الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال رضي الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد من أمرنا بالتفقه في الدين، وأشكر من أرشدنا إلى اتباع سنن سيد المرسلين، وأصلي وأسلم على الرسول الأمين، وآله الطاهرين وأصحابه الأكرمين.
(1 -
كتاب الطهارة)
(1 -
باب)
(هذا الباب قد اشتمل على مسائل:
الأولى: الماء طاهر ومطهر) : ولا خلاف في ذلك، وقد نطق بذلك الكتاب والسنة، وكما دل الدليل على كونه طاهرا، مطهرا، وقام على ذلك الإجماع، كذلك يدل على ذلك الأصل، والظاهر (1) ، والبراءة (2) ، فإن أصل عنصر الماء طاهر مطهر بلا نزاع، وكذلك الظهور يفيد ذلك، والبراءة الأصلية عن مخالطة النجاسة له مستصحبة:
(لا يخرجه عن الوصفين) : أي: عن وصف كونه طاهرا، وعن وصف كونه مطهرا (إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات) .
(1) هو الصفة الظاهرة.
(2)
هو بقاء ما كان على ما عليه كان.
هذه المسألة الثانية من مسائل الباب، وهي أنه لا يخرج الماء عن الوصفين إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة من النجاسات لا من غيرها، وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقواها.
والدليل عليه ما أخرجه أحمد - وصححه - وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي والحاكم (1) ، وصححه أيضا يحيى بن معين وابن حزم من حديث أبي سعيد، قال:" قيل: يا رسول الله! أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض (2) ولحوم الكلاب والنتن، فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] : " الماء طهور لا ينجسه شيء "، وقد أعله ابن القطان باختلاف الرواة في اسم الراوي له عن أبي سعيد واسم أبيه، وليس ذلك بعلة (3) ، وقد اختلف في أسماء كثيرة من الصحابة والتابعين على أقوال، ولم يكن ذلك موجبا للجهالة، على أن ابن القطان نفسه قال بعد ذلك الإعلال: وله طريق أحسن
(1) رواه أحمد (3 / 31) ، وأبو داود (67) ، والترمذي (66) ، والنسائي (1 / 174) ، والدارقطني (1 / 29) ، والبيهقي (1 / 257) .
وقد نقل الحافظ في " التلخيص الحبير "(1 / 24) تصحيح أحمد، وابن معين، وابن حزم.
ولم يروه ابن ماجة ولا الحاكم من حديث أبي سعيد.
(2)
جمع حيضة؛ وهي الخرقة التي تتقي بها المرأة دم الحيض (ش) .
(3)
• بلى، فإن الراوي المشار إليه قال فيه ابن القطان:" لا يعرف له حال ولا عين "، وقال الحافظ:" مستور "؛ فالاختلاف في اسمه يشير إلى جهالته، ولولاها لم يضر الخلاف المذكور؛ لما ذكره الشارح.
فالعلة ما ذكرنا من الجهالة، لا ما أراد أن يصوره الشارح من الاختلاف.
نعم، الحديث صحيح بلا ريب، فإن له طرقا وشواهد يقطع من وقف عليها بصحته، وقد ذكرت بعضها في " صحيح سنن أبي داود " رقم (59)(ن) .
قلت: وانظر " تقريب التهذيب "(4313) .
من هذه، ثم ساقها عن أبي سعيد.
وقد قامت الحجة بتصحيح من صححه من أولئك الأئمة.
وله شواهد، منها: حديث سهل بن سعد عند الدارقطني (1) ، ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان (2) ، ومن حديث عائشة عند الطبراني في " الأوسط "، وأبي يعلى، والبزار، وابن السكن (3) ؛ كلها بنحو حديث أبي سعيد.
وأخرجه بزيادة الاستثناء الدارقطني (4)، من حديث ثوبان بلفظ:" الماء طهور لا ينجسه شيء؛ إلا ما غلب على ريحه أو لونه أو طعمه "، وأخرجه أيضا مع الزيادة ابن ماجة والطبراني (5)، من حديث أبي أمامة بلفظ:" إن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه "؛ وفي إسنادهما من لا يحتج به.
وقد اتفق أهل الحديث على ضعف هذه الزيادة، لكنه قد وقع الإجماع
(1) في " سننه "(1 / 29) .
