته على المرابطين. فلما سمع بمسيرهم «2» فارق إشبيلية وتوجّه إلى لقاء الفرنج، وقابلهم وهزمهم، ورجع إلى إشبيلية. ودوام الحصار والقتال إلى العشرين من شهر رجب من السنة، فعظم الخطب واشتد الأمر على أهل البلد. ودخله المرابطون من واديه ونهبوا الأموال، ولم يبقوا على/ شىء حتى سلبوا الناس ثيابهم، وخرجوا من مساكنهم يسترون عوراتهم بأيديهم.
وأسر المعتمد ومعه أولاده الذكور والإناث، بعد أن استأصلوا جميع أموالهم. وقيل إن المعتمد سلّم البلد بأمان، وكتب نسخة الأمان والعهد، واشتحلفهم على نفسه وأهله وماله وعبيده وجميع ما يتعلق به. فلما سلّم إليهم إشبيلية لم يفوا له، وسيّر المعتمد
إلى مدينة أغمات «1» ، فحبسوا بها، وفعل بهم أمير المسلمين أفعالا قبيحة لم يفعلها أحد قبله. وذلك أنه سجنهم ولم يجر عليهم ما يقوم بهم، حتى كان بنات المعتمد يغرلن للناس بأجرة ينفقونها على أنفسهم، فأبان أمير المسلمين فى ذلك عن لؤم طباع وضيق نفس.
قال «2» : وبقى المعتمد فى حبسه بأغمات إلى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، فتوفى فيها، وقبره بأغمات. فكان من بنى عبّاد ثلاثة؛ القاضى محمد ابن إسماعيل، وابنه عباد، ومحمد بن عبّاد هذا، ومدة ملكهم ستون سنة، وكان له من الأولاد الذكور والإناث []«3» وكان رحمه الله من محاسن الزمان كرما وعلما ورئاسة وأخباره مشهورة وآثاره مدوّنة. وقد ذكره ابن خاقان فى «قلائد العقيان» ، وذكر شيئا من نظمه ونثره. وكان شاعره أبا بكر/ محمد بن عيسى الدانى المعروف بابن اللبّانة «4» يأتيه فى سجنه فيمدحه لإحسانه القديم إليه وبرّه الذى بقيت آثاره مع طول الزمن عليه، قال ابن اللبّانة: فأمضيت عزيمتى بعد انقضاء
الدولة فى زيارته، فوصلت إليه بأغمات، فقلت فى ذلك أبياتا عند دخولى عليه.
لم أقل فى النّقاف كان نقافا
…
كنت قلبا له وكان شغافا
يمكث الزّهر فى الكمام ولكن
…
بعد مكث الكمام يدنو قطافا
وإذا ما الهلال غاب بغيم
…
لم يكن ذلك المغيب انكسافا
إنما أنت درّة للمعالى
…
ركّب الدّهر فوقها أصدافا
حجب البيت منك شخصا كريما
…
مثل ما يحجب الدّنان السلافا
أنت للفضل كعبة ولو انّى
…
كنت أسطيع لالتزمت الطّوافا
قال: وجرت بينى وبينه مخاطبات ألذّ من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدلّ على السماح، من فجر على صباح- قال- فلما قاربت الصدر وأزمعت السفر، صرف حبله واستنفذ ما قبله، وبعث إلىّ شرف الدولة ابنه- وكان من أحسن الناس سمتا وأكثرهم صمتا، تخجله اللفظة وتجرحه اللحظة، حريصا على طلب الأدب مسارعا فى اقتناء الكتب، مثابرا على نسخ الدواوين ففتّح من خطّه فيها زهر البساتين- بعشرين مثقالا مرابطية «1» وثوبين/ غير مخيطين، وكتب مع ذلك أبياتا منها:
إليك النّزر من كفّ الأسير
…
وإن تقنع نكن عين الشّكور
تقبّل ما ندوت به جباء
…
وإن غدرته حالات الفقير
قال ابن اللبّانة فأجبته:
حاش لله أن أحيج كريما
…
يتشكّى فقرا وكم سدّ فقرا
وكفانى كلامك الرطب نيلا
…
كيف ألقى درّا وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت
…
لا سقى الله بعدك الأرض قطرا
مما قاله المعتمد من شعره فى مدة أسره- فمن ذلك- قوله:
سلّت علىّ يد الخطوب سيوفها
…
فجررن من جسدى الخصيف الأمتنا
