الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمسك بالأصل، فكيف والأدلة عموما وخصوصا ناطقة بما ذهبوا إليه؟ !
(
[الكلام في الجزية والعشور على أهل الذمة] :)
وأما أهل الذمة؛ فالذي ثبت عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وشرعه؛ هو أخذ الجزية من أهل الذمة بدلا عن دمائهم، وصالح بعض أهل الذمة على شيء معلوم يسلمونه في كل سنة، وهو الجزية أيضا، فقد تكون الجزية مضروبة على كل فرد من أفراد أهل الذمة كذا، وقد تكون مضروبة على الجميع بمقدار معين.
وأما الاستئناس لقول عمر رضي الله عنه بكونه بمشاورة الصحابة؛ فليس ذلك مستلزما لكونه إجماعا، وليس الحجة إلا إجماعهم، وليس فيه حجة على ثبوت مثل هذا التكليف الشاق على أهل الذمة، ولم يثبت هذا عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] .
وأما حديث: " ليس على المسلمين عشور، إنما العشور على اليهود والنصارى ": فهذا الحديث هو أشف ما يستدل به على المطلوب، وقد أخرجه أبو داود من طرق وفي بعضها مقال.
وأخرجه أحمد، والبخاري في " التاريخ "، وساق الاضطراب في سنده (1)، وقال: لا يتابع عليه، والراوي له عن النبي [صلى الله عليه وسلم] رجل بكري، وهو مجهول، ولكن جهالة الصحابي غير قادحة، كما قرره شيخنا العلامة الشوكاني، في الرسالة التي سماها " القول المقبول في رد المجهول من غير صحابة الرسول ".
(1) ضعفه ابن القيم في " تهذيب السنن "(4 / 353) .
وفي بعض ألفاظ هذا الحديث عند أبي داود: " الخراج "، مكان:" العشور "؛ ولكن إنما يتم الاستدلال بهذا الحديث على المطلوب؛ لو كان المراد به هو نصف عشر ما يتجرون به كما زعموه، وليس كذلك؛ بل فيه خلاف.
فقال في " القاموس ": " عشّرهم يُعشّرهم عشراً، وعُشوراً: أخذ عشر أموالهم ". اه.
وقال في " النهاية ": " العشور جمع عشر؛ يعني: ما كان من أموالهم للتجارات دون الصدقات، والذي يلزمهم من ذلك عند الشافعي ما صولحوا عليه وقت العهد، فإن لم يصالحوا على شيء، فلا تلزمهم إلا الجزية.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن أخذوا من المسلمين إذا دخلوا بلادهم للتجارة؛ أخذنا منهم إذا دخلوا بلادنا للتجارة، ومنه:" احمدوا الله إذ رفع عنكم العشور "(1) ؛ يعني: ما كانت الملوك تأخذه منهم.
ومنه أن وفد ثقيف اشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا؛ أي: لا يؤخذ عشر أموالهم (2) . اه كلام " النهاية ".
(1) رواه ابن أبي شيبة في " المصنف "(3 / 197) ، وأحمد (1 / 190) عن سعيد بن زيد بسند ضعيف.
(2)
معنى: " لا يحشروا "؛ أي: لا يندبون إلى المغازي، ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم.
وأما: " لا يُجبوا "؛ فإنه بضم الياء وفتح الجيم وتشديد الباء المضمومة، وأصل التجيبة أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: هو أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم، وقيل: هو السجود.
والمراد بقولهم: لا يجبوا: أنهم لا يصلون.
ولفظ الحديث يدل على الركوع؛ لقوله في جوابهم: ولا خير في دين ليس فيه ركوع. اه ملخصا من " النهاية ". (ش)
وقال الخطابي مثل ما نقله صاحب " النهاية " في أول كلامه.
فحصل من جميع هذا أن العشور إما العشر، أو المال المصالح به، أو ما يؤخذ من تجار أهل الذمة إن أخذوا من تجارنا، أو ما يأخذه الملوك من الجبايات والضرائب، أو الخراج كما في بعض روايات الحديث، ومع هذا الاحتمال لا ينتهض للاستدلال به.
والحاصل: أن الأصل في أموال الناس - مسلمهم وكافرهم - التحريم: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ؛ فلا بد من دليل يدل على تحليل المطلوب؛ لأنه خارج عن الأقسام المسوغة؛ إذ ليس بجزية، ولا مال صلح، ولا خراج، ولا معاملة، ولا زكاة؛ لعدم صحتها منهم؛ لأن الكفر مانع.