(2)
رواه أحمد (1 / 235) ، وابن خزيمة (91) ، وابن حبان (116 - زوائده) .
(3)
رواه الطبراني في " الأوسط "(2093) ، وأبو يعلى في " مسنده "(118 - المقصد العلي ") ، والبزار (1 / 132 - " كشف الأستار ") .
وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد "(1 / 214) : " ورجاله ثقات ".
ونقل الحافظ في " التلخيص الحبير "(1 / 17) رواية ابن السكن له في " صحاحه ".
(4)
في " سننه "(1 / 28) .
(5)
رواه ابن ماجة (521) ، والطبراني في " الكبير "(7503) ، و " الأوسط "(744) .
وقال الهيثمي في " المجمع "(1 / 214) : " وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف ".
على مضمونها؛ كما نقله ابن المنذر، وابن الملقن في " البدر المنير (1) "، والمهدي في " البحر (2) "، فمن كان يقول بحجيّة الإجماع (3) كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع؛ ومن كان لا يقول بحجيّة الإجماع كان هذا الإجماع مفيداً لصحة تلك الزيادة، لكونها قد صارت مما أُجمع على معناها وتُلقّي بالقبول، فالاستدلال بها لا بالإجماع.
(وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة (4)) :
هذه المسألة الثالثة من مسائل الباب، ووجه ذلك أن الماء الذي شرع لنا التطهير به هو الماء المطلق الذي لم يضف إلى شيء من الأمور التي تخالطه، فإن خالطه شيء أوجب إضافته إليه، كما يقال: ماء ورد، ونحوه، فليس هذا الماء المقيد بنسبته إلى الورد - مثلاً - هو الماء المطلق الموصوف بأنه طهور في الكتاب العزيز بقوله سبحانه:{ماء طهورا} [الفرقان: 48]، وفي السنة المطهرة بقوله [صلى الله عليه وسلم] :" الماء طهور "(5) ، فخرج بذلك عن كونه مطهراً، ولم يخرج به عن كونه طاهراً، لأن الفرض أن الذي خالطه طاهر، واجتماع الطاهرين لا يوجب
(1) • وكذا في " خلاصة البدر المنير "(2 / 2)، وقال فيه:" وقول الرافعي: " إن ماءها كنُقاعة الحنّاء " غريب "؛ يعني: لا يُعلم من رواه، كما نص عليه في المقدمة. (ن) .
قلتُ: وهو في أصله: " البدر المنير "(1 / 59) .
(2)
انظر " الإجماع "(10) لابن المنذر، و " البحر الزخار "(1 / 31) للمهدي.
(3)
والبحث في مسألة الإجماع طويل الفروع، كثير الذيول، أشرتُ إلى نُبذة منه في تعليقي على كتاب " حصول المأمول من علم الأصول "(ق 85) للمؤلف، يسّر الله تمامه.
(4)
كالصابون والعطر، ونحوهما.
(5)
تقدم تخريجه.
خروجهما عن الوصف الذي كان مستحقاً لكل واحد منهما قبل الاجتماع (1) .
قال في " حجة الله البالغة "(2) : وأما الوضوء من الماء المقيد الذي لا يطلق عليه اسم الماء بلا قيد فأمر تدفعه الملة بادي الرأي، نعم؛ إزالة الخبث به محتمل، بل هو الراجح (3) .
وقد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر، والعشر في العشر (4) ، والماء الجاري، وليس في كل ذلك حديث عن النبي [صلى الله عليه وسلم] البتة {
وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين كأثر ابن الزبير في الزنجي (5) ، وعلي بن أبي طالب - رضي الله تعالى - عنه في الفأرة (6) ، والنخعي والشعبي في نحو السِّنَّور (7) ، فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة، ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى.
وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطييباً للقلوب وتنظيفاً للماء، لا من جهة الوجوب الشرعي، كما ذُكر في كتب المالكية (8) ، ودون نفي هذا
(1) وهو الطهارة لكل منهما.
(2)
(1 / 185) ، للعلامة وليّ الله الدِّهلويّ.
(3)
وفي ذلك نظر وبحث؛ فانظر " المجموع "(1 / 95) .