ضربت بها أيدى الضروب وإنما
…
ضربت رقاب الآمنين بها المنى
يا آملى العادات من نفحاتنا
…
كفّوا فإن الدهر كفّ أكفّنا
وقال فى قصيدة يصف القيد فى رجليه:
تعطّف من ساقى تعطّف أرقم
…
يساورها عضّما بأنياب ضيغم
وإنّى من كان الرجال بسيبه
…
من سيفه فى جنّة وجهنم
وقال فى يوم عيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
…
فصرت كالعبد فى أغمات مأسورا
قد كان دهرك إن يأمره ممتثلا
…
فردّك الدّهر منهيا ومأمورا
/ من بات بعدك فى ملك يسرّ به
…
فإنما بات بالأحلام مغرورا
وتعرّض له أهل الكدية وهو فى الحبس فقال:
سألوا اليسير من الأسير وإنه
…
بسؤالهم لأحقّ منهم فاعجب
لولا الحياء وعزّة لخمية
…
طىّ الحشا لحكاهم فى المطلب
ورثا ولديه وقد ذبحا بين يديه فقال:
يقولون صبرا.. لا سبيل إلى الصّبر
…
سأبكى وأبكى ما تطاول من عمرى
أفتح.. لقد فتّحت لى باب رحمة
…
كما بيزيد الله قد زاد فى أجرى
هوى بكما المقدار عنّى ولم أمت
…
فأدعى وفيا قد نكصت إلى الغدر
ولو عدتما لاخترتما العود فى الثّرى
…
إذا أنتما أبصرتمانى فى الأسر
أبا خالد أورثتنى البثّ خالدا
…
أبا النّصر مذ ودّعت ودّعنى نصرى
قال: وكان الشيخ عبد الجبار بن أبى بكر بن محمد بن حمد يس توجه من المغرب إلى الأندلس فى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، فقصد المعتمد، وأقام عنده إلى أن خلع، فكتب إليه المعتمد بعد أن عاد إلى المهدية:
غريب بأقصى المغربين أسير
…
يبكّى عليه منبر وسرير
أذلّ بنى ماء السماء زمانهم
…
وذلّ بنى ماء السماء كثير
فما ماؤها إلا بكاء عليهم
…
يفيض على الآفاق منه بحور
فأجابه محمد بن حمد يس:
جرى لك جدّ بالكرام عثور
…
وجار زمان كنت منه تجير
لقد أصبحت بيض الظّبا فى غمودها
…
إناثا بترك الضّرب وهى ذكور
ولما رحلتم بالنّدى فى أكفّكم
…
وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لسانى بالقيامة قد دنت
…
ألا فانظروا كيف الجبال تسير؟
قال ولما توفى المعتمد وقف ابن اللبانة على قبره فى يوم عيد- والناس عند قبور أهاليهم- وأنشد بصوت عال:
ملك الملوك أسامع فأنادى
…
أم قد عداك عن الجواب عواد
لما خلت منك القصور ولم تكن
…
فيها كما قد كنت فى الأعياد
قبّلت فى هذا الثرى لك خاضعا
…
وتخذت قبرك موضع الإنشاد
وأخذ فى إتمام القصيدة، فاجتمع الناس كلّهم عليه يبكون لبكائه وإنشاده. وحكى بعض المعتنين بأخبارهم أن فخر الدولة ابن المعتمد على الله مرّ يوما فى بعض شوارع مدينة إشبيلية، فطمحت عينه إلى روشن قرأى وجها حسنا فتعلّق قلبه به، ولم يمكنه الوصول، فخامره الهوى ومرض من ذلك. فاتصل خبره بأبيه، فسأل عن المرأة فقيل إنها ابنة رجل خباز، فأمر الوزير أن ينفذ إلى أبيها ويخطبها منه. فأرسل إليه الوزير فعلم ما يراد به، فامتنع من الوصول إليه وقال: هو أحقّ بالوصول إلىّ فى هذه الحالة! فأعلم المقتدر بذلك فقال: تصل إليه وتخطبها. فلما وصل إليه وخطبها قال الخباز للوزير: أله صنعة؟ فقال الوزير: ابن المعتمد يطلب منه صنعة وهو سلطان الأندلس؟ فقال له: أمها طالق إن زوجتها إلا من له صناعة يستر حاله وحالها بها إن احتاج إليها.
فأعلم الوزير المعتمد فقال: هذا رجل عاقل! فأمر بإحضار الصاغة إلى القصر وعلّم فخر الدولة الصياغة وحذق فيها فلما جرى