وأظهر ما يقال في معنى العشور؛ أحد أمرين: إما الخراج؛ لأن بعض ألفاظ الحديث يفسر بعضا، أو الضرائب التي تضرب عليهم - كالجزية ومال الصلح -، فيكون المراد أن المسلمين ليس عليهم الخراج؛ أي: لا يوضع في أموالهم ابتداء، وليس عليهم ضريبة في رقابهم أو أموالهم كاليهود، وحينئذ لم يبق ما يصلح للتمسك به على جواز أخذ نصف عشر أموال تجار أهل الذمة.
ومما يؤيد ما ذكرناه في معنى العشور: ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]-: " لا تصلح قبلتان في أرض، وليس على مسلم جزية "(1) ؛ فيمكن أن يكون مفسرا لحديث: " ليس على المسلمين عشور "، ولم يثبت عن النبي
(1) ضعيف؛ فانظر " الإرواء "(1257) .
-[صلى الله عليه وسلم]- تقدير ما يؤخذ من أهل الذمة؛ إلا ما في حديث معاذ: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان، والحاكم.
وهذا الحديث - وإن كان فيه مقال (1) - فهو لا يخرج به عن صلاحيته للاستدلال، فالوقوف على هذا المقدار متعين لا تجوز مجاوزته.
وأما النقص منه - إذا رآه الإمام أو المسلمون - فلا بأس به؛ لأن الجزية حق لهم؛ يجوز لهم الاقتصار على بعض ما وجب.
والظاهر أنه لا فرق بين الغني والفقير والمتوسط في أنهم يستوون في جواز أخذ هذا المقدار منهم؛ لأن الجزية لما كانت عوضا عن الدم كان ذو المال كمن لا مال له.
وأما من ذهب إلى أنه يجب على الفقير نصف ما على المتوسط، وعلى المتوسط نصف ما على الغني، وجعلوا الغني من يملك ألف دينار أو ما يساويها، ويركب الخيل، ويتختم الذهب، والمتوسط دونه، تمسكا بما روي عن علي؛ أنه كان يجعل على المياسير من أهل الذمة ثمانية وأربعين درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرون، وعلى الفقراء اثني عشر: فهذا - مع كونه غير مرفوع إلى النبي [صلى الله عليه وسلم]- لا تقوم به الحجة؛ لأن في إسناده أبا خالد الواسطي؛ ولا يحتج بحديثه إذا كان مرفوعاً، فكيف إذا كان موقوفاً؟ !
وكذلك لا تقوم الحجة بما أخرجه في " الموطأ " عن عمر: أنه كان يأخذ
(1) ولكن له طرقا وشواهد؛ فانظر " الإرواء "(795) .
على أهل الذهب من أهل الذمة الجزية أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما؛ لأنه فعل صحابي لا يصلح للاحتجاج به، فالاقتصار على ما في حديث معاذ متحتم.
ويؤيده ما أخرجه البيهقي (1) عن أبي الحويرث - مرسلاً -: أن النبي [صلى الله عليه وسلم] صالح أهل أيلة وكانوا ثلاث مئة رجل على ثلاث مئة دينار.
وأما ما روي عن الشافعي، قال: سمعت بعض أهل العلم من أهل نجران يذكر أن قيمة ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار: فهذا - مع كونه ليس بمرفوع ولا موقوف ولا معلوم قائله - لا ينافي ما ذكرنا؛ لأن المأخوذ من أهل نجران إنما كان صلحا بمقدار من المال على جميعهم، ومحل النزاع ما يضرب على كل فرد ابتداء.
ثم نقول: أموال أهل الحرب على أصل الإباحة، يجوز لكل أحد أخذ ما شاء منها كيف شاء قبل التأمين لهم، فيجوز للسلطان أن يأذن لهم بدخول بلاد المسلمين والتجارة فيها على ما شاء من قليل أو كثير، يأخذه من أموالهم؛ إنما الشأن في أخذ مثل ذلك من المسلمين الذين يسافرون للتجارة من أرض إلى أرض، فيأخذ منهم أهل الأرض التي يصلون إليها شطرا من أموالهم من غير نظر إلى كون ذلك زكاة تجارة ولا غيرها؛ بل لا يعتبرون في استحلال أخذه؛ إلا مجرد خروجهم من سفائن البحر، أو وصولهم من البر إلى حدود الأرض التي يخرجون إليها، فهذا عند التحقيق ليس هو إلا المكس من غير شك ولا شبهة، وقد حققت المقام في " إكليل الكرامة "؛ فليراجع.
(1) في " السنن الكبرى "(9 / 195) ، وفي " معرفة السنن والآثار "(13 / 374) ؛ من طريق الشافعي في " الأم "(4 / 179) ؛ وفي سنده - فوق إرساله! - إبراهيم بن محمد - شيخ الشافعي -، وهو متروك.