(4)
أي: أن يكون البئر عشرة أذرع في عشرة أذرع} وانظر " فتح القدير "(1 / 92) للكمال ابن الهُمام.
(5)
رواه البيهقي في " السنن الكبرى "(1 / 266) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار "(1 / 17) .
(6)
رواه عبد الرزاق في " المصنف "(1 / 82) .
(7)
رواه الطحاوي في " شرح معاني الآثار "(1 / 17) .
وانظر " المجموع "(1 / 16) للنووي.
(8)
انظر " الذخيرة "(1 / 173) للقرافي.
وقولهم: " دون ذلك خَرْط القتاد ": مثل يُضرب للأمر الصعب الممتنع.
الاحتمال خَرْط القَتاد " اه.
وبالجملة؛ فليس في هذا الباب شي يُعتد به ويجب العمل عليه، وحديث القلتين (1) أثبت من ذلك كله بغير شبهة.
ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئاً زيادة على ما لا ينفكون عنه من الارتفاقات - وهي مما يكثر وقوعه وتعم به البلوى -، ثم لا ينص عليه النبي [صلى الله عليه وسلم] نصاً جلياً، ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم، ولا حديث واحد فيه. والله أعلم. انتهى.
قلت: وقد أطال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في تخريج حديث القُلّتين والكلام عليه جرحاً وتعديلاً، لفظاً ومعنى: في كتابه " تلخيص الحبير " في تخريج أخبار الرافعي الكبير " (2) إطالةً حسنةً فليرجع إليه (3) .
(ولا فرق بين قليل وكثير) : هذه المسألة الرابعة من مسائل الباب، والمراد بالقلة والكثرة ما وقع من الاختلاف في ذلك بين أهل العلم، بعد إجماعهم
(1) هو قوله [صلى الله عليه وسلم] : " إذا بلغ الماء قُلّتين لم يحمل الخبَث "، وسيأتي بيان الحكم عليه، والإشارة إلى طرقه ورواياته.
(2)
الصواب في اسمه: " التلخيص الحبير ".
والبحث فيه (1 / 16 - 20)، وانظر أصله:" البدر المنير "(2 / 87 - 112) لابن الملقّن.
(3)
• ويتلخص من كلامه [يعني الحافظ ابن حجر] أنه حديث صحيح، وقد صرح بذلك في " الفتح "(1 / 277) ، وهو الحق، وصححه أيضا الحاكم، وابن منده، وابن خزيمة، وابن حبان، والطحاوي، والنووي، والذهبي، فلا التفات إلى قول من ضعّفه، لأنه وهم نشأ من عدم تتبع طرق الحديث.
وقد تكلمت عليه بما يُجلّي هذه الحقيقة في " صحيح سنن أبي داود " رقم (56) . (ن) .
على أن ما غيّرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة ليس بطاهر.
فقيل: إن الكثير ما بلغ قلتين، والقليل ما كان دونهما؛ لما أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، والشافعي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وصححه الحاكم على شرط الشيخين (1) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهما -، قال:" سمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة (2) من الأرض، وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: " إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخبث ".
وفي لفظ أحمد: " لم ينجسه شيء ".
وفي لفظ لأبي داود: " لم ينجس ".
وأخرجه بهذا اللفظ (3) ابن حبان والحاكم، وقال ابن مندة: إسناد حديث القُلّتين على شرط مسلم (4) . انتهى.
ولكنه حديث قد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه، كما هو مبين في مواطنه، وقد أجاب من أجاب عن دعوى الاضطراب (5) .
(1) رواه أحمد (2 / 27) ، وأبو داود (63) ، والترمذي (67) ، والنسائي (1 / 175) ، وابن ماجه (517) ، والشافعي في " الأم "(1 / 18) ، وابن خزيمة (92) ، وابن حبان (117) ، والحاكم (1 / 132) ، والدارقطني (1 / 13) ، والبيهقي في " السنن الكبرى "(1 / 260) .
(2)
هي الصحراء. (ش) .
(3)
يُريد: لفظ أحمد.
(4)
ذكر ذلك عنه ابن الملقّن في " البدر المنير "(2 / 91) ، وعنه الزيلعي في " نصب الراية "(1 / 107) .
(5)
• وخلاصة الجواب أن الحديث صحيح إسناده، والاضطراب المزعوم فيه لا يضر، وأن متنه بلفظ:" قلتين "، وما يخالفه؛ إما شاذ، أو ضعيف لا ينهض لمعارضة النص الصحيح. (ن)
قلت: وانظر " إرواء الغليل "(23) .
وقد دلّ هذا الحديث على أن الماء إذا بلغ قُلّتين لم يحمل الخبث، وإذا كان دون القُلّتين فقد يحمل الخبث، ولكنه كما قيد حديث:" الماء طهور لا ينجسه شيء " بتلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها؛ كذلك يقيد حديث القلتين بها، فيقال: إنه لا يحمل الخبث إذا بلغ قلتين في حال من الأحوال إلا في حال تغير بعض أوصافه بالنجاسة، فإنه حينئذ قد حمل الخبث بالمشاهدة وضرورة الحس، فلا منافاة بين حديث القلتين وبين تلك الزيادة المجمع عليها.
وأما ما كان دون القلتين فهو مظنة لحمل الخبث، وليس فيه أنه يحمل الخبث قطعاً وبتّاً، ولا أن ما يحمله من الخبث يخرجه عن الطهورية، لأن الخبث المخرج عن الطهورية هو خبث خاص، وهو الموجب لتغير أحد أوصافه أو كلها، لا الخبث الذي لم يغير.
وحاصله: أن ما دل عليه مفهوم حديث القلتين من أن ما دونهما قد يحمل الخبث لا يُستفاد منه إلا أن ذلك المقدار إذا وقعت فيه نجاسة قد يحملها، وأما أنه يصير نجساً خارجاً عن كونه طاهراً فليس في هذا المفهوم ما يفيد ذلك، ولا ملازمة بين حمل الخبث والنجاسة المخرجة عن الطهورية، لأن الشارع قد نفى النجاسة عن مطلق الماء، كما في حديث أبي سعيد المتقدم وما شهد له، ونفاها عن الماء المقيد بالقلتين - كما في حديث عبد الله بن عمر المتقدم أيضاً -، وكان النفي بلفظ هو أعم صيغ العام، فقال في الأول:" لا ينجسه شيء "، وقال في الثاني أيضا - كما في تلك الرواية -:" لم ينجسه شيء "، فأفاد ذلك أن كل ماء يوجد على وجه الأرض طاهر، إلا ما ورد فيه التصريح بما يخصص هذا العام، مصرحاً بأنه يصير الماء نجساً، كما وقع في تلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها، فإنها وردت بصيغة الاستثناء من ذلك الحديث،
فكانت من المخصصات المتصلة بالنسبة إلى حديث أبي سعيد، ومن المخصصات المنفصلة بالنسبة إلى حديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - على القول الراجح في الأصول؛ وهو: أنه يُبنى العام على الخاص مطلقاً، فتقرر بهذا أنه لا منافاة بين مفهوم حديث القلتين وبين سائر الأحاديث، بل يقال فيه: إن ما دون القلتين إن حمل الخبث حملاً استلزم تغير ريح الماء أو لونه أو طعمه، فهذا هو الأمر الموجب للنجاسة والخروج عن الطهورية، وإن حمله حملاً لا يغير أحد تلك الأوصاف فليس هذا الحمل مستلزماً للنجاسة.
وقد ذهب إلى تقدير الماء القليل بما دون القلتين، والكثير بهما: الشافعي رحمه الله وأصحابه رحمهم الله، وذهب إلى تقدير القليل بما يظن استعمال النجاسة باستعماله، والكثير بما لا يظن استعمال النجاسة باستعماله ابن عمر ومجاهد، وقد روي أيضا عن الشافعية رحمهم الله، والحنفية، رحمهم الله، وأحمد بن حنبل رحمه الله، ولا أدري: هل تصح هذه الرواية أم لا؟ ! فمذاهب هؤلاء مُدونّة في كتب أتباعهم، من أراد الوقوف عليها راجعها.
واحتج أهل هذا المذهب بمثل قوله - تعالى -: {والرُّجْز (1) فاهْجُر} ، وبخبر الاستيقاظ، وخبر الولوغ، وأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم، وهي جميعها في " الصحيح "، ولكنها لا تدل على المطلوب، ولو فرضنا أن لشيء منها دلالة بوجه ما، كان ما أفادته تلك الدلالة مقيداً بما تقدّم؛ لأن التعبد إنما هو بالظنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع، على أنه لا يبعد أن يقال: إن العاقل لا يظن استعمال النجاسة باستعمال الماء إلا إذا خالطت الماء
(1){الرجز} ؛ قرئ بضم الراء وكسرها؛ ومعناه العذاب، والمراد بهجر العذاب: هجر أسبابه، فلا حجة في الآية على ما ادعوا. (ش)
بجِرمها أو بريحها أو بلونها أو بطعمها مخالطة ظاهرة توجب ذلك الظن.
ولا شك ولا ريب أن ما كان من الماء على هذه الصفة ينجس، لأن المخالطة إن كانت بالجِرم فالمتوضئ مستعمل لعين النجاسة، وإن كانت المخالطة بالريح أو اللون أو الطعم فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه.
والحاصل: أنهم إن أرادوا بقولهم: إن ظُنّ استعمال النجاسة باستعماله فهو القليل، وإن لم يظن فهو الكثير: ما هو أعم من عين النجاسة وريحها ولونها وطعمها: فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه إلا من جهة أن هؤلاء اعتبروا المظنّة وأهل المذهب الأول اعتبروا المَئنّة، ولكن لا يخفى أن المظنة إذا كانت هي الصادرة من غير أهل الوسوسة والشكوك، فهي لا تكاد تخالف المِئنّة (1) في مثل هذا الموضع، وإن أرادوا استعمال العين فقط أو عدم استعمال العين فقط، فهو مذهب مستقل غير ذلك المذهب، ولكن الظاهر أنهم أرادوا المعنى الأول، ويدل على ذلك أنه قد وقع الإجماع على أن ما غيّر لون الماء، أو ريحه، أو طعمه من النجاسات أوجب تنجيسه - كما تقدم تقريره -، فأهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك لدخولهم، في الإجماع، بل هو مصرِّح لحكاية الإجماع في " البحر ".
فتقرر بهذا أنهم يريدون المعنى الأول، أعني الأعم من العين والريح واللون والطعم ثبوتاً وانتفاء، وحينئذ؛ فلا مخالفة بين المذهبين، لأن أهل المذهب الأول لا يخالفون في أن استعمال المطهر لعين النجاسة مع الماء موجب
(1) المِئنّة: العلامة. (ش)
لخروج الماء عن الطهورية خروجاً زائداً على خروجه عند استعمال ما فيه مجرد الريح أو اللون أو الطعم؛ فتأمل هذا فهو مفيد، بل مجموع ما اشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء، وبين الأدلة الدالة عليها على هذه الصورة التي لخصتها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم، وهذه المسألة هي من المضايق التي يتعثر في ساحاتها كل محقق، ويتبلّد عند تشعب طرائقها كل مدقق.
وقد حررها الماتن في سائر مؤلفاته (1) تحريرات مختلفة لهذه العلة، وأطال الكلام عليها في " طيب النشر في المسائل العشر ".
وقد استدل بعض أهل العلم بمثل حديث: " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون "، ومثل حديث:" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، ولا يستفاد منهما إلا أن التورع عند الظن من الإقدام أولى.
وأهل هذا المذهب يوجبون العمل بذلك الظن حتماً وجزماً، وقد عرفت أن أدلة المذهب الأول على الوجه الذي لخصناه تدل على المذهب الثاني، فإبعاد النُّجعة إلى مثل حديث:" استفت قلبك " و: " دع ما يريبك " ليس كما ينبغي {
فإن قيل: إنه قصد الاستدلال على مجرد العمل بالظن من غير نظر إلى هذه المسألة، فيقال: أدلة العمل بالظن في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وأكثر منها أدلة النهي عن العمل به، وهكذا التعويل على حديث الولوغ والاستيقاظ ونحو ذلك لا يفيد.
وقد حُكي في تحديد الماء الكثير أقوال، منها: أن الكثير هو المستبحر}
وقيل: ما إذا حُرِّك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر {
وقيل: ما كان مساحة مكانه كذا} وقيل غير ذلك!
(1) ك " نيل الأوطار "، و " وبل الغمام "، و " السيل الجرار "، و " الفتح الرباني ".